يمكن القول إن فيلم "ذكريات
التخلف" من نوع أفلام "دراسة الشخصية". ولكي يعمق هذه الدراسة ويسلط مزيدا
من
الأضواء عليها، ويقوم السيناريو على تقديم بعض الشخصيات التي يرتبط بها "سيرجيو"
بشكل أو بآخر وتلعب دورا في حياته.
ويتوقف الفيلم أمام هذه الشخصيات، فيبدأ
بكتابة الأسماء على الشاشة. هناك أولا "بابلو".. صديق سيرجيو الرافض بوضوح
للثورة..
المتشكك في كل شيء حوله، وقد حسم أمره على ضرورة الهجرة؛ ويعبر "بابلو" عن
أفكاره
خلال جولاته بالسيارة مع "سيرجيو" قائلا إن ما يجري مجرد "لعبة بين
الأمريكيين
والروس، لكننا سندفع الثمن.. ولا أريد أن أكون موجودا هنا عندما يأتي ذلك
الوقت..
سأرحل".
يتوجه "بابلو" بالسيارة في صحبة "سيرجيو" إلى محطة للتزود بالوقود،
هناك بنزين ولكن ليس هناك زيت للمحرك.
وبعد هذا المشهد مباشرة يستخدم المخرج
لقطات تسجيلية، وصورا ثابتة فوتوغرافية، ورسوما تصور حالة
الفقر والتخلف والمعاناة
التي كان الكوبيون يعيشون فيها في الماضي: رسم يصور بعض العبيد يقيدون حركة
واحد
منهم على الأرض، بينما يقف السيد يمسك بالعصا وينهال عليه ضربا. (يأتينا
صوت بابلو
من خارج الصورة، يقول لسيرجيو: "يقولون إن الكوبي يمكنه أن
يتحمل أي شيء سوى
الجوع".
نرى لقطات أخرى لرجال جائعين، وأطفال يتضورون جوعًا تمددوا على
الأرض في ضعف واستكانة شديدتين، وامرأة تحمل على صدرها طفلا
رضيعا يحتضر من الجوع.
ويأتي التعليق الصوتي "الموضوعي" وكأننا نشاهد فيلما من أفلام الجريدة
السينمائية: "في
أمريكا اللاتينية يموت أربعة أطفال بسبب سوء التغذية كل دقيقة.. بعد عشر
سنوات
سيكون قد مات عشرين مليون طفلا، أي ما يوازي عدد القتلى في الحرب العالمية
الثانية".
الحوار بين "سيرجيو" و"بابلو" حول المسلحين الكوبيين الذين شاركوا
في غزو بلادهم مع الأمريكيين في "خليج الخنازير" وتم اعتقال بعضهم، يؤدي
إلى مشهد
آخر، تسجيلي، يبدأ بالإشارة إلى مسؤولية الفرد في إطار الجماعة، حسب
المفهوم
الماركسي، ولكن في سياق استعراض السجناء من الكوبيين المسلحين،
والتعليق الصوتي
يأتينا قائلا إنه تم اكتشاف تنظيم "اجتماعي" داخل المنظمة العسكرية للغزاة،
أي
للمسلحين الكوبيين المناهضين للثورة، وهذا التنظيم يعكس التكوين الاجتماعي
و"أخلاقيات البورجوازية".
يأتي هذا التعبير المثير للاهتمام فوق صور
فوتوغرافية توحي بالوثائقية دون أن تكون بالضرورة لأناس حقيقيين، ولكن ما
هو
التشكيل البورجوازي لهذه المنظمة، وكيف يعكس الطبيعة الطبقية للمناهضين
للثورة؟
يقدم لنا الفيلم الوثائقي الذي نراه (داخل الفيلم) شخصيات مثل القس،
ورجل الأعمال الحرة، والمسؤول التنظيمي، ومسؤول التعذيب،
والفيلسوف، والسياسي،
و"كثير من أبناء الأسر الطيبة" حسب ما يقول التعليق.. نراهم جميعا بالملابس
العسكرية للغزاة الذين شاركوا في عملية الغزو.
يقول التعليق (الموضوعي ذو
الطابع التعليمي) إن كل فرد من هؤلاء لديه دور محدد، لكن الجماعة هي التي
منحت هذا
الدور معنى".
ونرى لقطات شبه وثائقية لامرأة تتهم أحد هؤلاء الرجال (يدعى
كاليفتو) بتعذيبها والاعتداء عليها، وكسر فقرتين من فقرات عمودها الفقري،
وهي الآن
تشهد ضده، وتواجهه بما فعله: "لقد أخذ يركلني، ونزفت من معدتي، لكنه واصل
الركل
والضرب (الرجل يهز رأسه مؤيدا لكلامها بينما يبتسم في وقاحة).
وفي مشهد آخر
شبه وثائقي أيضا، نرى مجموعة من العصي والسلاسل الحديدية والأسلحة الحادة
التي ضبطت
مع الغزاة، ولقطات للجنود من عهد الديكتاتور "باتيستا" وهم يقومون بتعذيب
المعارضين، وإعدامهم بشكل جماعي، ثم ننتقل إلى ملهى ليلي حيث نرى رموز
الطبقة
الحاكمة في ذلك العهد، أثناء الشراب والرقص وكل أنواع اللهو
بينما نرى في الشارع
كيف تقمع الشرطة المعارضين.
وفي مشهد محاكمة القس الذي اشترك في الغزو نراه
وهو يبرر مشاركته بقوله إنه كان يقوم فقط بواجبه الديني (نرى لقطة له على
ظهر إحدى
سفن الغزو وهو يقوم بمباركة المسلحين قبل الهجوم) في حين نسمعه على شريط
الصوت وهو
يقول: ليس معنى الاختلاط بمؤامرة أن تكون متآمرا".
