من ناحية مبدئية، من الصعب ان نطالع شيئاً عن حياة مبدع من المبدعين وفي
أيّ
مجال من المجالات من دون ان نكتشف انه عندما رحل خلّف وراءه الكثير من
المشاريع
الإبداعية التي لم يقيّض له تحقيقها خلال حياته. وغالباً ما يكون السبب ضيق
الوقت
او السأم او أيّ ظرف خارجي او داخلي. فالواقع ان الأسباب هنا تتعدد بتعدد
هؤلاء
المبدعين. ولكن في عالم الفن السينمائي من المؤكد ان اسباب عدم تحقيق كثر
من
الفنانين الكبار، بعض مشاريعهم الأعز على أفئدتهم، تختلف كثيراً عن اسباب
الآخرين.
وذلك بالتحديد لأن المشروع السينمائي في حدّ ذاته مشروع مركّب من النادر
جداً ان
يتاح لمبدعه الإمساك بمفاصله كلّها، وغالباً لأسباب مالية انتاجية وفي
مرّات اقل قد
تكون الأسباب فكرية او سياسية. وينطبق هذا في شكل خاص على مبدعي السينما
الكبار من
الذين تحفل سيرهم بمثل تلك الأفلام/الشبح. لقد اعتاد مؤرخو السينما -
ونقادها - حين
يأتون على ذكر هذه المشاريع المجهضة على اعتبارها من اهم «اعمال» هؤلاء
المبدعين
وذلك لسبب واضح: ان المبدع من هؤلاء، حين يحقق أيّ واحد من مشاريعه التي
ترى النور
حقاً، يكون في معظم الحالات قد مرّ بها في مراحل تنفيذ وإنتاج متلاحقة
وخاضعة
لإسهامات عدة من آخرين. وفي العرف الإبداعي تكون كلّ مرحلة مناسبة لتنازل
ابداعي ما -
طالما ان الإبداع السينمائي هو في مقدمة الإبداعات المركبة ! - بحيث ان
معظم
المبدعين الكبار يكونون محقّين اذ يقولون في نهاية الأمر انهم بالكاد
قادرون على
التعرف على ابداعهم بعد انجازه. وتلك هي على اية حال الضريبة التي لا بد
منها لجعل
ايّ مشروع من هذا النوع متحققاً. لكن المشاريع التي ينتهي امرها مجرد
مخطوطات
لسيناريوات تعيش بقية عمرها في محفوظات المبدعين وقلوبهم وعقولهم، لا تدفع
تلك
الضريبة. انها تكمل حياتها ببراءتها الأولى كجزء من ابداع السينمائي لعله
في أغلب
الأحيان الجزء الأكثر أمانة لحسّه الإبداعي وفنّه الحقيقي. ومن هنا ثمة
دائماً في
تاريخ السينما او بالأحرى في تاريخ السينمائيين، مكان متميّز للحديث عن هذه
الأعمال.
وهنا، بدءاً من اليوم، وعلى مدى الملاحق المقبلة، نقدم سلسلة من المراجعات
لعدد
من ابرز الأفلام/الشبح هذه، اخترنا أن نتحدث فيها عن الظواهر الأشهر في هذا
السياق.
ولعل مناسبة نشر هذه السلسلة بالنسبة الينا صدور واحد من اغلى الكتب
السينمائية
ثمناً في التاريخ (نحو 500 دولار للنسخة الواحدة) وهو كتاب ضخم صدر في
الكثير من
اللغات الأوروبية وموضوعه واحد من أشهر الأفلام التي لم تحقق في تاريخ
السينما. هو
فيلم خطط له صاحبه ستانلي كوبريك سنوات طويلة كي يتحدث فيه عن نابوليون،
لكنه في
نهاية الأمر رحل من دون ان يحققه. مشروع «نابوليون» هذا سيكون موضوع الحلقة
المقبلة
من السلسلة. اما هنا فسنعود سنوات عدة الى الوراء لنتوقف عند واحد من اشهر
«نتاجات»
هذه الفئة من الأفلام ونعني بهذا، طبعاً، فيلم «لتحيا المكسيك» للسوفياتي
الكبير
المبدع سرغاي إيزنشتاين... فالبداية ستكون به، اولاً لمكانة صاحبه في تاريخ
السينما
وبعد ذلك لسبقه التاريخي، ثم - وهذا امر في غاية الأهمية - لأن ثمة، وعلى
رغم مما
نؤكد هنا، فيلماً موجوداً بالفعل له العنوان نفسه ويحمل - مبدئياً - توقيع
ايزنشتاين، بل ايضاً ثمة افلام عدة ولدت من رحم هذا الفيلم. فهل ثمة من
سبيل حقيقي
للاعتقاد بأن «لتحيا المكسيك» ليس فيلماً/شبحاً... ما يناقض كل ما نذهب
اليه في
كلامنا هنا؟... لنر!
بين المساعدين والأبناء
تبدأ حكايتنا هنا في العاصمة السوفياتية خلال دورة عام 1979 لمهرجان موسكو
السينمائي. يومها وكان كاتب هذه السطور واحداً من ضيوف المهرجان، فوجئنا
بالاعلان
عن العرض العالمي الاول لفيلم «لتحيا المكسيك» لـ... سرغاي ايزنشتاين.
