عندما سمع الكاتب مارك تواين عبارة “نحن هنا لكي نربح العقول والقلوب” سخر
منها وأعلن معارضتها . العبارة استخدمت من قبل القوّات الأمريكية حين وصلت
لتحرير الفلبين من “الاستعمار” الإسباني في العقد الأخير من القرن التاسع
عشر . ما لم يكن الكاتب الأمريكي المشهود له بروايات مثل “مغامرات توم
سوير” و”الحياة على المسيسيبي” يدركه، وهو الذي عاصر تلك الحرب (إذ وُلد
سنة 1835 وتوفي سنة 1910)، أن العبارة ذاتها ستستخدم لوصف الوجود الأمريكي
على تربة كل دولة دخلتها القوّات الأمريكية تحت عذر ما، فهي تكررت حين دخلت
أمريكا الحرب في فيتنام، وتكررت مع تدخلاتها في دول أمريكا الوسطى، ثم
تكررت حين تمددت لاحتلال العراق وأفغانستان .
هذا لم يكن التكرار الوحيد الذي لاحظه المخرج الأمريكي جون سايلس وهو يكتب
ثم يحقق فيلمه الجديد “أميغو”: “في كل مرّة كان هذا القدوم يتحوّل من
الرغبة في تحرير بلد ما من سيطرة أجنبية أو محلية أخرى، إلى حرب ثم احتلال
كاملين” .
“أميغو” يدور حول بضع شخصيات خيالية، أولها رافاييل (يقوم بالدور الممثل
الفلبيني جوول توري) . أحد أعيان البلدة التي تقع الأحداث فيها ورب أسرة
مؤلفة من زوجته وولديه . وهو، حين يسمع بقرب قيام القوّات الأمريكية
بالهبوط فوق التراب الفلبيني في منطقة ليست بعيدة عن بلدته، يدرك أن الأمور
لا يمكن أن تسير إلى الأقل .
وترأس شقيقه سيمون مجموعة من المقاتلين التابعين لفصيل من الجيش وكان انفصل
عن القيادة العامّة لتأييد الزعيم السياسي المحلّي إيميليو الذي اعتبر أن
الوجود الأمريكي موجّه ضدّه . فالمرحلة تعتمد على مصالح وظروف متشابكة لكن
الدراما تخلص إلى رصد ما سيحدث في تلك البلدة (واسمها سان أيزيدرو) خصوصاً
بعدما تم تحصينها لمقاومة الغزاة .
من بين من يتم تجنيدهم مغامرون أمريكيون مناهضون للنظام الأمريكي يؤديهم
عدد من الممثلين الأمريكيين بينهم د . كوالز وستيفن تايلور وجيمس باركس،
لكن المخرج أكثر وعياً من أن يقسّم الأدوار على نحو تقليدي، فإذا بالغزاة
أشرار عتاة والمدافعون عن البلاد كلهم أبطال مجاهدون . في فيلمه يقدّم رؤية
أكثر واقعية لوضع يقوم سريعاً على العنف والعنف المضاد . هناك أمريكيون
يقومون بالتعذيب وهناك فلبيون لا يقلّون عنهم رغبة في العنف (هناك مشهد
لمجموعة منهم يقبضون على مجموعة من العمّال الصينيين ويذبحونهم) .
مثل أفلام سايلس السابقة، لا يتوقّع لهذا الفيلم الخروج من حلقة عروضه
الأمريكية المحدودة، ولم يتم رسم خريطة توزيع عالمية كما حال معظم الأفلام
الأمريكية الأخرى . السبب هو أنه فيلم آخر مستقل من بين أعماله الكثيرة
التي حققها جون سايلس في هذا الإطار .
سايلس هو المخرج الذي سبق له أن قدّم أفلاماً بحثت في قضايا ومسائل أمريكية
عويصة مثل العنصرية في “النجم الوحيد” وهضم حقوق العمّال في “مدينة
المناجم” وتسليح المليشيات الحكومية اللاتينية في “رجال مسلّحون” . وكلّها
تميّزت بسيناريو مكتوب بمهارة تقنية وبمضامين تبحث في أمريكا الداخل
وأمريكا الخارج .
