عرف فريد شوقي أن المعلم زيدان، أكبر تجار سوق «روض الفرج» للفاكهة
والخضار، أقام دعوى قضائية مستعجلة لإيقاف عرض فيلم «الفتوة»، لأنه يشوّه
صورته في السوق وأمام أسرته.
لم يجد محامي فريد شوقي ما يقوله أمام القاضي، فاستأذن فريد هيئة المحكمة
ليقول كلمتين فحسب:
- يا حضرات القضاة… أنا على استعداد تام لتقبّل إيقاف عرض الفيلم…
ومصادرته، وعلى استعداد لدخول السجن… إذا اعترف المعلم زيدان أمام عدالتكم
الآن أنه هو نفسه شخصية «أبو زيد» اللي في الفيلم… لو اعترف فأنا أطلب من
عدالتكم محاكمة هذا الرجل لأنه تلاعب بقوت الشعب، استغله أسوأ استغلال…
وجمع ثروته من الرشوة والفساد من العهد البائد.
حاكموني يا حضرات القضاة… ولكن حاكموه أيضاً.
* إنت شايف يا زيدان إن الشخصية اللي في الفيلم بتتكلم عنك؟
- هو بيلمح وبيحاول يقول إن…
* إنت ولاّ مش إنت؟
- مش أنا يا سيادة القاضي.
* حكمت المحكمة برفض الدعوى وإلزام المدعي بالمصاريف وأتعاب المحاماة… رفعت
الجلسة.
لم يكن الشكر الذي تلقاه فريد شوقي من الزعيم جمال عبد الناصر كافياً، بل
فوجئ بأن اسمه على رأس قائمة المكرّمين في عيد العلم عام 1961.
في القاعة الكبرى في جامعة القاهرة، ووسط ما يزيد على ستة آلاف من الطلاب
وأساتذة الجامعات والوزراء والفنانين والمثقفين، وقف الزعيم جمال عبد
الناصر على منصة التكريم، إلى جواره وزير الإرشاد الدكتور عبد القادر حاتم
ونادى مقدّم الحفلة:
- وسام الفنون للفنان القدير فريد شوقي.
ما إن صعد فريد ليصافح جمال عبد الناصر، حتى ضجّت القاعة بالتصفيق وانطلق
الهتاف:
يعيش فريد شوقي… يعيش فريد شوقي.
ابتسم جمال عبد الناصر وقال لفريد:
* بص لجمهورك يا فريد وحييه.
- ما يصحش يا فندم… ميصحش أدي ضهري لحضرتك.
* لأ… يصح… إنت فنان كبير ومحبوب وجمهورك بيحبك… حيي جمهورك يا فريد.
كانت هدى سلطان تجلس بين صفوف الحضور، تهتف وتصفّق للفنان الكبير الذي نال
تقدير رأس الدولة، غير أن ثمة شخصاً واحداً كان فريد يتمنى أن يكون إلى
جواره على منصة التكريم في هذه اللحظة، هو الوالد محمد عبده شوقي، ليقول له
إن جهوده وتربيته له لم يضيعا هباء وحقق ما كان يتمناه له وأكثر ولم يخيب
ظنه ولا رجاءه، تمنى لو كان إلى جواره في هذه اللحظة أستاذه وصديقه ووالده
ومرشده في الحياة.
ثمن الفرح
لم يكن فريد يعلم أن والده جمع العائلة والأصدقاء في منزله لمشاهدة نجله
وزعيم الأمة يكرّمه، عبر الاختراع الجديد: جهاز التلفزيون، وما إن نطق
مقدّم الحفلة اسم الفنان الكبير فريد شوقي وصعد فريد وتسلّم الوسام وحيا
الحضور، حتى هبّ الأب واقفاً يصفق بحرارة… يضحك… ويبكي… يصرخ في المحيطين
به:
* الزعيم عبد الناصر بيكرم فريد ابني… ده ابني… ابني فريد بقى أكبر فنان في
مصر… لا… في الوطن العربي كله… شايفين… فريد… أنا كنت عارف إن هييجي يوم
وده يحصل… فريد شوقي أهه… الدنيا كلها بتكرمه.
ظلّ الرجل يصفّق ويضحك ويبكي في مشاعر متناقضة ومتلاحقة حتى سقط من شدة
الفرح مصاباً بالشلل الذي ترك أثراً رعاشاً على يديه، غير أنه لم يبال بما
ألمّ به وشعر بأنه يحلّق في السماء عالياً، فخراً وزهواً بابنه، لدرجة أنه
لم يعد يشعر بألم في جسمه بمجرد أن شاهد فريد يقف أمامه يقبّل يديه وقدميه،
ويرتمي في أحضانه ويضع الوسام الذي تسلّمه على صدره… لأنه أحقّ به.
قفز اسم فريد شوقي، ليتقدّم أسماء جيله والأجيال السابقة عليه في أفيشات
الأفلام، حتى لو لم يكن هو البطل الأول في الفيلم، إلا أن اسمه أصبح علامة
تجارية رابحة يتصارع عليه المنتجون والموزعون، فعمل مع كبار المخرجين وقدم:
«العملاق» إخراج محمود ذوالفقار، «نداء العشاق» إخراج يوسف شاهين، «بداية
ونهاية» إخراج صلاح أبو سيف، «النصاب» و»دماء على النيل» مع نيازي مصطفى.
تهافت عليه كبار كتّاب السيناريو، لدرجة أنه لم يعد ثمة مكان في منزله يخلو
من سيناريوهات أرسلها أصحابها طمعاً في أن يؤدي فريد بطولتها أو ينتجها،
فقد أصبح اسمه كمنتج لا يقل أهمية عنه كممثل.