وبالفعل عرض «الفيلم»،
الذي اعاد تركيبه غريغوري الكسندروف، مساعد ايزنشتاين ومشاركه في كتابة
النص الاصلي للفيلم الذي كان منذ بداية سنوات الثلاثين يعتبر واحداً من
اساطير
تاريخ السينما. طبعاً كان امامنا على الشاشة عمل يحمل في لقطاته وأجوائه
سمات عدة
من عبقرية مخرجه الأصلي، لكنه في مجموعه كان عملاً ثانوي الاهمية. ومن هنا
سرعان ما
طوى النسيان تلك المحاولة الجديدة - والاكثر جدية على اي حال - لإحياء
مشروع
ايزنشتاين المجهض عن تاريخ المكسيك. ونقول هنا «المحاولة الجدية» لأن
الواقع يفيدنا
بأن منذ فشل المشروع واعترف ايزنشتاين بخيبة امله إزاء تجربته الاميركية في
شكل
عام، جرت محاولات عدة (بين عامي 1933 و1954) لصنع فيلم عن الموضوع نفسه، او
اجزاء
منه، تستفيد من ألوف الامتار التي صورها عبقري السينما العالمية وأودعت
كلها في
هوليوود بمعرفة الكاتب ابتون سنكلير، الذي كان في الاصل رائد المشروع
والدافع اليه،
والذي هو الآخر سيكون آخر سنوات الستين، وراء صدور كتاب في غاية الاهمية
عنوانه «صنع
ولا صنع لتحيا المكسيك»، روت فصوله حكاية الفيلم وحكاية ايزنشتاين معه، من
الألف الى الياء. وما جاء في الكتاب يبدو موثقاً ومقنعاً، حتى وإن كان
ينقصه امر
اساسي وهو وجهة نظر ايزنشتاين. ذلك ان الاخير كان رحل عن عالمنا منذ زمن،
وفي قلبه
غصة من حول «لتحيا المكسيك» بين غصات عدة اخرى. اما المحاولات التي نشير
اليها
فأبرزها محاولة سول ليسسر التي اتت بعنوان «عاصفة على المكسيك، إيزنشتاين
في
مكسيكو» و «يوم الموتى» اضافة الى عمل في مجال تصوير جزء من سيرة ايزنشتاين
حققته
المؤرخة والناقدة ماري سيتون بعنوان «زمن في الشمس».
اصل الحكاية
هذا كله قد يبدو في السطور السابقة اشبه بجملة من الكلمات المتقاطعة، لذلك
نعود
لنوضح ان الفكرة قد واتت إيزنشتاين اصلاً بعد لقاء في موسكو جمعه عام 1927
مع
الرسام دييغو ريفيرا الذي كان يزور العاصمة السوفياية ضيفاً على احتفال
السوفيات
بمرور 10 سنوات على انتصار الثورة البولشفية. يومها خلال اللقاء قال ريفيرا
انه
شاهد تحفة ايزنشتاين «الدارعة بوتمكين» وأنه منذ تلك المشاهدة اخذ يحلم بأن
يكون
لتاريخ المكسيك عمل سينمائي مشابه. وهكذا اذا ولد المشروع كفكرة ثم تكرر
ليموت
لاحقاً بعدما صوّر إيزنشتاين 35 ألف متر من الافلام هناك، إذ أبلغه شريكه
الاميركي (ابتون
سنكلير، صاحب رواية «المسلخ» الشهيرة والذي عاد الى واجهة الحياة الأدبية
والفنية في هوليوود قبل اعوام قليلة حين اقتبس السينمائي بول توماس اندرسون
روايته
الشهيرة «بترول» في فيلمه الرائع «سوف تكون هناك دماء») أن المشروع توقف
ولم يعد
مسموحاً له هو نفسه إيزنشتاين، من السلطات الاميركية، بالعودة الى الولايات
المتحدة
وكان القرار يشمل كذلك رفيقي المبدع السوفياتي المصور ادوارد تيسيه
والمساعد غيورغي
الكساندروف.
مهما يكن، فإن مغامرة إيزنشتاين الأميركية هذه كانت بدأت عملياً قبل سنوات،
أي
منذ قرر ايزنشتاين، اثر مشكلات جابهته في وطنه السوفياتي وإثر خلافات عدة
مع سلطات
هذا الوطن الستالينية، ان يذهب الى هوليوود استجابة لدعوة تلقاها من
استوديوات «باراماونت»
للعمل هناك. وهكذا اصطحب معه مساعده الاثير الكسندروف، ومصوره المبدع
ادوارد تيسيه وتوجهوا الى عاصمة السينما. صحيح ان الشركة لم تبخل عليهم
بالمال، اذ
واظبت على دفع مرتب شهري له ولرفيقيه، لكنها عجزت عن الاستجابة لأي من
المشاريع
التي عرضها، فلا هي اقتنعت بتصوره لـ «حرب العوالم» عن رواية هـ. ج. ويلز،
ولا هي
وافقت على مشروع لتحويل رواية «ذهب» لبليسّ سندرارس او «مأساة اميركية»
لدريزر الى
فيلم (وكلها وغيرها كانت مشاريع عرضها ايزنشتاين واشتغل عليها). ازاء هذا
كله بدأ
ايزنشتاين يسأم ويسأل عما اذا لم تكن حاله الجديدة امام «ديكتاتورية رأس
المال»
اسوأ كثيراً من حاله السابقة امام «ديكتاتورية البروليتاريا»؟ وهنا في هذه
اللحظة
بالذات جاءه الفرج: تذكّر السينمائي الفكرة التي كان ريفيرا قد طرحها عليه
قبل شهور
وأخبر بها صديقه الكاتب والمناضل الاشتراكي سنكلير الذي سرعان ما تمكن من
ان يجمع
من بعض الشركات والرأسماليين الاميركيين - ومن بينهم مصانع جيليت للشفرات (!) -
مبالغ تكفي لتمويل فيلم عن تاريخ المكسيك الحديث في وقت كانت فيه
المكسيك على
الموضة.