أيضاً في الجوار فيلم فلبيني عن الإحتلال عنوانه “محاربو قوس القزح” وهو
روائي من أربع ساعات يتناول فيه نضال الفلبين للتحرر ضد الاحتلال الياباني
في ثلاثينات القرن الماضي .
الفيلم الذي سيعرض في مهرجان البندقية والذي سيبدأ دورته الجديدة يوم 31
أغسطس/ آب الجاري، تكلّف 24 مليون دولار، وقيل فيه إنه فيلم حربي ذي نفس
ملحمي يتوقّف على نجاحه المستقبل القريب للسينما الفلبينية التي تعاني
خضّات تجارية جعلتها أقل إنتاجاً مما خطط لها في العامين الماضي والحالي .
في كل الأحوال، فلبين في البال وتاريخها المليء بالحروب المتعاقبة فقد
غزتها القوّات الصينية بعد اليابانية، وذلك خلال الحرب العالمية الثانية
وحتى الخمسينات . وحول ذلك الغزو، والسعي الأمريكي لتحرير الفلبين من
الصينيين أيضاً، أقدمت هوليوود على إنتاج عدد كبير من الأفلام الحربية التي
وقعت أحداثها في جنوب شرق آسيا .
العدو في هذه الأفلام كان الصينييون (لمصلحة الفلبين حيناً) واليابانيين
(لمصلحة الصينيين) حيناً آخر . وما لبث القتال أن امتد لمواجهة الكوريين
أوّلاً، ثم الكوريين الشماليين ثانياً .
أسطورة "فاوست" تظهر في مهرجان
البندقية
قيام المخرج الروسي المنتمي إلى مدرسته الخاصّة، ألكسندر زوخوروف، بتقديم
الأسطورة الألمانية “فاوست”، عن الرجل الذي باع نفسه للشيطان، يعد احتفالاً
خاصّاً، لا بالحكاية الخيالية ذاتها، بل لحقيقة أن معالجات زوخوروف
للشخصيات التي قدّمها في أفلامه، سواء أكانت خيالية أو واقعية، دائماً ما
جاءت مختلفة من حيث تركيبتها الخاصّة، كما من حيث أجوائها وبيئاتها
المميّزة .
في الأصل هي حكاية تناولتها الأساطير الشعبية الألمانية وانتقلت منها إلى
الآداب والأعمال الفنية منذ قرون عديدة . وهي ليست فقط عن شخص رضي بأن
يتحالف مع الشيطان ، بل أيضاً، وفي الداخل، عن كيف يدخل الصراع بين الخير
والشر إلى عمق الإنسان المقبل على تسليم كل شيء للشر .
لم يستطع أحد تحديد مصدر هذه الأسطورة لكن الوثيقة المحفوظة الأولى تعود
إلى عام 1587 ونشرت تحت عنوان “تاريخ فون د .يوهان فوستن” . ثم ظهر كتاب في
سنوات متباعدة من القرن السادس عشر مع اختلافات وتباينات مصحوبة بإضافات
صغيرة . بعض المؤرخين الألمان ينفون أن الأمر أسطورة ويقولون إنها مجرد
رواية وضعها يوهان جورج فاوست (1480-1540) في عام 1509 .
وبعد نحو مئتي سنة قام يوهان وولفغانغ غوتيه بوضع نسخته التي اقترنت باسمه
في بعض المراجع أكثر مما اقترنت باسم أي من كاتبيها السابقين . كما عالجها،
وبقدر كبير من النجاح الأدبي، نقل الكاتب توماس مان في عام 1947 فحواها
وأحداثها إلى الزمن المعاصر . في ذلك الحين، كانت الحرب العالمية قد انتهت،
ما جعل الرواية تستمد بصماتها ورموزها مما حدث من صعود وسقوط النازية
الألمانية .