وقعت عينا هدى سلطان على سيناريو فيلم «امرأة في الطريق» فقرأته وطارت
فرحاً به وألحّت على فريد أن ينتجه ويشاركها بطولته، غير أنه كان يفكر في
فيلم آخر يتمنى تقديمه، وصرّح للصحف بأنه يستعد لأداء بطولة فيلم «صلاح
الدين الأيوبي»، فكتب الكاتب الصحافي حلمي سلام مقالاً هاجم فيه فريد شوقي
بعنف وقال:
«كيف لفريد شوقي الذي قدم بالأمس دور «الجلف» في فيلم «الفتوّة» أن يجسّد
شخصية البطل العربي «صلاح الدين الأيوبي»؟!
أُحبط فريد شوقي من هذا النقد العنيف، وكان لهذا الكلام تأثير كبير عليه،
فاستبعد بشكل موقت فيلم «صلاح الدين الأيوبي»، إلا أنه قرّر أن يردّ على
انتقاد هذا الكاتب بعمل تاريخي، فوافق على أداء دور «بلطاي» في فيلم «وا
إسلاماه» أمام أحمد مظهر، الذي أدى دور البطولة، وأخرجه أندرو مارتن.
زوج غيور
نجاح فريد شوقي في هذا الفيلم شجّعه على تقديم هذه النوعية من أفلام
البطولات التاريخية، فتعاقد مع المخرج نيازي مصطفى على تقديم «عنترة بن
شداد» وشاركته البطولة الفنانة «كوكا» زوجة المخرج، فحقق نجاحاً منقطع
النظير، غير أن هدى سلطان ألحّت على تقديم «امرأة في الطريق»، وأمام
إصرارها وافق فريد على إنتاجه ومنح الفرصة للفنان رشدي أباظة ليكون البطل
أمامها.
ما إن عرض الفيلم حتى راحت الصحف تكتب عن المشاهد المثيرة التي جمعت بين
هدى سلطان ورشدي أباظة ضمن أحداثه، فشعر فريد للمرة الأولى ـ على رغم كونه
فناناً ويعرف طبيعة عمل الفنان ـ بالغيرة تدبّ في قلبه، ليس من نجاح رشدي
أباظة في الدور، بل كزوج غيور على زوجته، في وقت كان بدأ التحضير لفيلم
«جوز مراتي»، ولم يختر هدى سلطان لتشاركه البطولة:
* إنت بتقولي إيه؟ مش صحيح… أنا أنتجت لك «امرأة في الطريق» لأني مؤمن بيك
كممثلة عندك موهبة كبيرة… لكن محدش هيصدقنا لو عملنا مع بعض «جوز مراتي».
- ليه… هو أنا مش مطربة زي صباح؟
* المسألة مش إنها مطربة أو لا… المسألة لها علاقة بالصدق الفني على الشاشة
- أنا معنديش صدق فني؟
* يا حبيبتي… الناس مش هتصدق حكاية الطلاق تلات مرات والمحلل لأن الناس
عارفه إننا متجوزين وسعدا والحمد لله… الناس لازم تصدق الفنان متحسش إنه
بيضحك عليها.
لم تقتنع هدى سلطان بما قاله فريد شوقي، لكنها تجاوزت الموقف ولم تتوقف
عنده طويلاً، وراحت تقبل ما يعرض عليها بعيداً عنه، سواء كمنتج أو ممثل،
فقدمت: «صائدة الرجال»، «نهاية الطريق»، «الغجرية»، «العاشقة»، «زوجة من
الشارع»، «سر امرأة»…
الأمر نفسه فعله فريد، من دون أن يثير ذلك حساسية أي منهما، فقدم: «الحاقد»
مع سميرة أحمد، «الرجل الثعلب» مع ريري، «أنا الهارب» مع زهرة العلا،
«النشال» مع شويكار، «رابعة العدوية» مع نبيلة عبيد، «المصيدة» مع عايدة
هلال، «بطل للنهاية» مع ليلى طاهر…
الوحش الرقيق
رافق فريد في هذه الأفلام وفي غيرها الفنان القدير محمود المليجي الذي أصبح
يلازمه بأمر الجمهور وبحبّ كبير من فريد لهذا العملاق الذي كاد أن يقتله
بطريق الخطأ، لولا عناية الله.
ففي أحد مشاهد فيلم «بطل للنهاية» كان يفترض أن يطلق فريد النار من مسدسه
على رئيس العصابة محمود المليجي، وقد اعتاد فريد، منذ بدأ العمل في السينما
وتطلب الدور إطلاق الرصاص، أن يفحص بنفسه المسدس والتأكد من خلوّه من
الرصاص الحقيقي، منذ حادث زميله في المدرسة الذي تسبب في قتل زميل له أثناء
اللعب، غير أنه في هذا اليوم، وبفعل العجلة، نسي أن يقوم بذلك ودارت
الكاميرا، وأطلق فريد الرصاص على رئيس العصابة محمود المليجي، وشاءت الصدفة
أن يكون محشواً برصاص حقيقي لم يتم إفراغه قبل بدء التصوير، وخرجت الرصاصة
ومرّت قرب وجه المليجي فأخطأته وأصابت الحائط… تأكد فريد أن الرصاصة
حقيقية… ولم يتمالك نفسه فسقط مغشياً عليه، بينما وقف محمود المليجي
مبتسماً من الموقف، لم يهب الموت الذي كان على قاب قوسين أو أدنى منه، بل
وقف صلباً شجاعاًَ.. وسارع إلى نجدة فريد قائلاً:
* مكنتش أعرف إن وحش الشاشة قلبه ضعيف قوي كده… قوم يا أخينا كسفتنا… يغمى
عليك من حتة رصاصة ملهاش لازمة؟!