من
الوثائقي إلى الخيالي نعود إلى "سيرجيو" وهو يراقب فتاة حسناء
تعمل خادمة، تأتي
لتنظيف مسكنه "ثلاث مرات في الأسبوع" كما يخبرنا عبر التعليق الصوتي
المصاحب.
إنها "نعومي" التي ينزل اسمها على الشاشة. ويواصل "سيرجيو" حديثه
عنها بينما نراها تتناول القهوة معه في المطبخ. يقول لنا إنها "بروتستانتية"
ويسألها عن التعميد فتقول إنها عمدت فعلا، وإن التعميد هو رمز لغسل
الخطيئة. تروي
قصة تعميدها في النهر ولكننا نرى على الشاشة، من وجهة نظر "سيرجيو"، لقطات
له معها
في النهر بالحركة البطيئة الناعمة، وهو يحملها بين يديه. إنه استمرار لنفس
الهواجس
الهروبية، التي يغذي بها نفسه طوال الوقت.
نراه أمام حمام للسباحة في أحد
الأندية.. يتأمل الناس.. يعلق على تدهور أجسام الكوبيات وكيف أصبحن
ممتلئات. يقول
إنه يرى الناس مثل حيوانات عارية تسير على ساقين، وإن ذكاء الإنسان مع عدم
سويته
بدنيا يرجع إلى أنه ليس سوى "نبتة غير مكتملة للقرد"!
ومن الخيالي- التسجيلي
الطابع، إلى التسجيلي، إلى معسكر جوانتنامو من خلال لقطات شاحبة، ضعيفة
الإضاءة،
تمتليء بالحبيبات، إنها وثائق حقيقية مصورة، لعسكريين وبعض
الكوبيين المتعاونين مع
الأمريكيين يظهرون من وراء الأسلاك المحيطة بهذا المعسكر الأمريكي القائم
على
الأراضي الكوبية؛ ويقول لنا التعليق الصوتي إنه "تحول إلى وكر للجواسيس بعد
الثورة"، وأصبح ملجأ لكوادر الثورة المضادة، الذين يختبؤون
هناك".
ومن هنا
إلى فصل بعنوان "إلينا" Elana.
اللقاء الأول له معها يكون في الشارع.. هي تنتظر وهو
يبحث عن فريسة له من النساء كالعادة. يتوقف أمامها، يتطلع إلى
وجهها، نرى عينيها في
لقطة قريبة، لكنه يقول لها: ركبتاك جميلتان. يصعد سلما، يتطلع إليها من
أعلى، نراها
وهي تنظر إلى ركبتيها وتبتسم. يعرض عليها تناول الغذاء معه. تقول إنه
مجنون. يتطور
المشهد، يعرف أنها تنتظر رجلا عرض عليها دورا في أحد الأفلام.
إنها لاتزال في عمر
الزهور، في السابعة عشرة من عمرها. توافق على الذهاب معه إلى المطعم بعد أن
يقول
لها إن لديه صديقا، مخرجا سينمائيا يمكنه مساعدتها.. يتصور نفسه على الشاطئ
معها..
يقدمها لصديقه المخرج السينمائي الذي ينشغل مع زملائه في مشاهدة لقطات
إباحية، يقول لـ "سيرجيو" إنها لقطات حذفتها الرقابة من أفلام
صورت في عهد
"باتيستا"، وإنه يعتزم استخدامها في فيلم عن التدهور الاجتماعي في ذلك
العهد.
علاقته مع "إلينا" تتطور، تصعد معه إلى مسكنه في أعلى البناية المطلة
على البحر. يعطيها بعضا من ملابس زوجته. "إلينا" تنتمي للطبقة صاحبة
المصلحة في
الثورة، أي أنها نموذج لـ"التخلف" كما يرى "سيرجيو"، لكنها مثيرة وشابة،
ودونما وعي
منه، يحاول أن يغيرها، إلى نموذج مشابه لنموذج زوجته التي يرفضها.
يريدها
أن ترتدي ملابسها، وأن تتصرف مثلها. إنه ذلك "الفكر" المتأصل داخله، الذي
يرفض
التعامل سوى مع نموذج المرأة من طبقته بسلوكياتها ومفاهيمها رغم احتجاجه
المعلن على
هذا النموذج أيضا، وتمرده على نمط حياته: هنا سر أزمته، أي أنه
لا يعرف ماذا يريد..
ولذا يظل على الهامش طيلة الوقت، عاجزا عن اختراق المجتمع أو الاتصال مع
الآخرين..إنهم جميعا في نظره يجسدون "التخلف".
"إلينا"
نموذج يلخص تلك
الحالة الجديدة المستعصية على فهمه.. هي "ابنة الشعب"، ولكن بدلا من محاولة
النفاذ
إليها وفهمها، يحاول "سيرجيو" تغييرها وشدها إلى عالمه، وفي زيارة إلى
المنزل الذي
كان يقيم فيه الكاتب الأمريكي "إرنست هيمنجواي" في هافانا ثم تحول إلى
متحف، تتجسد
الهوة بين الشخصيتين؛ وتفشل علاقة الاحتواء المفترضة، تبحث عنه إلينا لكنه
يتهرب
منها.