سينمائياً، سبق المخرج الألماني ف . و . مورناو آخرين كثيرين بتحقيق فيلم
روائي طويل مقتبس من الرواية المذكورة وذلك سنة ،1926 قبله نقل الأمريكي
إدوين س . بورتر الرواية إلى فيلم قصير سنة 1909 وبعده بعام، قام هنري
أندرياني بمحاولة أخرى في هذا المجال .
لكن التاريخ يعلمنا أن مخرجاً بريطانياً اسمه برترام فيليبس سبق مورناو إلى
إنجاز ما يُعتقد أنه أوّل فيلم روائي عن “فاوست” وذلك سنة 1923م .
وبعد ذلك، ومن الثلاثينات وما بعد، تزاحمت الأفلام المقتبسة عن “فاوست” أو
الدائرة برحاها . فهناك نسخة يوغسلافية مجهولة المخرج تم إنجازها سنة ،1934
وهناك نسخة المخرج بيتر غورسكي سنة ،1960 وأخرى للمخرج ستيفن رمبلوف سنة
،1980 وذلك من بين نحو ثلاثين نسخة أخرى .
بالنسبة إلى نسخة زوخوروف الجديدة، فإن السينمائي الروسي المعروف سيعرض
رؤيته الخاصّة في إطار مهرجان البندقية في دورته الثامنة والستين التي
ستنطلق في الواحد والثلاثين من الشهر الجاري، هذه الرؤية الخاصّة هي ما
جعلت المخرج مطلوباً بسبب قراءته الإنسانية المتميّزة للشخصيات وللظروف
السياسية والتاريخية المحيطة بها، أفلامه ليست سياسية، ولو أن التفسير
السياسي ليس بعيداً عنها . وهو سبق وقدّم شخصيات هتلر ولينين والإمبراطور
هيروهيتو . ناظراً إلى البعد الإنساني من الأزمة الأخلاقية التي عاناها كل
منهم .
وآخر فيلم شاهدناه لهذا المخرج كان “أم” . عنوان بسيط وكبير في كيان فيلم
يتحدّث عن أم جندي روسي مجنّد للخدمة على الجبهة في تشيشينيا . تصل إلى
المعسكر والبلدة القريبة، وتجد في الشيشينيات صداقة لم تكن تتوقّعها . من
بعيد نسمع طلقتي مدفع . هذه المرأة لا تستطيع، كروسيا القديمة، إلا أن تكون
أمّاً لكل جندي روسي فرضت عليه الظروف أن يشترك في حرب لا يتمنّاها أحد .
براد بيت بطل حقيقي
تحول الممثل الأمريكي براد بيت الذي غالباً ما يؤدي دور البطل في أفلامه
إلى بطل حقيقي، بعدما أنقذ ممثلة ثانوية تشارك في فيلمه “الحرب العالمية
زد” إثر سقوطها على الأرض وتعرضها لخطر أن يدوس عليها المئات من الفارين من
هجوم للأموات الأحياء خلال التصوير .
وذكرت صحيفة “الصن” البريطانية أمس الأول أن 700 ممثل ثانوي في الفيلم
كانوا يصورون مشهداً يركضون خلاله هرباً من هجوم للأموات الأحياء “زومبي”
في الأستوديو في مدينة غلاكسو الإسكتلندية، حين وقعت إحدى الممثلات على
الأرض وكاد زملاؤها يدوسون عليها .
غير أن بيت سارع إلى الإمساك بها ومساعدتها في الوقوف على قدميها وركض
مسرعاً من دون أن يتكلم معها لأن التصوير كان لا يزال جارياً . وأعربت
المرأة عن امتنانها لبيت على الرغم من جرح ركبتها .
وكان العديد من الممثلين الإضافيين في الفيلم تعرضوا لإصابات أثناء
التصوير، ودعا بيت الذي يؤدي دور الخبير بالأمم المتحدة “غيري لاين” ومخرج
الفيلم مارك فروستير جميع العاملين الى التزام الحذر .