وسط هذه النجاحات المتتالية رنّ جرس الهاتف فجأة، كانت المتحدثة منى ابنة
فريد من زوجته الأولى، تبكي بانهيار:
* الحقني يا بابا… ماما ماتت.
ماتت زينب عبد الهادي، أول حبّ وأول زوجة لفريد شوقي، التهمها المرض اللعين
وهي لا تزال في ريعان الشباب، ماتت وهي محافظة على حبّ فريد في قلبها، فعلى
رغم مرور 15 عاماً على فراقهما، إلا أنها أبت أن تتزوّج بعده وكرّست نفسها
لتربية ابنتها وأغلقت قلبها على حبّ فريد.
حزن فريد كثيراً لموت زينب ولم يعد يستطيع الابتعاد عن ابنته منى لحظة
واحدة، فطلب منها أن تعيش معه وانتقلت العائلة إلى الفيلا الجديدة التي
بناها في منطقة العجوزة في الجيزة، وسط ترحيب هدى سلطان لتنضم إلى شقيقتيها
ناهد ومها، ومعهن نبيلة ابنة هدى.
القرار الصعب
لاحظ فريد أن البنات يكبرن وأصبحن في مرحلة حساسة، ولم يعد مقبولاً أن يظل
وهدى بعيدين عنهن، فقرر مفاتحة هدى في أمر مصيري وهو يخشى ردة فعلها
كفنانة:
* هدى… كنت عاوز أكلمك في موضوع مهمّ هتتوقف عليه حاجات كتير مهمة في
حياتنا.
- خير يا فريد قلقتني.
* لا خير… كنت عاوز أقولك يعني انت عارفه أنا بحبك قد إيه… وبقدرك كفنانة
كبيرة لها اسمها.. لكن أنا شايف…
- شايف إيه؟… ما تتكلم دوغري يا فريد.
* شايف يعني انك تتفرغي شويه للبيت وللبنات… البنات دلوقت في سن حرجة…
ومرحلة مهمة محتاجين فيها لأم مش لداده.
- انت بتقول إيه يا فريد… عاوزني أسيب شغلي؟
* أنا مقلتش كده بالظبط… أنا كنت عاوزك بس تتفرغي شوية للبنات.
- بس أنا مش مقصّره… وبعدين أنا عندي ارتباطات.
* ملكيش دعوة… أنا هخلصلك كل حاجة… وبعدين هعوضك يا ستي… هديكي كل شهر
خمسميت جنيه لك وحدك تحطيهم في حسابك بالبنك بعيداً عن مصاريف البيت.
- أيوه بس المسألة مش مجرد فلوس.
* وكمان أوعدك بشرف أمي… لما يكون فيه دور حلو ومرسوم عليك هنتجه علشانك
فورا من غير كلام.
اقتنعت هدى بكلام فريد وبدأت بالفعل تفاضل وتفكّر طويلاً في كل دور يعرض
عليها، وأصبح حضورها في البيت أكثر من السابق، حتى فريد نفسه بدأ يفكر
كثيراً في كل دور يعرض عليه وأصبح يمضي غالبية أوقاته في البيت بين زوجته
وبناته.
مسرح الريحاني
رنّ جرس الهاتف، ردّ فريد شوقي، كان الطرف الثاني بديع خيري، الشريك
المتبقي بعد رحيل شريكه وبطل فرقته نجيب الريحاني، بل وبعد رحيل بطلها
الثاني نجله عادل خيري، طلب من فريد أن يحضر في اليوم التالي لمقابلته في
المسرح، وعلى رغم دهشة فريد، إلا أنه لم يكن أمامه سوى أن يلبي من دون
مناقشة أو معرفة السبب، غير أن دهشته زادت وتضاعفت عندما ذهب في الموعد
والتقى بديع خيري:
- أنا… انت بتقول إيه يا أستاذ بديع… انت بتكلم فريد شوقي… اللي الناس لما
بتقرا اسمه بتتوقع إنها هتشوف ضرب ومعارك وعصابات… يعني ممكن يموتوا من
الخوف… لكن مش ممكن يموتوا من الضحك!
- بس أنا واثق من نجاحك… والا انت معندكش ثقة في خبرة السنين دي كلها؟
- إزاي يا أستاذ بديع أنا ثقتي فيك ملهاش حدود… بس أنا خايف تكون دي نهاية
الفرقة لأن الناس هتدخل علشان تشوف فريد شوقي اللي بيضرب مش اللي بيضحك.
- يا فريد إنت فنان كبير وممثل… مش مجرد نجم… إنت راجل دارس وخريج معهد
التمثيل… يعني أي دور ممكن تعمله بسهولة.
- أنا صحيح خريج معهد المسرح بس بقالي سنين طويلة بعيد عن المسرح… وعايزني
لما أرجع أرجع أقف مكان نجيب الريحاني وعلى مسرحه؟
- مش هتفرق.
- أيوه… بس ممكن تقولي أطلع خللي الناس تعيط… خليهم يصقفولك على ضرب في
خناقة… مش اطلع ضحكهم…
- خللي عندك ثقة في كلامي… واتوكل على الله
سقطت مخاوف فريد شوقي، وصدق حدس بديع خيري، إذ حقّق «وحش الشاشة» نجاحاً
غير عادي على خشبة مسرح الريحاني، فأعاد إلى الفرقة جمهورها بمساعدة نجمة
مسرح الريحاني الأولى ماري منيب، وتوالى «ربرتوار» مسرحيات الريحاني بطولة
فريد شوقي، وشجعه هذا النجاح على أن يقوم بجولة مع الفرقة ليقدم عروضها في
دول عربية، حتى كانت المحطة الأخيرة في بيروت، وبينما كانت تستعدّ الفرقة
لتقديم آخر عرض لها والعودة إلى مصر في 5 يونيو (حزيران) 1967، إذا بخبر
ينزل كالصاعقة على رؤوس الجميع:
- إسرائيل تشنّ هجوماً برياً وجوياً على مصر وسوريا.