وتكاد مغامرته النزقة مع "إلينا" تؤدي إلى هلاكه، فأهلها يتهمونه
باغتصابها، ويقولون إنها كانت عذراء عندما أغواها، ويصل الأمر
إلى القضاء، لكن
القضية تنتهي بتبرئة "سيرجيو" الذي يعود لكي يستعيد لحظات علاقته الحميميّة
معها،
وحيدا كما كان دائما.
ليست هناك "نهاية" بالمفهوم التقليدي الشائع في
السينما، فالفيلم لا ينتهي، بل يمتد، وتمتد معه أزمة "سيرجيو"
وتتعمق أكثر،
فالأوضاع من حوله متغيرة، بل وملتهبة. عبر المذياع يأتينا صوت الرئيس
الأمريكي "جون
كنيدي" وهو يحذر ويهدد بضربة نووية إذا اقتضى الأمر ضد قواعد الصواريخ
السوفيتية في
كوبا. ثم ومن خلال الصوت والصورة، في لقطة وثائقية نرى "كاسترو" وهو يلقي
كلمة يرفض
فيها بشدة الخضوع للتهديد.
في هافانا، في ليلة عاصفة، يحبس الجميع
أنفاسهم.. ويتأهب الرجال في الدفاع المدني لما قد يحدث، وينتهي أحد أعظم
الأفلام في
تاريخ السينما.
تكمن عظمة هذا الفيلم تحديدا في تكثيفه من خلال ذلك البناء
المركب، لتلك الحالة الفكرية، أي حالة العجز والتشتت والضياع
التي يعاني منها مثقف
بورجوازي تمر بلده بلحظة تغيير جوهري، في حين أنه لا يستطيع أن يشارك، كونه
يعتبر
نفسه "فوق الواقع"، ولا يستطيع أيضا أن يعارض، كونه يحتقر ذلك النموذج
الآخر
للانتهازي المنبهر بالنموذج الأمريكي، وهو نموذج سرعان ما سيصبح "خارج
الواقع".
يسخر "سيرجيو" من نموذج زميل قديم له هو "آندي" الذي يراه فوق المنصة في
إحدى المناظرات بين مجموعة من المثقفين اليساريين حول خصوصية الوضع النضالي
في
أمريكا اللاتينية، وهل التناقضات الطبقية هي التي تحرك النضال
حاليا أم التصدي
للامبريالية التي تهدد بتدمير شعوب بأسرها كا يحدث في فيتنام مثلا؟ "سيرجيو"
يعلق
ساخرا بقوله: أنت هنا رجل مهم يآندي.. بينما خارج كوبا أنت لا تساوي شيئا".
الفيلم لا يدين، بقدر ما يكشف، وهو يكشف الكثير من الأفكار السياسية
"المراهقة"، ويجعل شابا أمريكيا متعاطفا مع الثورة، من الحاضرين لتلك
المناقشة
الفكرية، يوجه حديثه بالإنجليزية لمدير الندوة على المنصة متسائلا بدهشة:
كيف
تعتبرون أنفسكم ثوريين وتحتكرون المناقشة على المنصة وتعزلون أنفسكم تماما
عن جمهور
الندوة من الحاضرين الذين يفترض أنهم رفاقكم في الثورة!
ما يميز هذا الفيلم
ويجعل بناءه شديد الثراء والجمال في آن، ذلك الانتقال المستمر، بين الماضي
والحاضر،
بين الذكريات والواقع، بين الخيال والحقيقة، وبين الذاتي
والموضوعي، وبين التسجيلي
والروائي والتعليمي الذي يزود المتفرج بالمعلومات والصور واللقطات المثيرة
للتأمل
والصادمة أحيانا، وذلك الأرق الشخصي الدائم الذي يدفع بطلنا إلى التقليب في
الواقع،
ويكشف بالتالي لنا كمتفرجين، دون قصد منه، الكثير من الجوانب
التي تجعلنا أكثر
دراية بكوبا الجديدة، التي من المؤكد أنها أكبر كثيرا من مجرد السيجار
الهافاني
الشهير!
الجزيرة الوثائقية في
25/08/2011
السّينما الوثائقيّة على محكّ القضيّة الفلسطينيّة
الهادي خليل- تونس
الأفلام الوثائقيّة أو الأفلام التّسجيليّة نوعان
وصنفان: هنالك الأفلام الجيّدة والمتميّزة التي تنمّ عن نظرة حادّة وثاقبة
يسوسها
الإبداع النيّر والتّمثّل الدّقيق لأهمّ مكوّنات ناصية هذه النوعيّة من
الأفلام
الحسّاسة، وهنالك أيضا الأفلام الرّديئة، وهي تتكاثر يوما بعد يوم، همّها
الوحيد هو
التّصوير الجنوني والمرتجل لأهمّ مشاهد الرّعب والدّمار التي
نراها في كثير من
بلدان العالم، وغايتها الأساسيّة تجاريّة بحتة.
لِنَسُقْ مَثَلاً بعض الأفلام الوثائقيّة
الجيّدة التي أُنجزت عن فلسـطين. أعمـال المخرج الفلسطيني رشيد مشهراوي،
مثل "حظر
التّجوّل" (Couvre-feu)،
"حيفا" (Haïfa)،
"مباشرة
من فلسطين" (En direct de Palestine)،
"تذكرة
إلى القدس" (Un ticket pour Jérusalem)،
"جينين" (Jenine)
وغيرها من الأفلام، أثّرت فينا وقرّبتنا كثيرا من صورة المشهد لأنّها
تُعبّر عن
شهادة صادقة وحيّة، ركيزتها الأساسيّة ليست الشّعارات
الإيديولوجيّة والسّياسيّة
وإنّما المتن الفنّي والجمالي في تصويرشهادات الفلسطينيّن وفي كيفيّة
الإنصات إلى
مسرّاتهم وأحزانهم. أجاد رشيد مشهراوي، رغم فضاعة الواقع الفلسطيني في
الأراضي
المحتلّة، في تجنّب "التّدريم" (من كلمة الدراما) المبالغ فيه
ونبذ النّبرة
البكائيّة التي لا فائدة منها.