سينما بديلة
أول فيلم بديل
في عام 1960 تم عرض فيلم فرنسي بعنوان “أتلانتي” في مهرجان نيويورك حيث كتب
عنه الناقد الأمريكي نسنت كانبي في “نيويورك تايمز” أنه “النقطة الأكثر
سطوعاً في المهرجان” . لكن الفيلم لم يكن حديثاً بل اكتشافاً لعمل أخرجه
جان فيغو سنة 1934 ولقي فشلاً ذريعاً . وبعد أيام من سحبه من العروض مات
المخرج الذي لم يهتم به أحد طوال حياته، حتى النقاد الفرنسيين كانوا قليلي
الاكتراث بما يحاول أن يحققه من أعمال .
كان “أتلانتى” فيلمه الثالث بعد عملين من نواة السينما التجريبية الفرنسية،
وأوائل ما تم إنتاجه من أفلام بديلة حول العالم وهما
A Propose de Nice
سنة 1931 و
Zero de Conduite
سنة 1933 كلاهما استقبلا بجفاء من قِبل الصحافة الفرنسية التي تحدّثت، حسب
تقرير لاحق ورد في مجلة “برميير” سنة 1991 بقلم ج . هوبرمان، عن المخرج
ومشاكساته وطباعه الجافّة وميوله التدميرية للذات .
حينه، لم يدرك أحد، على ما يبدو، أن المخرج كان يحاول تحقيق سينما غير
مسبوقة وككل جديد ووجه باستغراب ونفور .
أفلام فيغو الأربعة صوّرها له بوريس كوفمان، الشقيق الأصغر للسينمائي
التجريبي السوفياتي دزيغا فرتوف الذي انتقل بعد ذلك إلى الولايات المتحدة
وصوّر فيها بضعة أعمال من بينها فيلم إيليا كازان “على واجهة الماء” .
والحقيقة أن حياة فيغو لم تكن سهلة منذ بدايتها . والده كان مثقّفاً
فوضوياً شنق نفسه في السجن بعدما قضت عليه محكمة فرنسية خلال الحرب
العالمية الأولى، ولسبب ما نجد أن والده كان يكنِي نفسه بمغويل ألميريادا،
لكن ما يتبدّى واضحاً أن موته، وجان فيغو كان لا يزال في الثانية عشر من
عمره، جعل الصبي شخصاً معادياً للنظام وللسُلطة حتى مماته .
في “أتلانتي” سنحت الفرصة أمام جان فيغو لكي يتعامل مع نجوم الفترة:
الفرنسي ميشيل سيمون والألمانية ديتا بارلو . الأول قبل أن يضع نفسه بتصرّف
فيغو لأن فيلم فيغو السابق كان مُنع .
الفيلم يتناول قصة الفتاة الجميلة التي تزوّجت من قبطان “أتلانتي” الذي
أرادها أن تكره حياة البر وتصبح أسيرة البحار مثله . ورغم ذلك، حين تحط
السفينة في أحد الموانئ تجد نفسها منجذبة إلى الأرض وإلى شاب تلتقي به، ولم
يُثر السيناريو الذي تم تقديمه إلى المخرج إعجابه، وجده ثقيلاً ومصطنعاً
لكنه كان مضطراً لتصويره . وما فعله خلال التصوير وكان له تأثيره الإيجابي
في العمل، هو نقد المؤسسات كلّما كان ذلك ممكناً ومنح الشخصيات تركيبات
نفسية وشخصية أكثر كثافة مما كانت عليه في الأصل.