وهكذا انطلق صاحب «الدارعة بوتمكين» و «اكتوبر» يومها الى المكسيك مع
مساعديه
وبدأ يصور ألوف المشاهد وغايته ان يحوّل كل ذلك في نهاية الامر الى فيلم
طويل جداً،
يرصد تاريخ هذا البلد الفاتن، منذ ديكتاتورية بورفيريو دياز، حتى الثورة
التي
اندلعت بين عامي 1910و1916، مع توقف في النهاية عند تصوير الحال الراهنة
لهذا البلد
الذي كان يعيش زمن تصوير الفيلم فترة لا بأس بها من تاريخه الثوري
التقدّمي، ما
يفسر الاستقبال الرسمي الطيب الذي كان من نصيب الفيلم والطاقم العامل عليه.
لم يكن
الاستقبال رسمياً فقط، بل ايضاً من القوى التقدمية والديموقراطية التي كانت
تهيمن
على الحياة الثقافية الى حد كبير. من هنا اندفع ايزنشتاين في عمله وراح
يصور، في
حماسة شديدة، كل مظاهر الحياة وآثار التاريخ، يستنطق البشر والحجر، ويطل
على
التاريخ القديم والحديث. وكان من الواضح مدى افتتان المخرج بهذا البلد
وتاريخه. اما
المشروع الذي كان يداعب خياله، فكان يقوم على عمل من اربعة اجزاء وخاتمة:
يحمل
الجزء الاول عنوان «فييستا»، والثاني «ساندونغا»، والثالث «ماغوي»، اما
الرابع
فعنوانه «لاسولداديرا»... اما الخاتمة فتتوقف عند مظاهر الحياة والتقدم في
المكسيك
زمن تصوير الفيلم.
وللوصول الى مشروعه الذي كان يتعين عليه، في نهاية الامر، ان يكون مشروعاً
توليفياً، راح ايزنشتاين يصور ما يشبه الخبط عشواء ظاهرياً. اما في
الحقيقة، فإنه
كان يرتب المشاهد والتفاصيل في ذهنه وعلى اوراقه، كما دأبه دائماً. اما ما
يصوره،
فكان يرسله تباعاً الى ابتون سنكلير في الولايات المتحدة. ولكنّ ذلك كله
توقف ذات
يوم في شكل مباغت عند بدايات عام 1932، فيما كان ايزنشتاين يصور بعض
المشاهد
الاخيرة الخاصة بالجزء المعنون «لاسولداديرا»، إذ جاءه النبأ اليقين من
سنكلير:
اوقف تصوير اي شيء آخر. وكان في ذلك بداية النهاية للمشروع، حتى وإن كان قد
اجتمع
لسنكلير عشرات ألوف الامتار من مشاهد وصور رائعة في حاجة الى فنان عبقري
كان اصلاً
احد كبار مبتدعي فن التوليف (المونتاج) ليعيد جمعها وتركيبها محولاً اياها
الى
فيلم، او افلام عدة كبيرة.
العودة قسراً الى الوطن
فشل المشروع، اذاً، وانتهت مغامرة ايزنشتاين الاميركية وعاد صاغراً الى
الاتحاد
السوفياتي ليواجه هناك، ومن جديد، عشرات المشكلات والاخفاقات. اما «الفيلم»
نفسه
فلسوف يكون له كما أشرنا اعلاه مصير آخر تماماً... اذ هناك اليوم، افلام
عدة ولدت
منه - اذا استثنينا فيلم الكسندروف (مفاجأة مهرجان موسكو!) الذي يبدو من
الناحية
التقنية فقط، الاقرب الى ما كان ايزنشتاين يريد قوله، من دون ان يكون
الاقرب الى
الكيفية التي كان ايزنشتاين يريد ان يقوله بها. ومن هنا ذلك التفاوت الكبير
في
الفيلم، بين بيئة اللقطات وبيئة المشاهد والفصول التي ركبت بمعرفة
الكسندروف.
المهم ان سرغاي ايزنشتاين لم ير ابداً نتائج عمله الباهر على هذا الفيلم
الذي
حققه بعد «الاضراب» (1925) و «الدارعة بوتمكين» (1926) و «الخط العام» و «اكتوبر» (1928)،
وقبل ان يعود الى وطنه ليحقق «ألكنسدر نيفسكي» (1938) و «ايفان الرهيب» في
جزءيه، اللذين كانا آخر انجازاته السينمائية ومحور معاركه
الاخيرة مع
الستالينيين.
حياة المبدع بين روائعه وإخفاقاته
على رغم أن سيرغاي إيزنشتاين يعتبر من كبار مبدعي الفن السابع في
القرن العشرين،
من المعروف أنه كان واحداً من أصحاب
الأرقام القياسية بين المخرجين الأقل إنتاجاً
في تاريخ هذا الفن. ذلك أن فيلموغرافيا هذا الفنان، المؤسس الحقيقي للعبة
المونتاج (التوليف)
الذهني في السينما، لا تصل في تعداد الأفلام التي حققها الى عشرة
أفلام... غير أن ثمة في المقابل ما لا يقل عن عشرة مشاريع أخرى صاغ أفكارها
وسيناريواتها بل صمّم مشاهدها وملابسها وديكوراتها من دون أن ترى النور في
نهاية
الأمر. والحقيقة أننا إذ نعرف أن حديثنا عن فنان كان دائم الحركة
وديناميكياً الى
أقصى الحدود ليس في الإمكان القول إن الكسل كان وراء ذلك. أما إذا بحثنا
بموضوعية
عن الأسباب فسنجدها سياسية وإيديولوجية في المقام الأول. فالرجل نشط وعمل
في زمن
اشتد فيه التأزم الفكري والإيديولوجي في وطنه السوفياتي، وانعكس ذلك على
أداء
الفنانين بحيث حوصروا تماماً في بلد كان الإنتاج فيه بيد الحزب الوحيد
وسلطاته.