لِنَسُق أمثلة أخرى لأفلام وثائقيّة أُنجزت من
قبل سينمائيّين غربيّين تحمّسوا للقضيّة الفلسطينيّة. نرى أنّ دوافع هذا
التّضامن
مع شعب مظلوم ومُهان يوميّا من قبل العدوّ الصّهيوني لا تطمس إطلاقا الجانب
الإبداعي في هذه الأفلام. لنأخذ الأفلام الوثائقيّة التي
أنجزتها، في نهاية
السّبعينات ومنتصف الثّمانينات، الممثّلة البريطانيّة "فانيسّا ريدقراف" (Vanessa Redgrave)
الملتزمة بحقوق الشّعوب، فهي أفلام، مهما قيل عنها ومهما وقع التّشكيك في
صدق نواياها، مهمّة لأنّها تعبّر عن شجاعة فائقة من قبل ممثلة كانت تدرك
تمام
الإدراك أنّ الغرب الصّهيوني والشّركات السّينمائيّة
العالميّة، وخاصّة منها
الأمريكيّة، لن تغفر لها إطلاقا مساندتها للشّعب الفلسطيني وإنّه يمكن
بالتّالي أن
تُحال على البطالة.
هنالك مخرج آخر أبهرنا بقدرته على إثبات أنّ
السّينما الوثائقيّة هي إبداع أصلا وإنّه لا يمكن لهذه السّينما أن تؤثّر
في
المُشَاهِدوتُلهمه إلاّ إذا كان الحسّ الجمالي والفنّي متوفّر فيها، وهو
المخرج
السويسري ريشار داندو
(Richard Dindo)
الذي اشتهر هو أيضا في الأوساط العربيّة
والدّوليّة بنُصرته للقضيّة الفلسطينيّة. ففي بداية سنة 2000،
أنجز فيلما وثائقيّا
عنوانه "جان جينيه في شاتيلا"
(Jean Genet à Chatila)،
يُعتبر من أهمّ الرّوائع
التي أُنجزت عن القضيّة الفسطينيّة وعن شهدائها. يقتفي هذا الفيلم الطّويل
أثر
الرّوائي والمسرحي الفرنسي جان جينيه، مؤلّف "أربع ساعات بشاتيلا"
(Quatre heures à Chatila)
و"الأسير العاشق"
(Un Captif amoureux)
عن ذكرياته مع الفلسطينيّين في
الأردن ولُبنان، أثناء المِحن الكبرى، في مخيّمات "صبرا" و"شاتيلا" التي
دخلها
الكاتب الفرنسي الشّهير غداة المجازر خلال شهر سبتمبر 1982. يحيّي هذا
"الفيلم
–
القصيدة" كلّ المثقّفين والمبدعين الغربيّين الذين وقفوا جنبا إلى جنب
مع الشّعب
الفلسطيني وعاشوا معه سواء الانتصارات أو الهزائم.
تميّزت جلّ الأفلام التي أُنجزت عن القضيّة
الفلسطينيّة من قبل مخرجين غربيّين، مرموقين أو مغمورين، ببحثها عن العلاقة
بين "هنا"
و"هناك"، أي الكيفيّة التي يرى بها المواطن الغربي الشّعوب الأخرى، من موقع
وطنه الأصل والكيفيّة التي يتفاعل بها مع قضايا هذه الشّعوب.
ولقد كان المخرج الفرنسي "جان لوك قودار" (Jean-Luc Godard)
سينمائيّا مؤسّسا في هذا المجال، كما يتبيّن ذلك في فيلمه
الشّهير "هنا وهناك" (Ici et ailleurs)
الذي صوّره سنة 1976 عن حصار تلّ الزّعتر
وعن مخيّمات اللاّجئين الفلسطينيّين بلبنان، وهو فيلم جدليّ وثوريّ يدين،
من خلال
الصّورة وليس من خلال الخطابات، طغيان الغرب في مناصرته للكيان الصّهيوني
كما يدين
أيضا بعض الأنظمة العربيّة التي تآمرت على الفلسطينيّين وشنّعت
بالمدنيّين العزّل
تشنيعا فظيعا.
ما فعله قودار أساسا، في هذا الفيلم، هو تجنّب
دور المخرج الواعظ المرشد والاعتماد على حضور الفلسطينيّين، وخاصّة منهم
المقاومين،
وكأنّهم دليله الأمثل في عمليّة التّصوير. أدرك "قودار" أنّه يتوجّب على
كلّ مخرج
غربي ملتزم وصادق يريد تصوير الشّعوب التي تكافح من أجل استرجاع أرضها أن
يتجنّب
التّمشّي الفوقي وأن لا يطنب في التّعاليق التي تعيق نفس
الصّورة وتقتلها، بل عليه
أن يتمثّل نبض الحياة اليوميّة لهذه الشّعوب وأن يكون له حسًّا متّقدا لكي
ينصت إلى
شهادات النّاس الذين أُطْردُوا من وطنهم الأمّ.