م.ر
merci4404@earthlink.net
http://shadowsandphantoms.blogspot.com
الخيج الإماراتية في
28/08/2011
أربعة مخرجين فلسطينيين ينشدون التنويع
محمد رضا
حين طلبت محطة الجزيرة للأطفال من المخرج الفلسطيني
رشيد مشهراوي إنجاز فيلم من اختياره يدور حول موضوع الأطفال بصورة عامّة،
اختار
النزول إلى الشوارع البغدادية وتصوير فيلم أسماه بـ "أجنحة صغيرة" يرصد فيه
حياة
عدد من الأولاد الذين يعيشون ظروفاً مريرة في بحثهم عن حياة أفضل قد لا
يحققونها.
وهو اختار هذا الجانب من الموضوع لبضعة أسباب من بينها، وكما قال: وجود
تقارب بين
أطفال بغداد وأطفال غزّة... تقارب في الواقع والمصير..
لكن الاختيار يبدو، للناقد، مرتبط بأسلوب المخرج
الفلسطيني الذي أنجز حتى الآن أكثر من عشرة أفلام تتابعت على مسار واحد
حثيث. إنه
أسلوب واقعي على الطريقة الإيطالية من دون أن يمشي بالضرورة على وقعها.
همّه في
أفلامه، من "حتى إشعار آخر" (1994) و"حيفا" (1996) ووصولاً
إلى فيلمه الروائي
الطويل الأخير إلى الآن "عيد ميلاد ليلى" معايشة شخصياته في حس
تتابعي سليم غير
مستعجل يلتقط فيه واقع كل يوم. هذا معكوس بجدارة في فيلمه القصير المذكور
الذي كان
واحداً من بضعة أفلام أنجزتها المحطّة من إخراج سينمائيين مشهود لهم من
بينهم أيضاً
الفلسطيني ايزادور مسلّم والمصري أسامة فوزي والتونسي نوري بوزيد والسوري
محمد
ملص..
رشيد مشهراوي يشكّل، إلى جانب ثلاثة مخرجين فلسطينيين آخرين، رباعياً هو
الأكثر شهرة بين المتواجدين من السينمائيين الفلسطينيين في
ساحة الفيلم الروائي.
هناك هاني أبو أسعد وميشيل خليفي وايليا سليمان. والمثير للملاحظة ليس أن
لكل
طريقته في التعبير، فهذا بديهي، إنما أسلوبه البصري المختلف. أقرب هذه
الأساليب لما
تقدّم هو ذاك الذي مارسه هاني أبو أسعد في فيلميه "عرس رنا"
و"الجنة الآن": إنه
أيضاً أسلوب واقعي، لكنه لا ينشد الغوص في مفردات هذه الواقعية
بل يسعى لتأليف فيلم
بمفردات كلاسيكية غير محلّية يعمد فيه إلى التأكيد على دوريْ الكتابة
والمونتاج
تاركاً الكاميرا الالتزام بالمكان من دون أن تستدعي المقارنات الواقعية
بالضرورة.
بالنسبة لميشيل خليفي، فإن أفلامه شهدت اختلافاً
بين بداياتها وما بعد.. ففي سنة 1980 حينما أنجز أول أفلامه "الأرض
الخصبة" عمد
إلى أسلوب الفيلم التسجيلي لينقل حياة الفلسطينيين الواقعية قبل أن تغيب عن
الذاكرة
بدورها. هذا الأسلوب كرره في فيلم "عرس في الجليل" ولو أن الفيلم في واقعه
روائياً.
لكنه في أعماله اللاحقة، أخذ يميل إلى
السينما الأوروبية وطرق تعابيرها اللغوية.
فيلمه الأخير "زنديق" هو أكثر أفلامه تحرراً من سطوة الفيلم الوثائقي
ودخولاً في
صرح سينما الموجة الفرنسية الجديدة مستخدماً في ذلك قواعد سينما المؤلّف
وبصريات
العمل الباحث عن الذات في ذات الشخص الذي يقود الأحداث.
فيلمه الأخير "زنديق«" يمكن اعتباره منحى جديداً عن
أفلامه السابقة التي دعت إلى تقديس التراب والتراث والتاريخ.