ولئن كان إيزنشتاين قد تمكن طوال الحقبة الستالينية من تحقيق نحو دزينة من
أفلام
تعتبر علامات كبيرة وتأسيسية في عالم الفن السابع فإنه لم يتمكن من ذلك
بفضل
السلطات القمعية الستالينية بل على الرغم منها. ومن هنا كان تاريخه تاريخاً
للصراعات التي خاضها بمقدار ما كان في الوقت نفسه تاريخاً ابداعياً.
ولد إيزنشتاين عام 1898 في مدينة ريغا ليكون أول احتكاك له بالسينما
حين زار
باريس وهو في الثامنة حيث قيّض له أن يشاهد فيلماً لجورج
ميلياس. ولقد فتنه هذا
الفيلم يومها الى درجة أنه وهو بعد في سن
الطفولة قرر أن يصبح حين يكبر، سينمائياً
ومسرحياً ومشعوذاً خالطاً كلّ هذا في بعضه البعض على «طريقة» ميلياس الذي
سوف
يعتبره، إنطلاقاً من تلك اللحظة، أستاذه الأول والأخير، واضعاً في»الوسط»
كل من راح
يقرأ لهم من كتّاب المغامرات ومن يشاهد أعمالهم من سينمائيي المرحلة ومن
يتأمّل
لوحاتهم من فناني عصر النهضة. ومن طريق كل هؤلاء، كما سنعرف لاحقاً، تكوّنت
لديه
كلّ تلك الثقافة الاستثنائية التي سيكون مزوداً بها بعد مراهقته حين سيبدأ
وفي وقت
واحد تقريباً خوض غمار العمل السياسي الشيوعي والعمل الفني - كما الكتابي
أيضاً -،
متخلياً في سبيل ذلك عن دراسته الهندسة المدنية (التي ستترك لديه آثاراً
نلمحها في
كتاباته الوفيرة كما في عمله السينمائي نفسه. وهو سوف يبدأ هذا العمل بعد
تسريحه من
الجيش واستقراره في موسكو وانطلاقه في العمل المسرحي على خشبات دعاوية
نضالية إنما
منفتحة أمام كل التجارب الجديدة. ونعرف أن السينما دخلت في مسار إيزنشتاين
الإبداعي
أولاً من خلال المسرح نفسه - شرائط مولّفة من أجل المسرحيات - ثم مباشرة
حين حقق
عمله الكبير الأول «إضراب» عام 1924. وهو حقق في العام التالي «الدارعة
بوتمكين»
الذي يعتبر دائماً بين أعظم 10 أفلام في تاريخ السينما. وفي 1927 حقق «اوكتوبر»
ليلحقه بعد عامين بفيلم «الخطّ العام» ثم، بعد مغامرته المكسيكية كان «مرج
بيجين» (1938)،
قبل أن يعود الى الروائع بعملين تاريخيين كبيرين، أولهما «الكساندر نيفسكي»
(1937)
ثم «ايفان الرهيب» بجزأيه، الأول عام 1944 والثاني
الذي لن يكتمل إلا بعد
رحيله (1948) بعشرة أعوام.
الحياة اللندنية في
12/08/2011
وجهة نظر -
ما تبقى منها عبر الضفتين...
لا يزال ألق السينما هناك
باريس – مبارك حسني
ينتصب السؤال من حيث ندري أنه قدر مؤرق: هل السينما في بلداننا العربية
سحابة
حداثة مضمَّخة ببعض ريح جديد لا غير؟ هل هي اكتشاف لاختراع غير
منتظر وغريب وعجيب،
ما لبث أن سقط في الرتابة بعد عقود، وذلك بعد أن تلقفته أفكار عتيقة لا
تريد أن
تلقحها الحداثة؟
لا جواب لهذا السؤال، لكن طرحه يشكل حالة خاصة نسعى كثيراً الى نسيانها
والتغاضي
عنها رغماً عنا، وهي أن السينما ليست فقط أفلاماً تشاهد، مجرد
تسلية عابرة، بعض
العلاقة المستجدة مع الطفولة الذاهبة الحاضرة، كما يريد الكثيرون من نخبنا
الحاكمة
في جميع مجالات تحركهم وسلطانهم. لا، هي تقاليد وأعراف ناضجة وجدية نشأت
برفقة الفن
السابع وبه ومعه. الفيلم يعرض أصلاً ولا يشاهد فقط. هو مجموعة
وسائط فرجة لها
آلياتها وأمكنتها وطرق اشتغالها. لم تأت السينما في علب العرض الدائرية ثم
في أشرطة
الفيديو وأخيراً في الأقراص، انتقل الفيلم من المنتوج ذي الثمن الخيالي
والمؤمّن
بحذر كبير في العلب الثقيلة المجمعة في أكياس خاصة، إلى
الأقراص المتناهية الصغر
الموضوعة في أصغر جيوب المعاطف والتي لا تساوي سوى ثمن زهيد جداً. لكنه لم
يفقد عبر
ذلك التبدل لا قوته ولا أهميته أو قدرته على التأثير والإيحاء. بل أتت
وظلّت فناً
كاملاً وهاماً وجديداً ودشنت مع حلولها طريقة عيش جديدة،
وطريقة مراودة العالم
والحياة بشكل مغاير وسامٍ وقريب مما استولدته واستحدثته الحداثة.
ومنها أن الفيلم يشاهَد في قاعة سينمائية بمواصفات عرض متكاملة ومريحة،
وذلك بعد
اختيار دقيق للوقت وللبرنامج وللفيلم. لا نخرج في أي وقت، ولا
نشاهد أي فيلم. يلزم
الاستعداد قبلا، وبكل ما يتطلبه من تفكير وحساب، فاللحظات التي سيقضيها
المتفرج
أمام فيلم، في قاعة مكيفة، وفي ظلام شامل مساعد، هي لحظات انخراط في حكاية
وفي عالم
بأحداث وشخوص وتشويق ستؤثر عميقاً في المخيلة والرأس والقلب. الفيلم يخاطب
العقل
والقلب والجسد.