أسقط في يد الجميع، كارثة بكل المقاييس، لا أحد يعرف حقيقة الأمر وإلى أي
مدى وصلت الحرب، وهل ما يسمعونه عبر الإذاعات العربية عن تقدّم مصر وسوريا
هو الحقيقة، أم ما يبث في الإذاعات الغربية عن التفوق العسكري لإسرائيل
وكسب الحرب؟!
تأكد فريد شوقي من حقيقة الموقف عندما عاد إلى مصر مع الفرقة، وسمع خطاب
التنحي للزعيم جمال عبد الناصر. بكى طويلاً وخرج إلى الشارع يهتف مع جموع
الشعب مطالباً جمال عبد الناصر بالبقاء.
أصيبت أشكال الحياة في مصر بالشلل، غير أن الانفراج بدأ يأتي مع أخبار
بطولات الجيش المصري في حرب الاستنزاف، إلا أن الحياة الفنية بقيت متوقفة.
قرر فريد العودة ثانية إلى المسرح، وبدأ الاستعداد لتقديم مسرحية «الدلوعة»
تأليف نجيب الريحاني وبديع خيري، مع المخرج حافظ أمين الذي اختار الفنانة
الشابة نيللي لتشارك فريد شوقي البطولة، ومعهما ماري منيب وأبو بكر عزت
وبقية أفراد فرقة الريحاني.
الزائرة البيضاء
حقّقت المسرحية نجاحاً كبيراً، لدرجة أن الجمهور كان ينتظر خروج فريد بعد
انتهاء المسرحية ليهتف له ويحييه وهو يغادر المسرح، لكن في تلك الليلة
تحديداً، دخل «عم مجانس» (ما زال موجوداً منذ عهد الريحاني) ليخبر فريد أن
إحدى المعجبات تريد أن تلتقي به وتصافحه، فوافق فريد وسمح لها بالدخول إلى
غرفته.
فتاة فارعة الطول، ممشوقة القوام، شديدة البياض، وزادت على بياضها تلك
الملابس السوداء التي ترتديها:
* مساء الخير أستاذ فريد.
- أهلا أهلا… اتفضلي يا فندم… أهلا وسهلا.
* أستاذ فريد أنا من أشد المعجبين بحضرتك… متعرفش إنت إيه بالنسبة لي.
- يا فندم أخجلتم تواضعنا والله.
* دي حقيقة مش مجاملة… مفيش فيلم لحضرتك نزل السينما مشفتهوش… بس الحقيقة
أول مرة أعرف إن حضرتك بتعمل مسرح… أول ماشفت إعلانات المسرحية في الشوارع
جيت على طول أنا وأخواتي نشوفها.
- ده شرف عظيم يا فندم.
* بس أنا عندي رأي في الكام فيلم اللي حضرتك قدمتهم في الفترة الأخيرة.
- أوي أوي.. ياريت اسمع ده هيسعدني جداً.
* ماظنش إن رأيي في الأفلام دي هيسعدك… ده ممكن يخليك تطردني من الأوضة.
- استغفر الله مش ممكن… بالعكس… أنا أحب أسمع النقد قبل المدح ده مفيد جداً
للفنان.
* أيوه بس ليه بتتنازل وبتقدم حاجات كده يعني… بحس إنك إنت نفسك مش راضي
عنها.
- طبعا هو الجمهور دايما على حق… بس اللي ميعرفوش الجمهور إن فيه حاجات
كتير بتحكم شغل الفنان… وأحيانا بتدفعه إنه يعمل حاجات هو مش راضي عنها
وبيكون مضطر يعملها.
* على كل… أنا بحب حضرتك… أقصد بحب كل أدوارك مهما كانت.. ويا ريت لو
تسمحلي بصورة عليها توقيعك.
- أرجوك تقبليها… بس أنا بديهاليك وقلبي بيتقطع.
* لا خلاص أنا آسفه… لو مفيش غيرها خليها
- لا أنا قلبي بيتقطع لأني بحسد الصورة إنها هتفضل معاكي.
خرجت الفتاة البيضاء، غير أنها تركت طيفها إلى جوار فريد شوقي، وتركت
الكثير من التساؤلات، لدرجة أنه نسي أن يسألها عن اسمها، ومن هي؟ وهل هي
مجرد معجبة من آلاف، بل ملايين المعجبات أم وراءها حكاية؟
لم يقف فريد طويلاً أمام هذه التساؤلات، وترك الأيام تجيب عنها… إذا ما
توافرت ضرورة للإجابة، وعاد لتقديم الفصل الثاني، غير أنه هذه المرة بدأ
يركز على مكان المعجبة البيضاء، ويلاحظ ما إذا كانت تضحك أم لا، وإذا كان
أداؤه يسعدها أم لا؟
شعر فريد بأنه مرتبك… كأنه يمثل للمرة الأولى… ماذا حدث؟ ما هذا الإحساس
الغريب الذي ينتابني؟!
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
10/08/2011
الملك الأسطورة (12)..
