كان عام 1946 فاتحة خير على فريد شوقي، فقد أدى بطولة عرض مسرحي أمام ملك
البلاد فاروق الأول الذي صفّق له، تزوّج بمن أحب، أوكلت إليه مصلحة
الأملاك تقسيم تركة الأميرة نعمت مختار مقابل مبلغ كبير من المال، واشترى
سيارة للمرة الأولى في حياته.
بدأ فريد وزينب العام الثاني من الدراسة ولم تكن قد مرّت على زواجهما أشهر،
انتظما في الدراسة بحرص شديد، خصوصاً عندما بدأ كبار الكتّاب والمفكرين
والفنانين يضطلعون بمهمة التدريس، من بينهم: الدكتور طه حسين، الدكتور زكي
مبارك، الدكتور محمد مندور، زكي طليمات، جورج أبيض، أحمد علام، فتوح نشاطي
ودريني خشبة وغيرهم.
في منتصف العام الدراسي همست زينب في أذن فريد أنها تحمل في أحشائها ولي
العهد، طار فريد من الفرح، شعر بأنه يريد أن يقول للدنيا كلّها إنه سيصبح
أباً، غير أن زينب طالبته بألا ينشر الخبر في المعهد كي لا يصل إلى العميد
زكي طليمات فيحرمها من الدراسة، وكان بقي على التخرّج أشهر، وهي ستلد خلال
الصيف بعد انتهاء الدراسة.
قرر طليمات أن يكون مشروع امتحان نهاية العام لطلاب السنة الثانية، الذين
يمثلون الدفعة الأولى للمعهد، عملا مسرحياً كبيراً يقدمونه على خشبة مسرح
دار الأوبرا المصرية ويحضره النقاد والصحافيون والكتّاب والمخرجون، ليشهدوا
ثمرة جهده.
«الجلف» المحترف
وقع اختيار طليمات على مسرحية «البخيل» للكاتب الفرنسي موليير لتكون مشروع
التخرّج للدفعة الأولى، فوزّع الأدوار وأعطى دور البطولة للممثل سعيد أبو
بكر ويشاركه: شكري سرحان، حمدي غيث، سميحة أيوب، فاتن حمامة، في الأدوار
الأساسية، وبقية زملاء الدفعة في الأدوار الثانوية.
حزن فريد شوقي، لأنه تمنى أن يكون في دور أساسي ومهمّ لتراه صفوة المجتمع
الفني التي ستحضر هذا العرض، وكانت المفاجأة أن طليمات اختاره ليقدم عرضاً
بمفرده في «الجِلف»، مسرحية ذات فصل واحد للكاتب الروسي أنطون تشيخوف
وتشاركه زميلته عزيزة حلمي التي ستؤدي دور الأرملة «لينا بوبوفا».
إلى جانب الشخصيات التي دعاها طليمات لحضور العرضين على رأسها محمد صلاح
الدين باشا، وزير الخارجية ورئيس مجلس إدارة المعهد، وزير المعارف باعتباره
رئيس لجنة الامتحان، أعطى كل طالب عشر بطاقات لدعوة أهله وذويه وأقاربه
لحضور حفلة التخرّج.
قرر فريد شوقي الاستفادة من هذه الدعوات وألا يعطيها بأكملها إلى الأهل
والأصدقاء، فأرسل خمس دعوات إلى مكاتب خمسة من المخرجين اللامعين: محمد
كريم، أحمد بدرخان، هنري بركات، أحمد كامل مرسي وحلمي رفله، يدعوهم لمشاهدة
الوجه الجديد فريد شوقي، وأبقى على الدعوات الخمس الأخرى لوالديه وأخوته،
غير أنه بينما كان في طريقه إلى المنزل، وقعت عيناه على إعلان كبير عن فرقة
إنكليزية تدعى «نيو فيك» ستقدّم الليلة مسرحية «الجلف».
دفعه الفضول إلى مشاهدة كيف سيقدّم الإنكليز العرض الذي سيؤديه بعد يومين،
وبعد انتهاء المسرحية اتجه إلى كواليس المسرح وصافح أعضاء الفرقة مهنئاً:
* أهنئكم على هذا العرض الرائع… لقد استفدت منه كثيراً.