في باريس، عاصمة البلد الذي اخترع فلسفة الأنوار عبر روسو وفولتير وديدرو
قبل
ثلاثة قرون، واخترع السينما عبر الأخوين لوميير قبل قرن وعشر
سنين، هذين الاختراعين
اللذين أسسا حياة العالم المعاصر، ما تزال السينما نظرة فلسفية وأدبية تجاه
الوجود
وفرجة وطريقة عيش. قاعات كثيرة في كل ناحية وكل ركن، بعضها تجاري ضخم،
وبعضها فني
خالص، وبعضها مخصص للروائع والأفلام ذات الرسائل، وبعضها
للأطفال والتلاميذ، والبعض
الآخر لاكتشاف الشعوب والأفكار. القاعات هنا لم تفقد وظيفة استدراج الجموع
والجماهير، فالصفوف تستطيل أمام الشبابيك الآلية والتقليدية. والصحف
والإعلام يتتبع
أخبار الجديد والقديم بالنقد والتحليل والتعريف. والأرقام المسجلة كثيرة
وكبيرة
ومدوخة. فيلم للفرنسي الشاب غيّوم كانيه شاهده المليون والنصف
من المشاهدين. وفيلم
المخرج العبقري وودي ألان الأخير، رائعته حول باريس وصل أسبوعه الثاني
والعشرين من
العرض المتواصل. غيض من فيض.
باريس تمنح للنظر رسوخ التقليد وروح العصر، وتطمئن العاشق على قوة السينما
وألقها الدائم. في المقابل، ما يحدث في عالمنا العربي جعل
السينما تنحسر وتقترب من
الاندثار. هذا الشكل القديم الجديد للعيش الذي يمنحه الفن السابع لا يزال
قوياً
وحياً ومؤثراً في عاصمة السينما باريس، لكنه يخلق لدى المشاهد والناقد
والكاتب
القادم من الضفاف الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط، حيث العالم
العربي الشاسع، يخلق
لديه غصة وأرقاً. لأنه لم يعد يتعرف السينما في تحديدها الأول في بلده،
سواء في
المغرب أو في بلدان سينمائية كمصر وتونس وفي كل بلد عربي. هذه البلدان التي
عرفت
السينما منذ بداية ظهورها، وظهرت مع البوادر المشرقة اللامعة
للنهضة الفكرية
والأدبية العربية في كل من القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق، وبودار تأسيس حياة
سياسية
منفتحة في المغرب مع الدستور الأول في بداية القرن السابق.
السينما التي تم إرساؤها
في الجو الحضري العام كمعمار وفن لا محيد عنه يذهب إليها الكل ولم تخلق أي
انزعاج
لأحد. لكنها حالياً تضاءلت إلى حد الامّحاء. في الوقت الذي تطرح باريس
السؤال الآخر
الكبير بطريقة غير مباشرة: هل يمكن المكوث في العالم الحداثي الحالي من دون
سينما؟؟
الجواب هنا ممكن وواضح: لا حداثة من دون فن، ولا فن من دون سينما، لأن
العالم
صورة، ومن لا ينتج الصورة يمّحي، وبالتالي سيخرج لا محالة من
الحداثة ومن عصره. إن
ما يحدث قاس وينذر بوجوب تدارك الأمر. قاعات تتناقص إلى حد الاختفاء في
العديد من
البلدان العربية. الصناعة السينمائية العربية في مصر تتلقى الضربات يوماً
إثر يوم،
ولا تنتج سوى أفلام إضحاك بسيط أو أفلام تقاسي كي توجد حقيقة، ومع هذا،
لنتذكّر ان
مصر هي التي أعطت العالم العشرات من الأسماء السينمائية الكبرى وسبقت تيار
الواقعية
الإيطالية، والتي شكلت ذهنية أجيال متلاحقة من العرب. في تونس
تم الهجوم على قاعة
سينمائية والاعتداء على الحاضرين بدعوى أن الفيلم يناهض المُعتقد. في
الجزائر غاب
خبر أبرز سينماتيك عربية كانت حفلاً سينمائياً دائمَ التألق. في المغرب،
كلما
استطاع فيلم تحريك النقاش العمومي حول ما يضر ويؤلم من ظواهر
مجتمعية مؤلمة، تقوم
قيامة حراس الضمائر الجمعية الذين نصّبوا أنفسهم حماة للمجتمع من دون رأي
أحد، وصار
جزء كبير من السينما عبارة عن أقراص مقرصنة تباع بدراهم بخسة.
نعم، باريس تمنح زائرها حقيقة البلد الأصل. والوقوف أمام قاعة سينما
«المخرجين»
يجعل المقارنة قوية ولازمة، والبحث عن الحلول ضرورة، فمتى تعرف النخبة
الحاكمة في
بلداننا، التي ما تزال ماسكة بالحكم، والتي أمسكت به حالياً بعد الحراك
الكبير لهذه
السنة، بأن الحداثة جزء لا يتجزأ... ولا ينفع كلام من قبيل
السينما النظيفة وحديث
عن أولويات ملحة من دون الحق في التعبير عبر الفن، والفن السينمائي أقوى
وأمضى
وأقرب وسائل الوصول والتعريف والتأثير وتأبيد الإحساس بالكرامة والعدالة
والحرية...
لنصنع أفلاماً في هذا الصدد ولنشاهدها جماعة في طقس احتفالي يجمعنا ويجعلنا
نفكر في
أنفسنا ومستقبلنا ودورنا... فحين يوجد الفيلم توجد الوثيقة والشهادة،
وجمهور العالم
يعرفك أكثر ويتضامن معك حين تقدم له أفلاماً عنك... أفلاماً حرة ومدائن
بقاعات
عديدة.