فريد شوقي… زواج البنات ورحيل الأب وطلاق الحبيبة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي
لم تكن تلك المعجبة البيضاء وحدها التي اكتشفت فجأة أن فريد شوقي فنان
مسرحي كبير وله تاريخ طويل على خشبة المسرح، لكن الأجيال الجديدة من جمهوره
تجهل أيضاً هذا التاريخ المسرحي الطويل بسبب هجر فريد شوقي أبا الفنون
طويلاً وتفرّغه للسينما.
في كواليس مسرحية «دلع البنات» جاء الى فريد من يخبره بأن رجلاً أجنبياً
يريد مقابلته:
- واحد أجنبي بيتكلم إنكليزي اسمه «سمر» عاوز يقابل حضرتك.
* أجنبي!! واسمه سمر… واحد ده ولا واحدة.
- لا راجل.
* بس أنا معرفش حد بالإسم ده… هاتو خلينا نشوف حكايته إيه دا راخر.
كان الزائر المنتج التركي «مستر سمر» الذي جاء يقدّم لفريد عرضاً جديداً من
نوعه على ممثل مصري عربي، لم يسبقه إليه أحد، وربما لم يحظَ به بعده أحد.
راح المنتج التركي يحدّث فريد شوقي عن السينما التركية وتاريخها، وأنها على
رغم ذلك تعاني من قلة الانتشار في المنطقة، خصوصاً المنطقة العربية، ما
جعله يفكّر في الانتقال بها إلى خارج حدودها عبر مشاركة كبار النجوم
والفنانين من دول لها تاريخ في السينما، ويتمتعون بشهرة واسعة:
* أنا أعرف مع من أتحدث الآن… إنت نجم كبير، تتمتع بشهرة واسعة عبر العالم
العربي… ومعروف لدى جمهورك باسم «وحش الشاشة» وستكون إضافة كبيرة الى
السينما التركية.
- أيوه أنا بشكرك على الكلام ده… بس إزاي؟ فيه حاجات مهمة إنت ناسيها أهمها
مشكلة اللغة.
* إنت ستقدم أفلاًما تركية باللغة العربية وسيشاركك فنانون أتراك وسيتم عمل
دوبلاج لهم بالعربية عند عرض الأفلام في الدول العربية، وستتم دبلجة صوتك
بالتركية لعرض الأفلام في تركيا.
- ده كلام جميل… بس أنا ليا شروط.
* الأجر اللي هتحدده هندفعه.
- المسألة مش مسألة أجر… لأ… فيه شروط متعلقة بالعمل.
* شروطك.
- أولاً يكون مؤلف الأفلام مصرياً.
* أوكيه.
- والمخرج وكمان الماكيير و…
وافق المنتج التركي على كلّ شروط فريد شوقي، الذي وجد الفرصة مناسبة لفتح
آفاق جديدة للفنان المصري في بيئة مختلفة، خصوصاً في ظلّ تعثّر السينما
المصرية بسبب أجواء حرب الاستنزاف التي تسيطر على كل شيء في البلد، وقضى
الاتفاق على أن يلحق به فريد شوقي بعد ثلاثة أشهر، ينتهي خلالها من
ارتباطاته الفنية في مصر.
نجح فريد شوقي في مسرحية «الدلوعة» بشكل لافت للنظر، جعل النقاد والصحافيين
يشيدون بأدائه الكوميدي، وهذا ما لفت فريد نفسه الى الكوميديا، وعمّق هذا
الإحساس بداخله هذا الإعجاب غير العادي من تلك المعجبة البيضاء التي امتدحت
أداءه الكوميدي، وشاهد بنفسه ضحكها المتواصل طوال أحداث المسرحية، ما جعله
يفكّر جدياً في تقديم الكوميديا من خلال السينما، غير أن المنتجين
والمؤلفين أصروا على تقديمه في صورة «وحش الشاشة»، فخطرت له فكرة تقديم
بالون اختبار يغيّر فيه من نفسه وصورته أمام جمهوره الذي تعود منه على صورة
محدّدة، ففكّر في نقل مسرحية «دلع البنات» من المسرح إلى السينما، على أن
تشاركه بطولة الفيلم الفنانة نيللي أيضاً، بالإضافة إلى أستاذه الكبير
الفنان يوسف وهبي ومحمود المليجي وتوفيق الدقن، إخراج حسن الصيفي.
التحدي
لم يكن فريد شوقي يطيق الابتعاد عن بناته وقتاً طويلاً، فقرّر أن يسافر
بمفرده إلى تركيا ويخوض التجربة أولاً من خلال فيلم واحد، وينتظر النتيجة
قبل التوقيع على عقود أكثر من فيلم.
كانت نظرة الاستخفاف التي لمحها فريد في عيون الفنانين الأتراك دافعاً
قوياً الى قبوله التحدي، وإثبات قدرات الفنان العربي، فقدّم أول أفلامه في
تركيا بعنوان «بعت حياتي» تأليف الكاتب المصري عبد الحي أديب، إخراج محمد
أصلان، وشارك فريد البطولة كل من الفنانة كاميليا ومجدي نظمي، غير أنه لم
يلق النجاح الذي أمله، وهذا ما جعل فريد يقبل التحدي ويصر على النجاح، فقرر
الاستعانة بالمخرج نيازي مصطفى وقدم معه فيلم «شيطان البوسفور». نجح الفيلم
خارج تركيا نجاحاً كبيراً، ما شجّع النجوم الأتراك على مشاركة هذا الفنان
العربي أفلامه، فقدّم بعده فيلم «عثمان الجبار» تأليف عبد الحي أديب أيضا،
وشاركه البطولة النجمان التركيان هوليا كوسيت ومراد سويدان، وأخرجه التركي
عاطف يلمز، ليكون الفيلم بمثابة قنبلة تنفجر في السينما التركية، فقد حقّق
نجاحاً غير عادي، وأصبح الممثل المصري الذي أعاد الروح الى السينما
التركية، حديث الصحافة وبقية وسائل الإعلام، ما جعل عقود الأفلام تنهال
عليه من شركات الإنتاج كافة، خصوصاً بعد الأرباح الطائلة التي حققها «عثمان
الجبار».