لكنه ليس منحى
متغرّباً عن للمستجدّات التي وقعت في الساحة الفلسطينية ذاتها خلال السنوات
العشر
الأخيرة على الأقل، وهي السنوات التي لم يحقق فيها خليفي سوى فيلم واحد.
فيلم
وثائقي من 270 دقيقة شارك إخراجه مع (الإسرائيلي) إيال سي?ان
تناول فيه وضع الحياة
السياسية والمعيشية للفلسطينيين حيال ما كانت تقوم به القوّات الإسرائيلية
من
تعسّف على الحواجز وانقضاض على الأملاك والأراضي العربية قبيل إنجاز
الجدار القائم
حالياً
رحلة ليلية لمخرج (يمثّل خليفي ويقوم به محمد بكري) تقوم مقام الترميز
إلى حالة البطل الوجدانية جيّداً. خليفي يضع في إطار زمني
محدد (ليلة) بضع محطّات
لتاريخ بكامله ويرمي لاستخدام المكان (الناصرة ذات الغالبية المسيحية)
لتصوير ما حل
به من تراكمات أزمة الوجود داخل الوطن. المدينة الآن مكان غير آمن يرتع فيه
اللصوص
والعصابات. الإسرائيليون سرقوا الماء من نبع "مريم العذراء" حتى نشف
(وباعوه في
قناني) جنودهم مرحّبون بهم في داخل المدينة أكثر من "ميم" نفسه والمجتمع
الفلسطيني
عاد الى التركة الطبقية: قلّة تحفل حياتها بالترف، وغالبية بالعوز "ميم"
مرتبط
بالأولى ومنتم -فجأة وهو يبحث عن مأوى ويتعامل لاحقاً مع عصابة خطف أطفال-
للطبقة
التحتية..
أما المخرج إيليا سليمان، فهو انطلق أيضاً من
السينما التسجيلية (عبر فيلم بعنوان "مدخل لنهاية حوار" سنة 1990 (بعد عشر
سنوات من
بداية ميشيل خليفي) وحين انتقل إلى العمل الروائي سنة 1996، بعد فيلم
وثائقي آخر
هو "حرب الخليج... ماذا بعد؟" حافظ على العين الراصدة التي تشكّل عماد
السينما
التسجيلية، لكنه أضاف إليها عامل القصّة والشخصيات التي تمثّل ما تحكيه.
الفيلم كان "مفكرة
الاختفاء". مرّة أخرى ترك المسافة بينه وبين الحدث الماثل بعيدة كون
الكاميرا هي هو مراقباً. هذا الخط حافظ عليه في فيلميه
المعروفين "يد إلهية" سنة
2002
ثم في فيلمه الأخير "الزمن المتبقّي" في العام الماضي. إنه ليس
أسلوباً
واقعياً ولا ينضوي تحت شروط السينما التسجيلية رغم قربه، لكنه ينتمي إلى
الرؤية
الذاتية بصورة بالغة النقاء وخلال هذه الرؤية يبث طاقته الساخرة على غرار
يذكّر
بسينما الفرنسي جاك تاتي أكثر من سواه
..
إنه تنوّع ثري لأربعة مخرجين لديهم أكثر من مجرد
الحديث عما يحدث للوطن الفلسطيني من معاناة على كل صعيد. وهذا الثراء يمتد
ليشمل،
ربما في بحث آخر، المواضيع المختلفة التي من خلالها يتناول كل منهم الحال
الشامل
للوطن بنظرة تتوخّى أبعد من مجرّد النقد. تتوخّى الطريقة المثلى لتفعيله
وتقريبه
والإسهام بقيام الدولة الفلسطينية المستقلّة فعلاً...
الجزيرة الوثائقية في
28/08/2011
"مدن الترانزيت"...هل الجوائز معيار نجاح الفيلم؟
رانيه حداد -عمان
بعد
أن نال جائزتي؛ لجنة التحكيم الخاصة، ولجنة النقاد في مهرجان دبي السينمائي
السابع 2010،
وجال في أكثر من مهرجان حول العالم، كان الجمهور الأردني على موعد مع أول
عرض
جماهيري للفيلم الروائي الطويل الأردني "مدن الترانزيت" للمخرج الشاب محمد
حشكي.