الحياة اللندنية في
12/08/2011
مسؤولو السينما في إيران «يقتلونها»
بالتلفزيون
باريس - ندى الأزهري
في فيلمه الوثائقي المتميز «إيران، ثورة سينمائية» يقدم نادر همايون عرضاً
تاريخياً موثقاً للسينما الإيرانية مبيناً عبره التحولات
السياسية في إيران وما
صاحبها من تغييرات اجتماعية وثقافية. وفي «تهرون» يصور قاع المدينة وناسها.
صورة
موثقة أيضاً؟ هكذا فُهمت ولهذا أغضبت. لدى همايون الكثير ليقوله عن
المعارضة
السياسية للفنان، عن مواقف المسؤولين السينمائيين في إيران،
وعن رؤيته
للسينما الإيرانية لا سيما منها التي تعرض في الغرب وفي فرنسا تحديداً حيث
يقيم.
وحين تلتقي سينمائياً إيرانياً، لا مفر من التطرق إلى جعفر بناهي
والضجيج الإعلامي الغربي حوله، ومعاناة السينمائيين
الإيرانيين. يقول همايون: في
البدء تجب الإشارة إلى عدم اعتقال أحد من السينمائيين في إيران. لا يوقف
أحد بسبب
فيلم في إيران، بناهي معارض سياسي حقيقي ولهذا اعتقل، لا يعني ذلك أنني لا
أندد
بتوقيفه. بناهي سينمائي وسياسي، حين تطلب من الجميع في مهرجان
تورنتو وضع مناديل
خضراء (رمز الإصلاحيين) فأنت تتصرف كمعارض سياسي. مشكلته لا تكمن في تحقيقه
فيلم «خارج اللعبة» أو «الدائرة»، لم يحتجز لأنه
مخرج. لقد قلنا كل شيء وأي شيء عن هذه
القضية، من نوع «أوقفنا رجلاً بسبب فكرة». هذا ليس صحيحاً، لقد
صور سبعين في المئة
من الفيلم حول التعذيب والسجن المخفي (سجن كانت السلطات تنكر وجوده في
إيران).
والغرب يهاجم إيران باللعب على الأبعاد
الثقافية والسينمائية والفنية لبناهي ناسياً
أنه لم يحاكم بسبب مهنته بل لكونه معارضاً سياسياً. هذا بالطبع
مشرّف له، لكننا
استنكرنا على فنانين آخرين عدم اتخاذ مواقف مشابهة. الآن يجب التأكيد أن
بناهي ليس
مسجوناً كما يظنون في الغرب، وأعتقد أن لن تجرى محاكمة له.
التصريح
المزور
·
ولكن كيف ترى موقع سينما بناهي
في إيران؟
-
بناهي أكثر
من حاز جوائز، إنما من الصعب الآن الحكم على مكانة أفلامه في إيران، فأي
منها لم
يعرض هناك. إذاً نحن دائماً ضمن النظرة التي يوجهها الغرب إلى
سينماه وهذا ضار حتى
بالنسبة إليه. سأعطيك نموذجاً مضاداً: أصغر فرهادي الذي نجح في تقديم نظرة
صائبة
وعميقة عن المجتمع الإيراني، يحدد لنفسه منذ بداية التصوير شرطاً لا يحيد
عنه ويجهد
لتحقيقه: عرض فيلمه في إيران. بناهي قضية معقدة. فما موقعه في هذا المجتمع؟
إنه
معروف لكن معرفته شيء والتواصل مع أفلامه شيء آخر، سينما بناهي
ينقصها هذا البعد.
منع فيلم في إيران لا يمنحه امتيازاً، وفي الوقت نفسه لا يعني عرضه في
إيران بأنه
رديء أو تمّ بناء على تسوية ما. بعضهم لا يشعر بكونه مخرجاً لمجرد أن
أفلامه تعرض
في إيران! المخرج منهم حين تسأله عن فيلمه يبتسم قائلاً «آه لن
يعرض في إيران»! بات
ذلك مرضاً.
·
ماذا عن فيلمك الروائي «تهرون»
الذي لم يعرض في إيران؟!
عرفنا أنك لم تتقيد بالتصريح الذي نلته للتصوير!
-
أردت له العرض هناك لكنني
لم أبذل جهداً لذلك على رغم كل ما أسدي إلي من نصائح. في إيران يستحيل
التصوير من
دون تصريح سواء كان حقيقياً أم مزيفاً. تصريحي كان «مزيفاً»، بمعنى أنني
أعلنت عن
تصوير فيلم وثائقي عن طهران. الشرطي الذي قد يوقفني في الطريق أثناء
التصوير لن
يتعمق في التفاصيل، ما يهمه هو احترام القواعد. لكن المشكلة
تكمن في الإذن بالعرض،
عندها تدرك الإرشاد (وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي) الفجوة بين التصريح
والفيلم.
فيما يخصني كنت مهتماً فقط بالتصريح الأولي
ومن ثم إخراج الشريط إلى فرنسا. لا يجب
إغفال أن السينما اقتصاد أيضاً وفيلمي إنتاج فرنسي مرتبط أكثر
باقتصاد السينما
الفرنسية. بينما سينما فرهادي مثلاً مرتبطة بالاقتصاد المحلي. والمنتج
الإيراني
يريد للعمل أن يعرض داخل البلد. في إيران لا أحد يصوّر من دون تصريح،
والدولة على
دراية بمن يصور، أما ماذا يصور فلا تعرف! إنما التأكيد لسنا
أكثر ذكاء منهم، وهم
كانوا يعرفون بوصولي وكان كل شيء يوحي ظاهرياً بأننا أمام فيلم وثائقي. ولو
أرادوا
حقاً التأكد فما كان عليهم سوى القدوم إلى مكان التصوير. لكن كل ما يجرى هو
«لعبة»
بيننا وبينهم، فالسلطات هناك تدرك جيداً أن هذه الأفلام وكل ما يصاحبها من
«دعاية»
ليس بالأمر الرديء لهم. وبالقليل من الذكاء
يمكنهم الاستفادة من نجاح
الفيلم.