الجزيرة الوثائقية في
25/08/2011
"دزيغا فيرتوف":
ملهم السينما الوثائقية عبر العصور
فجر يعقوب
متفرجوا السينما الأوائل أصيبوا
بالدهشة منذ ظهور الكوادر الفيلمية الأولى أواخر القرن التاسع عشر؛ هذا أمر
أصبح من
بديهيات تاريخ السينما نفسه، ولم يعد ممكنا إضافة شيء إليه من حيث المبدأ،
لكن
الطبيعة الوثائقية للشخصيات المصورة التي قدمت حنوّاً محيّراً
على سطح الشريط
السينمائي، ودفع إلى تكسّر الأمواج عليه قد يحرك الحديث عنه فضول مستغرق في
الزمن،
فمن خلال الكاميرا السينمائية وحدها ظهر أن المتفرجين يسافرون عبر الأراضي
البعيدة،
وكأنهم يشاهدون لوحات مجهولة من الظواهر الطبيعية، وهنا الكاميرا تصبح
شاهدا على
أحداث من صميم الحياة الاجتماعية، وهذا دفع كثيرين للتزود بها
بانتظار وقوع حدث هنا
أو هناك.
الفيلم الوثائقي لن يعود مجرد إلقاء نظرة ثابتة على هذه الأراضي
المجهولة، بحثا عن شعوب مجهولة وتائهة وراء الحجب إرضاء لفضول
سياحي متعدد الفصول
والوجوه، بل أصبح قصة عن الزمن نفسه؛ وسرعان ما سيتأكد الجميع أن المتفرجين
سيظهرون
اهتماما متزايدا بمثل هذه الظواهر المجتمعية.
وهذا دفع ببعض السينمائيين
للتفكير جديا بمثل هذا الاهتمام ودراسته بدقة من مختلف الزوايا الممكنة، من
دون
إغفال الأحداث الجارية من حولهم.
وهكذا عرف الناس أفلام جورج ميلييه ( قضية
درايفوس ) – ( تتويج ادوارد السابع
).
وفي روسيا، وفي أثناء حرب عام 1905
تبين دراسة السيناريوهات المكتوبة في تلك الفترة من قبل مؤرخي السينما،
أنها كتبت
كما لو أنها قصص نظيفة وخالية من الشوائب وتصلح في قراءة معالم تلك المرحلة
العاصفة
حتى من دون أن تصور.
بالطبع لن يتوقف الأمر هنا، فمن أجل الوصول إلى مطابقة
مثلى مع الأفلام الروائية استخدمت المدرستان الانجليزية والأميركية مواد
قصصية لم
تكن بعيدة عن الوضعيات النفسية والاجتماعية التي يرغب بها المشاهد في طويته
في
رؤيتها حين يدخل الصالة المعتمة.
في فرنسا قام "إميل كول" بتجميع مشاهد
روائية ووثائقية في " بدن" فيلمي واحد، حتى أنه لم يوفر الرسوم المتحركة في
وقت
مبكر جدا من عام 1907، وهو ما حدا بشركة "غومون" إلى الزهو بمحاولاته مدة
طويلة،
قبل أن تأخذ السينما الروسية على عاتقها عمل الريبورتاجات الوثائقية، عندما
صُور في
عام 1911 فيلم (الدفاع عن سفيتاستبول).
وبالرغم
من أن السينما الوثائقية في سنوات العشرينات من القرن الماضي كانت تدخل
بشكل
اضطراري، في ما يمكن تسميته بـ (المكثف البصري الروائي) في
أفلامها، إلا أنها لم
تشهد انعطافات حاسمة في مسيرتها التطورية.
وجاء الدفع القوي لاحقا من خلال
التحولات السياسية والاجتماعية التاريخية التي شهدتها الكرة الأرضية بعد
الحرب
العالمية الأولى، والفتوحات النظريّة التي تقدمت بها السينما السوفياتية
بعد ثورة
أكتوبر البلشفية.
والواقع أنه من خلال أفلام السينمائي الكبير "دزيغا فيرتوف"،
أخذت السينما الوثائقية أولى قطرات هذا الفن الخطر؛ فمن حكاية
بسيطة كانت تتحول إلى
أيقونات بصرية بلمح البصر المعافى وظهر واضحا أن هنا ثمة روح جديدة قادرة
على
التغلغل في جوهر العقل الإنساني من زاوية لم تعهدها البشرية من قبل.
أفلام "فيرتوف"
قامت حينها بثورة جمالية ضرورية في مهد السينما الوثائقية التي أخذت تشق
طريقا مغايرا غير مألوف ويمكن الرهان عليه مستقبلا، ففي هذه
الفترة بدأ "فيرتوف"
تجاربه في حقل المونتاج، وفي الأول من حزيران من عام 1918، وفي العاصمة
السوفياتية (
آنذاك ) موسكو ظهر العدد الأول من المجلة
السينمائية ( الأسبوع السينمائي ) الذي
قدم تصورا جديدا عن نشر واستخدام الصورة – الوثيقة.
وحاول "فيرتوف" من خلال
هذه الزاوية أن يشعل شيئا في الجو من خلال بعث هذه التصورات الجمالية في
أول جريدة
سينمائية له؛ وسرعان ما خطا باتجاه نمذجة نظرية صاخبة وفريدة من
نوعها.
وبين الأعوام 1922 – 1924 تحولت الجريدة السينمائية إلى ( الحقيقة
السينمائية )؛ ومن خلال طروحاته الفنية الاستثنائية تمكن من
جمع المشاهد الفيلمية
المصورة مع "لينين" في فيلم خاص به، وقدم قصة مثيرة عن الزعيم البلشفي،
احتلت مكانا
بارزا في تاريخ السينما الوثائقية كما سيظهر من تقييمها لاحقا.