- اسمي فريد شوقي… ممثل محترف وطالب في معهد التمثيل، وأستعدّ لتقديم العرض
نفسه بعد يومين.
* إكسلانت.
- ويسعدني تشريفكم لمشاهدة العرض على خشبة دار الأوبرا الملكية يوم الخميس
القادم…
* أوكيه… أوكيه… فيري غود.
أعطى فريد شوقي الفرقة الإنكليزية الدعوات الخمس المتبقية معه، ليحرم أسرته
من حضور العرض، في مقابل أن يعرف رأي هؤلاء المحترفين الإنكليز.
انتهى العرض الأول «البخيل»، وبدأ عرض فريد شوقي «الجلف»، شاهد في الصف
الأول الوزيرين، ومعهما زكي طليمات وإلى جواره الفنانة المعتزلة والصحافية
الكبيرة روز اليوسف، ومجموعة من الكتاب والمفكرين، غير أنه لمح في الصف
الثالث أعضاء الفرقة الإنكليزية، فاجتهد قدر الإمكان ليبتعد في أدائه عن
أداء بطل المسرحية الإنكليزي، ولم يشعر بأن العرض انتهى إلا عندما وقف
الجميع وضجّت صالة دار الأوبرا بالتصفيق، وأسدل الستار.
كانت زينب أول المهنئين لزوجها على هذا التفوق:
* ألف مبروك يا فريد… هايل يا حبيبي… ألف مبروك.
- صحيح كنت كويس؟
* لا طبعاً… كويس ده إيه… إنت كنت رائع… أكتر من رائع.
- ده رأي زينب مراتي حبيبتي… ولا رأي الناقدة الكبيرة زينب عبد الهادي؟
* ده مش رأيي أنا لوحدي… ده رأي كل الحضور.
كان زكي طليمات أول من وصل من الحضور إلى كواليس المسرح وبرفقته وزير
المعارف الذي هنأ فريد بحرارة بالغة:
* مبروك يا فريد… مبروك يا ابني… كنت رائع… ألف مبروك إنت أول الدفعة… حصلت
على أعلى درجة.
شهادة روز اليوسف
بعدها دخلت السيدة روز اليوسف، وهنأت فريد على براعته في تقديم الدور، غير
أنها التفتت إلى زكي طليمات وهنأته برسالة واضحة:
- مبروك يا أستاذ زكي… جهد عظيم ورائع.
* دي شهادة كبيرة من فنانة كبيرة لها اسمها وتاريخها… بس أنا كان يهمني
أعرف رأي الناقدة روزاليوسف.
- كلهم اجتهدوا وكانوا رائعين وقدموا شيء محترم… لكن باختصار أنا شفت
النهاردة خمستاشر زكي طليمات على خشبة المسرح… لكن شفت فريد شوقي واحد…
خللي بالك من نفسك يا فريد هيبقالك مستقبل كبير.
فهم زكي طليمات الرسالة بأنه استنسخ 15 نسخة فنية منه، والوحيد الذي أفلت
من هذا الاستنساخ هو فريد شوقي، وأكّد ذلك بطل الفرقة الإنكليزي الذي حضر
ليهنئ فريد قائلاً:
* كنت رائع مستر شوقي… والفرق كان واضحاً بين الشمس المصرية والبرودة
الإنكليزية.
خرج المهنئون وبقي فريد وحيداً أمام المرآة يبدل ملابسه ويتأمل ملامح
النجومية التي رسمها النجاح في هذا اليوم، وفجأة دقّ باب حجرته ودخل المخرج
أحمد كامل مرسي، برفقته شاب أسمر غليظ الملامح ليقدّمه لفريد:
* مبروك يا فريد… كنت هايل… كنت حاسس إني قدام ممثل مخضرم بقاله عشرين سنة
على خشبة المسرح.
- دي شهادة كبيرة متقلش عن شهادة نجاحي في امتحان النهاردة يا أستاذ كامل.