·
مناسبة لتحدثنا عن سيرتك بعض
الشيء، نعرف أنك تقيم في فرنسا
منذ زمن طويل.
-
ولدت في باريس عام 68 وعدت للمرة الأولى إلى إيران ستة أشهر
قبل الثورة، ثم غادرتها بعد أربع سنوات لدراسة السينما في
فرنسا حيث بقيت. غير أني
أعود من وقت لآخر إلى إيران.
·
بعد عرض «تهرون» وفيلمين آخرين
عن إيران
في مهرجان البندقية 2009، صرح معاون وزير الثقافة لشؤون السينما أن إيران
ستقاطع
المهرجانات الغربية في حال أرادت تلك أن تصبح مناسبة لعرض
النشاطات الهدامة ضد
الحكومة...
-
عندما عرض الفيلم في البندقية وسمعت تصريح شمقدري (معاون
الوزير)، ابتسمت لأنه قال ذلك من دون أن يرى الفيلم. كنا حينها
في خضم الحركة
الإصلاحية بعد الانتخابات الرئاسية الإيرانية وكانت الصحافة الغربية تتداول
أخبار
إيران باهتمام زائد.
·
صرح وزير الثقافة الإيراني في
افتتاح مهرجان فجر
الأخير بأن السينما أداة للهيمنة الثقافية، وأن مهمتها تنحية المواضيع
المظلمة
المعدومة الأمل التي تدني الثقة بالنفس، وعلى السينما إظهار الأمل ومعرفة
الله
والجمال... كل هذا يتناقض تماماً مع فيلمك «تهرون»!
-
منذ الثورة والإرشاد
يحاول أن يختلق سينما إسلامية لائقة، لكن معظم ما نجح من أفلام في الخارج،
لا يتبع
سياستهم الفنية تلك. والسينمائيون الذين خرجوا من لدنهم وتعلموا عندهم، مثل
مخملباف
ورضا مير كريمي ومجيد مجيدي وحتى جعفر بناهي في فيلمه الأول (البالون
الأبيض)،
ابتعدوا عن هذا المنحى. كانت أفلام هؤلاء تتبع العقيدة
الأيديولوجية والجمالية
للنظام، ثم سرعان ما تغيروا. ليس من مهام الدولة شرح ماهية السينما، هذه
مهمة
السينمائيين. والسينما تتنوع بقدر تنوع هؤلاء ومن المؤسف أن تقول لهم
الحكومة ما
السينما وما غير السينما! لو رغبوا حقاً بنفع السينما فليصرفوا
عليها من دون أن
يتحولوا إلى ممولين للسينمائيين المقربين من النظام فقط. بلادنا في حاجة
إلى
المدارس السينمائية وليس المطلوب منهم الاهتمام بجمالية الفن السابع! معظم
من يعمل
في مؤسسات السينما الرسمية كشمقدري وغيره اشتغلوا في السينما،
وكانت النتيجة مرعبة
فنياً! إذاً ليس علينا تلقي الدروس منهم! لقد باتوا يفكرون بعد الوظيفة
كسياسيين
وليس كسينمائيين أحرار.
لم يحبوا فيلمي
·
هل أنت راضٍ عن مسار
فيلمك «تهرون»؟
-
ليس تماماً. لكن نجاحه كفيلم أول مستقل يناسبني، لقي حفاوة
نقدية وجماهيرية في فرنسا (35 ألف متفرج)، وعرض في أكثر من
ثمانين مهرجان وحصد
جوائز عدة وفتح لي الطريق لأفلام أخرى. لكن «تهرون» سبب لي وضعاً مربكاً في
إيران.
أردت عرضه هناك ومناقشته مع الجمهور ليس
فقط للتعرف إلى مكاني في السوق الإيرانية
بل أيضاً من أجل كل من عمل فيه. علمت أن المسؤولين لم يحبوا
فيلمي، ودائماً النظرة
نفسها: «فيلم أسود لا يتوافق مع الواقع الإيراني، صنع للسوق الغربية...».
لهؤلاء
علاقة تبسيطية مع الفيلم تقوم على نسبة توافقه مع الواقع، لا مكان عندهم
للتأويل
الشخصي لواقع مجتمع ما، لا فسحة للتفنن (فانتازي)، إذا قدمت
ثلاث عاهرات في الفيلم
فلا يعني هذا ان إيران تمتلئ بهن، بل يعني فقط أنني أردت إظهار ثلاث
عاهرات. لكنهم
ينظرون إلى العمل نظرة سياسية. يرغبون بالأفلام الهزلية أما الجادة منها مع
شيء من
الفانتازي فلا تعجبهم. إن فيلم فرهادي الأخير أكثر سوداوية من
فيلمي.
·
كيف تفسر نجاح أصغر فرهادي مثلاً
داخل إيران وخارجها؟ وما رأيك في أفلام المخرجين
الذين يعرضون في الخارج فقط؟
-
أصغر، كاتب سيناريو ممتاز ينجح في رواية قصة
ويتوجه للمشاهد ويتواصل معه منذ المشهد الأول وهذا جديد. هنا، ليس
السينمائي من
يفرض نظرته للأشياء بل المشاهد الذي يشارك في بناء الفيلم، وهو الذي يحكم
ويغير
رأيه طوال الوقت وعليه أن يختار النهاية بمفرده. أصغر
ديموقراطي. كيارستمي كان يسعى
لإخفاء الإخراج، لا يريد للمشاهد أن يشعر أن ثمة مخرجاً خلف العدسة فالحدث
نفسه
يخلق الإخراج. وعلى رغم اختلاف الطريقتين، أشعر أن فرهادي متأثر بكيارستمي
وبأفكاره
في الإخراج. ومن المناسب في بلد كإيران حيث الكل يحكم على
الكل، أن نقترح فيلماً
ديموقراطياً وحديثاً.