لن تتوقف
الأمور هنا مع هذا المتمرد الاستثنائي، فجاءت محاولاته عبارة عن متواليات
تبحث عن
الموسيقى الداخلية في كل كادر مصور بغية تنظيم وترتيب المشهد كاملا، وخطا
بذلك نحو
بناء الوجوه دراميا من خلال وسائط المونتاج، ولهذا الهدف
استخدم أفلاما صورت في
أزمنة مختلفة وأمكنة متفرقة.
(عملية
دفن في استراهان) – 1919 يتم إعادة
توليفها مع عملية طمر قبر بالتراب في كرونشتاد – 1919، ومجموعة من الحدائين
في (الذاكرة الأبدية) في موسكو 1919؛ كانت
اللحظة المونتاجية المتفوقة تعطي هنا من
خلال "فيرتوف" ملمحا جماعيا لعملية دفن واحدة تجري في مكان
واحد.
تجارب "فيرتوف"
لقيت مصاعب جمة فرضتها طبيعة تجميع المواد المصورة نفسها، فهي جاءت في
كادرات طويلة مؤلفة من حوالي أربعين مترا تقريبا دون الأخذ
بعين الاعتبار وجهات
النظر الخاصة بكل لقطة على حدة.
وقام "فيرتوف" بإعادة تأهيلها مونتاجيا
بوصفها لقطات سينماتوغرافية خالصة بمساحات وتفصيلات
دقيقة، ولكنه لم يتوقف عند هذا
الحد، فقد كان جامحا وصاحب مخيلة مركبة، فأخذ يصور ليحصل على
وجهات نظر مختلفة ،
ولقطات أكثر تفصيلا لأكثر اللحظات الدرامية توهجا بحسب رؤيته، وهو طمح من
خلال ذلك
إلى تحرير الكاميرا من حالة الثبات حتى يقترب من خلال العدسة " المتشيطنة "
من ردات
الفعل السريعة للإنسان، ومن العين التي تكشفها بسهولة غير مبررة.
وقام
بدراسة تأثيرات التسريع والتبطيئ على محتوى الصورة حين تعرض معكوسة،
والرسوم
المتحركة أيضا لم تسلم من جموحه الفني، فقام بإدخالها على مواد
جريدته وأفلامه
الوثائقية. ومزهوا بنتائج تجاربه خرج "فيرتوف" على الصحافة بمقالات يتحدث
فيها عن
ثورية هذه التجارب، والروح الفنية الجديدة التي ستغمر الفن السابع منذ تلك
اللحظة
في كل كادر جديد من أفلامه.
وبالنسبة لواحد مثله، فإن الفن الجديد الذي كان
ينظّر له كان يمكنه أن يكون ثوريا فقط لو جرب تبديل محتواه ووسائطه
التعبيرية؛
وباندفاع الشباب قام بـ "العبث" بكل المحتويات القديمة التي قدمتها السينما
في ذلك
الوقت، وتحت تأثير الطاقة التي تبحث في تهديم الماضي، وبانحناءة رمزية أمام
الوثيقة
قام بنفي مصطلح الفن الروائي، واعتباره معاديا للثورة
(......)!!
لا
تقتربوا
لا تلامسوه بمحجر العين
إنه خطر على الحياة
ومعد وقاتل ...!!
وأعلن "فيرتوف" الحرب على السينما الروائية، واعتبرها خديعة للشعب
وقال: "إن الدراما السينمائية والدين أسلحة فتّاكة في أيدي الرأسماليين"
ودعا إلى
إسقاط القصص البرجوازية والسيناريوهات وقال في ( العين السينمائية 1924) :
" لتعش
الحياة كما هي".
كان "فيرتوف" يقترب هاذيا – ربما – من فكرة التصوير عبر
مقاطع من عالم غير مسوّى، على أن ينظم عبر وسائط المونتاج،
حتى يظهر على الشاشة
نبض الحقيقة السينمائية فقط: " أنا عين السينما..أنا أعيد صوغ الإنسان
بمثال يفوق
آدم..أنا أعيد صوغ آلاف البشر بملامح وطبائع مختلفة..أنا العين
السينمائية.. آخذ يد
الأقوى من البعض والأنف الأكثر دقة من البعض الآخر، والرأس
الأجمل من البعض
الثالث، وبالمونتاج فقط سوف أخلق الإنسان الجديد".
(العين
السينمائية) تحولت
بالطبع إلى بيان نظري للسينما الوثائقية الجديدة، والتي أراد "ذريغا
فيرتوف" أن
يحققها مع مجموعة من الشباب المتحمس لهذه السينما، وقد حزم أمره مع مصورين
شجعان
تحولوا تحت إمرته إلى شخص واحد في قالب سينمائي منصهر، وكان
أقرب مساعديه هو شقيقه
المصور "ميخائيل كاوفمان" (الاسم الحقيقي لـ "دزيغا فيرتوف" "دينيس كاوفمان")،
والذي عمل معه جزءاً من تجاربه السينمائية والمونتاجية.
سميت المجموعة في ذلك
الزمن العاصف بإسم قريب من (العين السينمائية ).
وفي عام 1924 ظهر إلى
النور الفيلم الذي يحمل الاسم نفسه، واسمه الكامل (العين السينمائية
للاستقصاء)
والذي عكس تفكير المجموعة الجديدة وظهر بوصفه تقديما بصريا حيا للأحداث
المعاصرة
التي تدور في القرية والمدينة، والصراع المحتدم بين الجديد والقديم من خلال
مغامرين
وقفوا ضد الرشاوى، والاختلاس، والإدمان الكحولي، والطفولة الشقية المعذبة
التي كانت
ترزح روسيا الجديدة تحت وطأتها.