على رغم النجاح الكبير الذي حققه فريد، إلا أن فرحته لن تكتمل بالنسبة إليه
إلا عندما يشعر به الأهل والمقربون والأصدقاء، وتمنى أن تشاركه زوجته
الفنانة هدى سلطان هذا النجاح، أن تكون بجواره في لحظات فارقة في حياته.
أرسل في طلبها، لم تأت… ثم لبت أخيرا الدعوة وجاءت إلى تركيا، غير أنها لم
تكمل شهراً معه وأخبرته بضرورة السفر فوراً إلى مصر:
* إنت بتقولي إيه؟
- اللي سمعته يا فريد.
* إزاي… دا أنا عامل حسابي إننا هنفضل هنا مع بعض الفترة اللي جاية كلها…
خصوصا إني عندي تعاقدات لسنتين قدام.
- طيب إنت هتشتغل… أنا هعمل إيه… هقعد في البيت استنى سي فريد لما يرجع من
الشغل؟
* وماله… هو عيب؟
- لا مش عيب… بس أنا بجد عندي ارتباطات يا فريد… لازم نبدأ تصوير «شيء في
صدري» يوم السبت اللي جاي.
* ارتباطات إيه وشيء في صدري إيه… اللي فهمته من كلامك إن دورك ثانوي… ضيف
شرف يعني مش بطولة.
- تقصد إيه يا فريد؟ أنا فنانة كبيرة وليا اسمي… وإذا كنت إنت فريد شوقي
أنا برضه هدى سلطان.
حزن فريد حزناً كبيراً، ليس لسفر هدى سلطان وتركه وحيداً ما قد يفسد عليه
فرحته بنجاحه، لكن لأن هذه المرة الأولى التي يصل فيها النقاش بينهما إلى
هذا المستوى، شعر بأن شيئاً ما انكسر بداخله، أن تغيراً ما طرأ على هدى،
ليست هذه هدى التي أحبها، قد يكون مخطئاً، ولكنها هواجس كانت تدور في رأسه.
التفاحة الذهبية
استمر فريد في عمله ونجاحاته فقررت غرفة صناعة السينما التركية إقامة حفلة
تكريم خاصة له، تسلّمه خلاله جائزة «التفاحة الذهبية» التي فاز بها في
مهرجان «انتاليا» عن دوره في «عثمان الجبار».
حدث مهم ورائع، لكن لا بد من أن يشاركه فيه أقرب الناس إلى قلبه، فأرسل
خطاباً الى هدى يخبرها بأمر الجائزة والتكريم ويدعوها الى حضور الحفلة، غير
أنها لم ترد ولم تعتذر، فأرسل ثانية، وثالثة، حتى بلغ ما أرسله من خطابات
13 خطاباً، ولم ترد بكلمة واحدة. حضر التكريم وتسلّم الجائزة وصفّقت له
تركيا كلّها، غير أن هذا كلّه كان يمكن أن يكون مذاقه مختلفاً لو أن هدى
كانت بجواره.
كانت عودة فريد إلى القاهرة فيها الكثير من شقائه، فما إن عاد حتى تأكدت له
هواجسه تجاه زوجته هدى سلطان، فقد تبدلت، لم تعد هي التي يعرفها، فتور في
المعاملة والعلاقة:
* مالك يا هدى… فيه إيه؟
- مفيش.
* الجوابات اللي بعتهالك كلها وصلت؟
- آه.
* طب ليه ماردتيش عليا ولو بكلمة واحدة.
- أرد أقولك إيه… باعت تقوللي لو جواباتي زي الجوابات اللي كانت بتيجي من
تونس على أستوديو نحاس… كنت اهتميت بيها وقرأتها بلهفة… عاوزني أرد على
الكلام ده أقولك إيه… وتقصد إيه بالكلام ده؟ أنا مسمحلكش!!
هبت عاصفة قوية على هذا العش الهادئ، وبوادرها تقول إنها ستقتلع في طريقها
الأخضر واليابس، شعر فريد بأن ثمة أصابع خفية تحاول إفساد حياته الزوجية
والفنية، فالكلام تبدّل، والمعاملة تغيّرت، الردود باقتضاب ولامبالاة، بدأت
هدى تسيء معاملة ابنته منى من زوجته الأولى، زينب عبد الهادي، أصبحت تفرّق
في المعاملة بينها وبين ابنتيهما ناهد ومها، غير أنه أرجع ذلك الى تعب
أعصابها بسبب ضغوط العمل، لكن يبدو أن الضغوط لا تنتهي!
تحوّل العش الهادئ إلى جحيم، فلم يعد فريد يطيق الجلوس في بيته، خصوصاً أن
عدوى الخلافات انتقلت بالتبعية إلى بناته منى وناهد ومها واشتدت بينهن،
فترك فريد البيت وأقام في فندق «عمر الخيام». تدخّل شقيقه اللواء أحمد شوقي
لإعادته إلى بيته، لا سيما أن الملازم أحمد المرشدي، أحد الضباط الصغار
الذين يعملون تحت رئاسة شقيقه، كان يريد التقدّم لخطبة ابنته ناهد، وكذلك
المهندس محيي الدين جمال، نجل جمال باشا ضرغام، يريد التقدّم لخطبة ابنته
الكبرى منى، لكن فريد أصرّ على البقاء بعيداً حتى تهدأ نفس هدى سلطان، وقد
اضطر الى مقابلة العريسين والاتفاق على التفاصيل كافة معهما في الفندق.