كلما عرض فيلم أردني جديد، كلما توثب الأمل
في نفس المرء علّه يجد ضالته في هذا
الفيلم أو ذاك، ومما لا شك فيه أن الجمهور الأردني كان متحفزا
لمشاهدة الفيلم، من
ناحية كون انتاج الأفلام الأردنية عزيز ونادر، ومن ناحية أخرى لا بد
للجوائز التي
حصدها الفيلم أن تبعث الفضول والرغبة لدى البعض للحضور والمشاهدة، لكن هل
كان
الفيلم حقا على قدر الآمال؟
السفر، المطار، الحقائب المفقودة، الماضي الجميل،
زمن الأبيض والأسود الذي تتشبث به خالة ليلى، وعزلة الوالد (محمد قباني)،
وغيرها من
المفردات واللقطات الجميلة في بداية ونهاية الفيلم التي حاول الحشكي من
خلالها أن
يعمق الاحساس بغربة الشخصيات داخل وطنها، لكن أي منها لم يسعف المخرج في سد
الفراغ
الذي خلقه الخلل؛ في بنية النص، وفي البناء المرتبك والمشوش لشخصية ليلى
(صبا
مبارك) -الشخصية الرئيسية في الفيلم- وفي ردود الأفعال والصيغة
غير المقنعة للعلاقة
التي تجمع ليلى بأفراد أسرتها.
يبدأ الفيلم من المطار بعودة ليلى المفاجئة من
أمريكا بعد غياب 14 عاما، تجر خلفها ذيول علاقة زوجية فاشلة، ويكلل هذا
الفشل ضياع
الحقائب في المطار، ثم تذهب ليلى إلى منزل أهلها، وهناك؛ تردد ليلى في دخول
المنزل،
والبرود الذي يستقبلها به الوالد بعد هذا الغياب، فيكتفي بكلمة
أهلا ثم يشيح عنها
ويمضي، كذلك فرح والدة وأخت ليلى برؤيتها الذي لا يخلو من توتر، جميع هذه
الأمور
تشي بأن ثمة مواجهة أو حدث ما سينفجر بعد وصول ليلى بقليل، وأن ثمة صيغة
علاقة
متوترة ناجمة عن مشاكل بين ليلى وأهلها سابقة على عودتها،
فيجتهد المشاهد ليقتفي
أثر هذه المشاكل، لكن ينتهي الفيلم دون أن يجد المرء ما يبرر هذا التوتر
سوى تشويش
المشاهد، فغياب المسبب، ووصول شخصية ليلى إلى ذروة أزمتها مع محيطها في
مرحلة مبكرة
جدا، والفيلم لم يمضِ عليه سوى بضع دقائق، كل هذا يرسخ في ذهن
المشاهد منذ البداية
بأن ليلى شخصية مأزومة لأسباب مجهولة وسابقة على الأمور والتغيُرات التي
تتفاجأ بها
بعد عودتها إلى وطنها، فيأتي استنكارها لهذا التغيُرات كما لو أنه مشجب
تحاول ليلى
أن تلقي عليه أسباب أزمتها، إذ أنها جاهزة لرفض أي شيء مسبقا.