و"فيرتوف" لم يقم فقط بتركيز الكاميرا بهدف
مراقبة ما يحدث، ولكنه أوغل في المونتاج حد نفث طاقته الخلاقة في كل كادر
كان "
يعبث" به ويشرحه من جديد معتبرا إياه الإيقاع الأزلي للفيلم المشتهى.
ومع
ذلك، فإن توجسات "فيرتوف" لم تكن في محلها، فقد رفض الفيلم من قبل الجمهور
والنقد
الرسمي والشعبي على حد سواء.
كثر اتهموه بشكلانية مجوفة، ورفضوا التحقق من
إمكانات الكاميرا والمونتاج.
مؤرخوا علم الجمال من أربعينيات وخمسينيات القرن
الماضي ظلوا على نفس الرأي القائل بفراغ أفلامه من المحتوى الواقعي المطلوب
وأكدوا
على أن "فيرتوف" يمنع على المبدع تحققه من حضوره الإبداعي لأنه يماهيه
بالروح
الآلية – الكاميرا؛ وبمنطق جدلي يطغى عليه هوس خاص بهذا المخرج
الكبير أكد "فيرتوف"
معاندا :" أنا العين السينمائية، أنا العين الآلية، أنا الآلة، أظهر لكم
العالم كما
أريد، وكما أراه أنا".
لو جردنا هذه النظرة المتوثبة من المرحلة الزمنية
التي مرت بها، فإنه لا يمكن اعتبارها إثباتا على تقييم شخصية مبدعة ونافرة
مثل "فيرتوف"
وقد بدا في نظر البعض المكتوم حينها إنه صاحب نداء لتملك الكمال من خلال
الوسائط الإبداعية نفسها التي يتوجب على المبدع أن يعكس العالم
من خلالها.
وكان هذا احتقارا لمستقبل السينما نفسها، وقد حولته السينما مسبقا إلى فن
عظيم تهيأ المشاهدون لتقبله بوصفه هكذا.
اليوم نظرية السينما تعترف أن
الكاميراالعين السينمائية – الآلة – واحدة من أهم وسائط التعبير المبدع،
إن لم تكن
أهمها على الإطلاق حين يقف المخرج وراءها ليطلق صيحاته بدوران الموتور
والصوت
والممثلين.
وفقط الفنان الذي يمتلك بشكل استثنائي هذه الوسائط التعبيرية
يمكنه أن يقدم من خلالها رؤيته الخاصة بالعالم.
الروح الآلية تصبح هنا " قلما "
تكتب هذه الروح من خلاله أفكارها عن الحياة والمونتاج متملكة في نفس الوقت
الإيقاع
الشاعري الموحد لهذه الأفكار.
وبقدر ما كان "فيرتوف" متملكا لطاقة تعبيرية
وفنية هائلة في البحث عن الأشكال الجديدة، فإنه جهد ليملك
أفكار الزمن الذي يعيش
فيه، ومن خلال أجنحة التوثيق وحدها أخذت أفلامه التالية (تقدمي أيتها
السوفيتات) 1925
و(الجزء السادس من العالم) 1927 ملامح أكيدة للبحث عن هذه الأشكال وتغطيتها,
مع الاقتراب من الإيقاع والشاعرية النارية المتوهجة في ذلك الزمن عند "ماياكوفسكي".
ولم يوفر "فيرتوف" جهدا في استخدام عناوين الأفلام بوصفها
اللهجة الإيقاعية المظفرة في بناء الفيلم أيضا.
وتجاسر وحول هذين الفيلمين إلى
قصائد خاصة به :" قصيدة عن العمل الحر للشعب الحر في الفيلم الأول، وقصيدة
عن البلد
المسالم الذي يحتل مساحة جغرافية كبيرة هائلة من هذا العالم في الفيلم
الثاني".
ومنذ عهد السينما الصامتة رأى "فيرتوف" بعين ثاقبة تلك العلاقة
الحيوية بين ما هو بصري وما هو سمعي حتى أنه لم يتورع عن إضافة
فصل جديد على شغفه
السينمائي أطلق عليه (عين الراديو) رأى فيه فرصة خلاقة لتنظيم الحقل السمعي
في
معركته مع المستقبل.
هل يعني ذلك أن تجارب هذا السينمائي تجاوزت
حدود الزمن وطفت على حوافه ؟!
في أجواء مجهولة نسبيا ليس فقط
بالنسبة للسينما الوثائقية، وإنما للسينما الروائية أيضا، قام "فيرتوف"
بتحقيق
فيلمه (الرجل والكاميرا السينمائية) والذي أعلن عنه بوصفه " شعرنة "لمهنة
المصور
السينمائي ولمعجزة المونتاج، فلقد جرى اصطياد كوادر من الحياة وجرى توليفها
بإيقاع
غنائي حار، كما كتب حينها المنظر السينمائي "نيكولاي ليبديف".
اليوم ينظر
إلى هذا الفيلم بوصفه الإلهام الذي تخطى عصره رغم إنه لم يمتلك الوضوح
حينها، هذه
هي حقيقة "فيرتوف" نفسه وجرى عكسها بعين المصور السينمائي
الحاذق، إذ يمكن القول إن
هذا المخرج اكتشف مرة واحدة البصيرة الداخلية للإنسان منذ عام 1929، ليس من
خلال
المشاهد التي يعاد تمثيلها، وإنما من خلال المواد التوثيقية التي تصور في
الحياة
ومن أجل الحياة نفسها.