العاصفة
قرّر فريد أن يكون زواج ابنتيه في ليلة واحدة وفي فندق واحد، غير أن هدى
سلطان كان لها رأي آخر، فقد أصرت أن يكون زفاف ابنتها ناهد في ليلة منفصلة
ومكان منفصل، وكي يمرّر فريد العاصفة وافق وأقام فرح ناهد أولاً، كأنه
«ليلة من ألف ليلة» وعلى رغم مرض والده الشديد، إلا أن الأخير أصرّ على أن
يحضر فرح حفيدته، فأحضره فريد على كرسي متحرّك، ليشارك الجميع فرحتهم،
تماماً مثلما حدث في الأسبوع التالي في فرح مني، باستثناء وحيد، هو حضور
هدى سلطان الفرح في ساعة متأخرة وقرب نهايته، ما ترك أثراً سيئاً في نفس
فريد دفعه الى التفكير بأن العاصفة لا تزال مستمرة ولم تهدأ، غير أنه قرّر
تجاوز ذلك كله، والقفز فوق المشاكل ونسيان ما فات، فيكون زفاف منى وناهد،
بداية لشهر عسل جديد مع شهر عسل ابنتيه، قرّر أن يعود الى بيته، غير أنه
فوجئ برد فعل هدى:
* أنا مش هقدر أعيش في البيت ده.
- ليه بتقولي كده؟ كل ده علشان شوية خلافات بسيطة.
* لا مش بسيطة… احنا مش هينفع نعيش مع بعض تاني.
- إيه؟! معناه إيه الكلام ده؟
* معناه إنك تطلقني.
- أطلقك… انت بتقولي إيه!!
* اللي سمعته…
- ليه… إيه اللي حصل؟
* بعد الكلام اللي انت كتبته في الجواب عن جوابات تونس مينفعش نعيش مع بعض
تاني… وع العموم فؤاد الجزايرلي كان جوزي في يوم من الأيام… مش عشيقي.
- انت بتحاسبيني على لحظة غضب انفعلت فيها؟
* لحظة الغضب خرجت اللي جواك… واللي مش قادر تنساه… علشان كده مينفعش نعيش
مع بعض تاني… طلقني يا فريد.
ظنّ فريد أن شيطاناً سيطر على عقل هدى، وحتماً سيزول ويبتعد عنها، وما
قالته كان مجرد تهديد كي لا يكرّر ما قاله في خطابه الذي أرسله إليها من
اسطنبول، غير أنه أدرك أنها لم تكن تهدّد عندما عاد تلك الليلة ليجد أن هدى
قد رحلت عن البيت ولم تترك فيه شيئاً يخصّها.
فكّر فريد في أنها قد تكون ذهبت إلى بيت ابنتها نبيلة، وبالفعل صدق حدسه،
غير أنها بالغت في رفضها العودة، وأصرت على الطلاق، فلم يكن أمام نبيلة إلا
أن طلبت منه إمهالها فرصة تهدأ فيها أعصابها، وحتماً سينتهي بعدها كل خلاف.
خرج فريد إلى الشارع لا يعرف إلى أين يذهب، ولا كيف يسير، لدرجة أنه لم يعد
يرى شيئاً أمامه، لم يعد يريد سوى أحضان أمه، فلم يطق أن يعيش بمفرده،
بعدما أخذت هدى ابنتهما مها معها إلى بيت نبيلة، عاد إلى حجرته القديمة في
بيت والده، وترك فرصة أخيرة لشقيقه أحمد لإقناع هدى بالعودة… غير إنها
أصرّت على الرفض!
رحيل المُعلم
ترك فريد عمله حتى أنه لم يستطع استكمال فيلم من إنتاجه بعنوان «طريق
الانتقام» كان بدأ تصويره فضاع كل ما أنفقه عليه، لم يعد يذهب إلى مكتبه،
وعرف ثانيةً طريقه إلى حياة الشرب لنسيان ما يحدث له، فقادته الصدفة لأن
يلتقي تلك الليلة بالإذاعي وجدي الحكيم الذي تحدّث إلى فريد بعنف:
* بلاش الفلوس اللي راحت وضاعت بسبب الفيلم اللي وقفت تصويره… وبلاش الناس
اللي بتاكل عيش من وراك… حرام صحتك انت كده بتضيع يا فريد.
- أعمل إيه يا وجدي… مش قادر انسى… بحبها.
* صدقني وهي كمان… بس هي ساعة شيطان.
- مفتكرش!!
* لا أفتكر ونص… وعلشان أثبتلك رح لها المسرح دلوقتي هي شغاله في بروفات
مسرحية «جنون بطة» في مسرح الحرية… رح خدها من أيديها ورح على بيتكم… مش
هتقولك لا.
- انت شايف كده؟
* مفيش غير كده.
لكن حتى هذه المحاولة باءت بالفشل، غير أن الشكوك دبّت في قلب فريد في تلك
الليلة، حول أسباب هذا التمرّد والعناد، عندما لاحظ نظرات غير مريحة من
مخرج المسرحية حسن عبد السلام، فيما كان يصطحب هدى في يده ويخرج بها، قبل
أن تعطيه الكلمة الأخيرة، بأنه لا بديل عن الطلاق!
عاد فريد ثانيةً إلى بيت والده المريض، تمنى لو أنه ارتمى في أحضانه وشكا
له آلامه، واستمع إلى نصائحه، غير أن القدر لم يمهله… فقد رحل أستاذه
وصديقه وحبيبه، وكل شيء له في الدنيا… رحل والده… رحل الرجل الذي استمد منه
فريد قوته وحكمته.