* سيبك من المجاملات دي… خلينا في المهمّ… أقدملك أخوك حسن الإمام… مساعد
مخرج، اشتغل معايا أفلام كتير… شاب موهوب وشاطر… الأسبوع الجاي هيبدأ تصوير
أول فيلم له كمخرج… كتبه زميلك السيد بدير، اسمه «ملائكة في جهنم» وأنا
رشحتك له إنت وزميلتك اللي اسمها فاتن حمامة تشتغلوا معاه.
نجح فريد شوقي، في السنة الثانية بترتيب الأول على دفعته، غير أن الفرص لم
تنتظر تخرّجه في المعهد، فخطفته السينما منذ تلك الليلة، ولم تمرّ أيام على
هذا النجاح الكبير، إلا وأصبح فريد أباً للمرة الأولى، فقد كان يهيئ نفسه
ليكون أبا أحمد غير أن الله رزقه بأنثى، فأطلق عليها اسم منى، باعتبار أن
أحمد ومنى كانا أشهر اسمين منتشرين في الأفلام السينمائية آنذاك.
إلى السينما
شارك فريد مع فاتن حمامة في بطولة «ملائكة في جهنم» أمام سراج منير وزوزو
حمدي الحكيم وأمينة رزق، وفي اليوم الأخير جلس وزميلته فاتن حمامة في
الاستراحة قبل تصوير المشهد الأخير، يتجاذبان أطراف الحديث في موضوع مصيري
ومهمّ ينوي كلّ منهما الإقدام عليه، وإذ بمساعد يوسف وهبي يدخل عليهما
ويلقي في وجههما قنبلة ويختفي بسرعة:
* يوسف بيه بيقوللكم تعدّوا عليه انتو الاتنين بعد ما تخلصوا… هو في
البلاتوه اللي جنبكم.
تبادل فريد النظرات مع فاتن، وهزّ كل منهما كتفه ومط ّشفتيه للآخر تعبيراً
عن عدم فهم شيء مما قاله هذا الرجل، وراحا يسألان بعضهما: ماذا يريد
الأستاذ يوسف منهما؟ هل ثمة أمر أغضبه؟ وهل لذلك علاقة بعملهما في هذا
الفيلم؟ أم شيء متعلّق بالمسرح؟
لم يصلا إلى إجابة عن أي من هذه الأسئلة إلا عندما دخلا البلاتوه ووجدا
أمامهما يوسف وهبي، وما أن شاهدهما حتى ضحك ضحكة عالية فيها بعض السخرية:
* تعالى يا فريد… أهلا أهلا يا كتكوته… اتفضلوا اقعدوا.
- العفو يا أستاذ مينفعش وحضرتك واقف.
* بقيت ممثل محترف يا فريد… وببعتلك علشان تشتغل معايا.
- ده شرف لأي ممثل كبير أو صغير يمرّ من قدام الكاميرا في فيلم لحضرتك.
* بلاش شغل الأونطة ده يا ولد… وانت يا كتكوته تحبي تشتغلي معايا؟
- ده شرف يتمناه أي حدّ يا أستاذ.
* يبقى اتفقنا… الفيلم اسمه «ملاك الرحمة»… خدي ده دورك… هتعملي دور بنتي،
وانت يا فريد هتعمل دور مهم… دور ضابط بوليس… عاوز شغل أحسن من اللي عملته
في مسرحية «بيت تهدم».
صدمة
استمرّ تصوير دور فريد شوقي في الفيلم ثلاثة أيام، بعدها طلب منه يوسف وهبي
أن يمرّ على الحسابات ليتقاضى أجره، فكان 90 جنيهاً! لم يصدق فريد أن هذا
المبلغ الضخم هو أجره في ثلاثة أيام… يبدو أن الدنيا فتحت له ذراعيها،
وأبواب المجد والشهرة والفلوس شُرّعت على مصراعيها… فكان لا بد من أن يتوقف
قليلاً ويعيد حساباته مع نفسه، فقد أصبح ممثلاً محترفاً وتنهال عليه عقود
السينما، ويمكن ألا يقلّ دخله عن مائتي جنيه شهرياً، فلماذا التقيّد بوظيفة
مصلحة الأملاك، التي تأخذ وقته وجهده، فضلاً عن أنه ليس لديه طموح في
الوظيفة ولا يتمنى أن يكون كبير مهندسين أو مديراً عاماً… بل كل طموحاته
وأحلامه في التمثيل، وعندما يفتح له الأخير أبوابه، تقف الوظيفة حائلاً
بينهما!!