وحتى يومنا ما يزال فيلمه حيويا وملحا وجاذبا؛
وإبداع "فيرتوف" سيظل يترك تأثيرات غير محدودة على مجمل تطور الفيلم
الوثائقي
عموما, ومنذ أن عرضت أفلامه في أوروبا في صالات خاصة بـ ( أصدقاء الفن
السابع
)
وجرى نقاشها بشكل مطول وموسع في نوادي سينمائية في بلدان كثيرة ظهر
واضحا للعيان أن
السينمائيين الشبان خرجوا بانطباعات قوية، وهم يطمحون إلى تجميع أفكار
الأفانغارد
بفتوحات "فيرتوف" السينمائية وذلك في مجرى نهر واحد.
"هانز
ريختر" الذي
خطفته السيمفونيات الفرجوية منذ عام 1926 ورفع شعار (الفيلم السياسي ضروري
لنا)،
فكّر أن يحقق "نصف" فيلم وثائقي في (الاتحاد السوفياتي).
"فالتر
روتمان"
ترك أفكاره التجريدية تحت تأثير "فيرتوف" وأخذ يولف أفلاما من المواد
المصورة التي
تقع يده عليها بمبدأ العين السينمائية مثل: (برلين سيمفونية مدينة كبيرة)
1927
و(لحن العالم) 1929، وهي أفلام تخطت الأفانغارد النمساوي في تلك الفترة
وقدمت للعين
السينمائية أفكارا ايجابية، ولكنها قدمت الإنسان بوصفه أنموذجا
بيولوجيا وأفكاره
هذه قادته نحو تبني الفاشية؛ ولكن هذا ليس خطأ "فيرتوف"، إذ ظهر جليا أيضا
أن قوته
لم تكن تكمن قط في الشكلانية الجديدة، وإنما في الطاقة الخلاقة التي نشأت
عنها
أفلامه المثيرة للفكر والجدل.
فتوحات "دزيغا فيرتوف" خلال عشرينيات القرن
الماضي سرعت في تطوير عمليات الأفانغارد نحو المنهج التوثيقي، الذي أخذ
يظهر في
المجمدات من الأشياء، ولكن من خلال الإنسان وعبوره الحر الخلاق نحو علاقات
اجتماعية
لا يمكن أن يقوم من دونها، وقد أصبحت علامة لأفلام فرنسية مثل: (منطقة جورج
لاكومب)
عمله مساعد سابق لـ/ رونيه كلير، و(مناسبة
نيتزا) لـ/ جان فيغو، صوّره: "بوريس
كاوفمان".
المدرسة التوثيقية الانجليزية التي تفتحت في ثلاثينيات القرن
الماضي تأثرت بإبداعات "فيرتوف".
(قوارب
الصيد) لـ/ جون غريرسون، كان واقعا تحت
تأثير وسطوة هذا المخرج الكبير، ولا يمكن تجاهل أن السينما
العالمية لطالما نحتت من
إبداعاته تصورات جديدة عن هذا العالم عبر العقود الماضية، وسوف تتنقل
المصطلحات (الفيرتوفية) بسهولة ويسر بين المصطلحات
الفرنسية والعالمية، فهو لم يخلف وراءه
ثورة في الفن السابع وحسب، ولكنه ترك تأثيرات في المنظومة
البصرية عموما.
والسينما العالمية سوف تعود إليه دائما وتتودد إلى فتوحاته كما لم تتودد
إلى سينمائي من قبل. "اسفير شوب" التي عملت أفلاما بإسم
(الأفلام الوثائقية
المونتاجية) مستخدمة مواد مصورة من أفلام سابقة وتحققت قبل ثورة أكتوبر
البلشفية
قامت هي بوضع لمساتها على أفلام جديدة مثل: (سقوط العائلة رومانوف) 1927
و(الطريق
العظيم) 1927 و(روسيا نيكولاي الثاني وتولستوي) 1928 قدمت من
خلالها أساسات لنوع
جديد من الفن التوثيقي الذي يستخدم أرشيفا مصورا من أجل رواية قصة مفصلة
بالكوادر،
وقد بدا البناء المونتاجي معها أكثر هدوءا من إيقاع "فيرتوف" العصبي الذي
ولد من
إحساس خاص به فقط.
يمكن القول إنه قد ولد فن جديد هنا من خلال الاستخدام
الكامل لأفلام مصورة تقبّله سينمائيون كثر، وهو نوع سمح بحسب تقديراتهم
ببناء متعدد
الأشكال دون حدود أو معيقات، إذ بدا واضحا مدى السهولة في التنقل بين
الشخصية
التاريخية والبروتريه الشخصي والسيرة الذاتية التي تحمل في
طياتها أبعادا فلسفية
خلاقة.
ومع مراكمة مئات آلاف الأمتار من الشرائط المصورة حظي الفيلم
الوثائقي المونتاجي بإمكانات استثنائية للتطور وإشباع نهم
المتفرج الجديد الذي كان
"فيرتوف" يبحث عنه في أفلامه أيضا.
السينما الوثائقية (السوفياتية) من حقبة
العشرينيات من القرن الماضي قدمت أول مصطلح واقعي للسينما الوثائقية،
وأصبحت في
المقدمة الفنية، وهي تثير اليوم أكثر من أي وقت مضى شهية الحديث عنها، وعن
الحقبة
التي اتهم فيها "فيرتوف" بالشكلانية المتطرفة، وجرى الحديث سرا
وعلنا عن "وقوعه" في
فخ أعداء الثورة.. وهو فخ متصالب الأقدار حين لم ينج منه كثر
في تلك الأزمنة
العاصفة.
الجزيرة الوثائقية في
25/08/2011 |