من مسجد عمر مكرم بميدان التحرير، كان فريد في المقدّمة وعن يمينه مندوب
رئيس الجمهورية، وعن يساره شقيقه اللواء أحمد شوقي، وبجوارهم الشقيق الأصغر
ممدوح شوقي مدير الإنتاج الذي يدير مكتب فريد، لتشييع جثمان الوالد إلى
مثواه الأخير.
الطلاق
حضرت هدى عزاء والد فريد، غير أنها لم تنتظر طويلاً، وما إن مرت أيام
العزاء حتى فوجئ بمكالمة من المحامية مفيدة عبد الرحمن تطلبه إلى مكتبها
ليطلّق هدى في هدوء، وينهي الشراكة بينهما في العمل.
استمر الجدل ساعات طوال بين فريد وهدى في حضور المحامية، انتهى إلى أن يكون
نصيب فريد الشركة السينمائية، مقابل أن يتنازل لهدى عن حق الانتفاع بثلاثة
من أهم أفلامهما معاً: «حميدو، رصيف نمرة 5، جعلوني مجرما» والسيارة، وقبل
هذا وذاك… الطلاق!
انهار كل شيء، الحب والزواج، الشركة والأفلام والنجاح، كل شيء ضاع في لحظة،
بكى فريد وبكت ابنتاه ناهد ومها، على ضياع هذه الأسرة السعيدة، وعلى
الزوجين اللذين أسعدا الملايين بفنهما، غير أنهما لم يستطيعا ضمان استمرار
السعادة لنفسيهما.
بعد مرور أسابيع عدة حاولت ابنتهما ناهد فريد شوقي القيام بمساع أخيرة، دعت
الأم إلى العشاء، ودعت الأب للسبب نفسه من دون أن تقول لكليهما شيئاً، كان
فريد على استعداد لقبول الصلح ونسيان ما فات، غير أن هدى كان لها رأي آخر:
* لو أعرف اللي إنت عاوزه تعمليه ده أنا مكنتش جيت.
- اقعدي بس يا ماما واهدي…
* أنا هادية وكويسة حد قالك إني تعبانة؟
- طيب الحمد لله… أعرفك الأستاذ فريد شوقي… يبقى بابا وجوز حضرتك.
* ناهد!!. أنا دلوقت ست مطلقة مش متجوزة.
- اللي أعرفه إن حضرتك لسه في فترة العدة… يعني ممكن…
* كلمة واحدة مش هسمع… أنا لازم أنزل دلوقت… عندي مسرح وميعاد رفع الستارة
قرّب.
- ماما… حرام.
* عن إذنكم.
فشلت المحاولة الأخيرة، وفشلت كل محاولات فريد شوقي لاستعادة نفسه وحياته،
عاد مجدداً الى حياة الشرب والسهر، أهمل كل شيء، أفلامه وشركته، تراكمت
عليه الديون، أصبح مهدداً بالإفلاس، لا يذهب إلى مكتبه، ينام طيلة النهار
ويسهر طيلة الليل يشرب ويدخّن بشراهة، يحاول أن ينتحر ببطء، فلم يعد لشيء
معنى، ما قيمة أن يعمل ويسعد غيره، وهو لا يستطيع أن يسعد نفسه، بل إن قلبه
يتمزّق.
شعرت والدته بأن ابنها سيضيع منها، وأنه لا يريد العودة إلى بيته وأنه يكره
الإقامة فيه، فقررت الانتقال هي وشقيقته الكبرى نفيسة وأولادها، وعمته
شقيقة والده وزوجة الشهيد محمود إسماعيل، ليعيشوا جميعاً معه في الفيلا،
ليملأوا عليه البيت ولا يتركونه لحظة بمفرده، أعادوا ترتيب حياته، وتدخّل
شقيقه ممدوح لإعادة ترتيب عمله، وأقنعه الجميع بضرورة العودة الى حياته
وفنه، خصوصاً بعد أن حضر مدير مكتبه وأكد له أن كل شيء سيضيع، ولا بد من أن
يعود.
ما شجّع فريد على العودة أن ابنتيه منى وناهد تعيشان في شقتين مفروشتين،
وقد وعدهما بتأسيس بيت الزوجية، فلا بد من العودة الى العمل لإنجاز شقتي
ابنتيه، وتنفيذ العقود التي ارتبط بها، خصوصاً أن ثمة عقوداً في اسطنبول لم
ينفذها بعد، ولا بد من العودة الى تنفيذها… لا بد من أن يعود الى نفسه فثمة
دنيا بأكملها في انتظاره.
عاد فريد إلى مكتبه… دخل وجلس وشرب فنجان القهوة، وتصفّح جريدة «الأهرام»،
ووقعت عيناه على خبر صغير في الصفحة الأخيرة من الجريدة:
زواج الفنانة هدى سلطان من مخرج مسرحيتها «مجنون بطة» حسن عبد السلام.
ابتسم فريد، طوى الجريدة، لم يعد حزيناً، شُفي الآن تماماً، أشعل سيجارة،
ونفث دخانها في الهواء، دق باب حجرة مكتبه ودخل سكرتيره الخاص:
* إيه يا حسن… فيه حاجة؟
- فيه واحدة ست ومعاها والدها بتسأل على حضرتك.
* ست مين؟ وعاوزه إيه؟
- هي كانت جت قبل كده وسألت على حضرتك لما كنت ما بتجيش وقالت إنها هتبقى
تيجي تاني.
* متعرفش اسمها الست دي؟
= أيوه هي قالتلي أقول لحضرتك سهير هانم ترك.
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
11/08/2011 |