أما سامان سالور (له فيلمان عرضا في فرنسا أخيراً)،
فأفلامه لا تعرض في إيران، ليس لانتقادها المجتمع الإيراني بل
لأسباب اقتصادية.
فيلمه «بضعة كيلوغرامات من التمر من أجل جنازة» جميل جداً ومؤثر، ولكن عدم
عرضه في
إيران منع عن صانعه التواصل الحقيقي مع الجمهور. صناعة السينما
في إيران ضحية
نجاحها ولا دور لعرض أفلام كتلك. وبالنسبة لسامان بقي الجمهور شيئاً
تجريدياً، كان
سعيداً لنجاح فيلمه الأول في الغرب ما جعله يقول «اضرب الحديد وهو حامٍ»
ستة أشهر
بعدها يقوم بعمل فيلم من دون أن يكون لديه الوقت للتفكير للكتابة أو
للتصوير بطريقة
ملائمة فيفشل الفيلم الثاني! ثمة كثيرون حالهم كحاله، يصنعون
فيلماً جيداً في
البدء، ثم بسبب عدم عرضه في إيران لأسباب ليست دوماً سياسية بل مرتبطة
بعوامل
اقتصادية أيضاً، يبقون في حلقة مفرغة.
·
كيف ترى تطور السينما الإيرانية
بعد الثورة؟ وما التغيرات التي طرأت على وضعها في الغرب من وجهة نظرك
الشخصية.
بعد الثورة بدأت مرحلة جديدة. تم اكتشاف قيمة السينما الإيرانية من
البداية، ودام نجاحها سنوات عشرة. ثم حلَّ التعب تدريجاً وبدأت
مرحلة الهبوط. لكن
ما طرأ سياسياً في إيران منذ فترة، أعاد اهتمام الغرب بالبلد، وسلط اعتقال
بناهي
الضوء على السينما الإيراينة في العامين الأخيرين، كما ساهم ظهور أفلام من
نوع
«انفصال
نادر وسيمين» في إعادة السينما الإيرانية إلى الواجهة من جديد مع فارق مهم
وهو أنها أفلام ناجحة جماهيرية. حتى الآن شاهد فيلم فرهادي في فرنسا حوالى
المليون،
وهذا نجاح هائل مقارنة مع فيلم مخملباف «قندهار» (270 ألف)، نجاح سنستفيد
منه وقتاً
طويلاً، سيحفز الموزعين لعرض المزيد من الأفلام الإيرانية.
هكذا هو الحال على
الدوام! نحن الآن إذاً في مرحلة جديدة. نجحنا مسبقاً في معركة الجماليات
لكننا
فشلنا في معركة الإيرادات، حالياً تسود فكرة إنتاج أفلام ناجحة جماهيرياً،
وهذا هو
التحدي لسينما اليوم.
أما في إيران، التي لا أقيم فيها منذ ثمانية عشر
عاماً، فأنا على انفصال تام عن السينما التجارية هناك. لكنّ ثمة قلقاً
حقيقياً على
سينما المؤلف التي تقل أكثر فأكثر وقد أضاعت عشرة في المئة تقريباً من
صانعيها،
بعضهم عجز وبعض آخر غادر إيران. كما ثمة خطر آخر يتمثل في
انشداد الكثير من
السينمائيين الجيدين نحو سينما تلفزيونية وسينما تافهة حيث يكثر المال. في
عهد
الشاه السينما التجارية كانت ذات نوعية، هي الآن للاستهلاك السريع بسبب
التلفزيون.
لقد قررت الدولة قتل السينما الإيرانية بالتلفزيون، وتحويل الجمهور إلى طفل
نُزع
عنه كل صبر وحس ذوقي رفيع. ونرى النموذج في النجاح المرعب الذي ناله فيلم
«إخراجي
ها» (مسعود ده نمكي). يجب قيام نواة صلبة لسينما المؤلف لتقاوم
كل هذا.
·
فيلمك الوثائقي «إيران، ثورة
سينمائية»، لِمَ لم يعرض في إيران؟
-
بسبب
الجزء الخاص بعصر الشاه حيث ثمة صور لم يرضوا
بظهورها، كما انه لا يعطي فكرة حسنة عن الإدارة السينمائية في الإرشاد.
الفيلم
يزعجهم لأنه عن تاريخ السينما عبر الرقابة، وبالنسبة لهم لا رقابة! للأسف
لا أتواصل
مع الجمهور الإيراني، أريد فعلاً العمل كفرهادي ولكنني لا أقيم هناك وهذا
يفرض علي
توجهات أخرى. أنا أحب الفانتازي (التفنن بالفارسية) ولا أرغب
أو أهدف إلى إعطاء
صورة صادقة عن إيران. فيلمي المقبل كوميديا عبثية أستوحي فيها الواقع
الإيراني،
وأصوّر إيران من وجهة نظر زائر فرنسي. لقد انتهيت من السيناريو وسأذهب
قريباً إلى
إيران لأطلب تصريحاً للتصوير.
·
ولكن هل في مقدورك العودة إلى
إيران على
رغم فيلمك «تهرون»؟
-
في مقدور أي كان الذهاب إلى إيران، حرية التعبير
متوافرة لدينا، لكن المشكلة في حرية ما «بعد» التعبير!
الحياة اللندنية في
12/08/2011 |