جوهر أزمة ليلى المفترضة هو شعورها بالغربة في
وطنها نتيجة تغيرات نالت من صورته التي تحتفظ بها في ذاكرتها، حيث –من وجهة
نظرها-
يذهب المجتمع أكثر نحو التزمت الديني، وعدم
احترام الحرية الشخصية، وعدم احترام وقت
الإنسان وكفاءته...، وبالمقارنة مع الحياة التي كانت تعيشها
ليلى في أمريكا، هي
الان غير قادرة على التأقلم مع كل هذا، لكن ليس في الفيلم ما يحمل المشاهد
على
الاقتناع بأزمة ليلى تلك، فكلام ليلى المُحمَل بالانتقاد والتساؤلات عن سبب
التغيُرات والادانة لها، كان وسيلة المخرج الوحيدة لإيصال هذا
الافتراض للمتلقي،
بينما لم تتمكن كاميرته وبناؤه الدرامي من رسم ملامح هذه التغيرات، وجعلها
حالة
عامة تقنع المشاهد بوجودها، فمثلا هل اختيار والدة وأخت ليلى لإرتداء
الحجاب -الذي
كان مثار استغراب بالنسبة لليلى- والطريقة التي عامل بها موظف البنك
الاسلامي
المتدين ليلى، يشكل مؤشرا كافيا على حركة المجتمع وعلى حجم
تغيره في هذا الجانب؟
بالاضافة إلى ردود أفعال ليلى غير المقنعة والمبالغ فيها في نواحي معينة،
فما الذي
يبرر حجم صدمتها حين طردها صاحب الشقة التي استأجرتها، لأنها استضافت فيها
صديقا
قديما؟ هل كانت ثقافة المجتمع الاردني قبل 14 منفتحة بحيث
تتقبل هذا السلوك، لنقتنع
أن المجتمع فعلا قد تغير الان برفضه ذات السلوك؟ وغيرها من التناقضات التي
تبدو
معها شخصية ليلى تهبط بالبراشوت على عادات البلد وتقاليده، وكأن ذاكرتها
تحتفظ
بصورة لبلد اخر غير الأردن.
كذلك أراد المخرج أن
يظهر فشل الحياة السياسية والأحزاب من وضع الأردن على المسار الديمقراطي
الصحيح،
عبر شخصية والد ليلى - الحزبي السابق- الذي أصابه القنوط واليأس نتيجة ذلك
الفشل،
لكن حتى هذا الأمر لم يكن واضحا، فصدود الوالد كلما حاولت ليلى
الحديث معه، حمل
المتلقي على الإحساس أن ذلك بسبب مشاكل مبهمة مع ليلى، مادام ليس هناك ما
يظهر
انعزاله عن باقي أفراد الاسرة، لنكتشف وفقط من خلال حديث ليلى لصديقها
القديم أن
فشل التجربة السياسية هو ما دفع والدها إلى القنوط والعزلة،
الأمر الذي يبعث على
تشويش اضافي للمتلقي عندما تقدم الصورة معلومات غير متوافقة مع الكلام.
"مدن
الترانزيت" افتتح أسبوع الفيلم العربي الذي نظمته الهيئة الملكية للأفلام
خلال شهر
رمضان، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول لـ محمد الحشكي- سبقه فيلمين
روائيين
قصيرين- والفيلم من انتاج الهيئة الملكية الأردنية للأفلام،
ضمن برنامج تدريبي
متكامل تقوم عليه الهيئة الملكية، تم خلاله الاشتغال على مختلف النواحي
المتعلقة
بانجاز الفيلم، منها تحويل نَص الفيلم القصير الذي كتبه أحمد أمين إلى نَص
لفيلم
طويل، لكن الجهد المبذول في الاشتغال على النص، لم يكن كافيا
ليحصنه -كما أسلفنا-
من خلل في البناء الدرامي وبناء الشخصيات، وهي علة الفيلم الرئيسية التي
تطغى على
أي علة أخرى، فالنوايا الجيدة لا تصنع بالضرورة أفلاما جيدة، وإن حازت هذه
الأفلام
على جوائز مرموقة. لكن مهما يكن نحن بحاجة إلى كل تجربة أردنية
جديدة، ونثمنها سواء
خابت أو نجحت، لأننا بكل الأحوال سنتعلم منها، ونأمل أن تشكل كل من هذه
الأفلام
لبنة تساعد في تأسيس صناعة سينمائية في الأردن.
الجزيرة الوثائقية في
28/08/2011 |