لم يناقش فريد هذا الأمر بينه وبين نفسه، بل ناقشه مع شريكة حياته زينب،
ولكنه فوجئ برأيها الصادم:
* مش فاهم تقصدي إيه؟
- أقصد أنك لو استقلت من الوظيفة… تطلقني في نفس اللحظة.
* زينب… إنت بتقولي إيه؟ ده جنان مش كلام ناس عاقلين أبداً… إزاي تربطي
مصيرنا وحياتنا بالوظيفة؟
- لأن الوظيفة هي المضمونة… هي الحياة.
* حياة إيه وموت إيه؟ كل ده علشان عشرة اتناشر جنية كل شهر… أنا بقولك ممكن
دخلنا يوصل أكتر من متين جنيه من السينما بس… تقوللي حياة وموت.
- أنا قلت اللي عندي… ومش مستعدة أغير رأيي.
* ولا حتى علشان خاطر بنتنا منى؟
- ماهو اللي أنا بقوله ده علشان خاطر منى ومستقبلها.
* أنا مش قادر أصدق وداني… زينب عبد الهادي الفنانة اللي بتدرس فن وعاوزة
تبقى ناقدة فنية كبيرة… هي اللي بتقول الكلام ده؟
- أنا دلوقت زينب الزوجة اللي خايفة على بيتها ومستقبل ولادها.
* خايفة من إيه… إذا كان فاتن حمامة اللي هي بنت ولا موظفة ولا معاها شهادة
تانية قررت تسيب المعهد من سنه تانية وتتفرغ للسينما… أبقى أنا أجبن منها
وأخاف على حتة وظيفة لاراحت ولا جت؟
طلاق
لم تقتنع زينب بكل ما قاله فريد ولا بكلام المقربين من الأهل والأصدقاء،
بمن فيهم والد فريد نفسه، الذي كان على اقتناع تام بأن مستقبل ابنه في الفن
وليس في الوظيفة، لكنها أصرت وأصر فريد على موقفه، ولم يتنازل أي منهما…
فوقع الطلاق، وابنتهما منى لم تكن أكملت عامها الأول.
نطق فريد شوقي بكلمة الطلاق، كأنها قنبلة انفجرت في وجهه هو، غير أن آثارها
لم تبدأ إلا عندما ترك البيت على غير هدى، لا يعرف إلى أين يذهب، مجرد أن
خرج إلى الشارع انفجر باكياً وظلّ يمشي لا يعرف إلى أين يذهب، هكذا في لحظة
انتهى كل شيء، قادته قدماه إلى أقرب ملهى ليلي في شارع عماد الدين، نصحه
بعض الأصدقاء بالحلّ الشيطاني:
- اشرب علشان تنسى.
شرب فريد… واعتاد شرب الخمر لنسيان حبيبته التي كان يتمنى أن يمضي معها كل
حياته… لكنها الوظيفة اللعينة التي فرقت بينهما، تذكّر الوظيفة التي انقطع
عنها أكثر من ثلاثة أسابيع، حتى جاءه إنذار بالفصل، وهذا ما كان يتمناه،
غير أنه لم ينتظر قرار المصلحة، بل ذهب فوراً وقدّم استقالته من تلك
الوظيفة التي فرّقت بينه وبين حبيبته التي رفضت التدخلات من المقربين
لإعادة العلاقة بينهما، بل زاد إصرارها بعدما تأكدت أن فريد ترك وظيفته
الحكومية بالفعل.
أراد فريد أن يثبت لزينب أنه كان على حق عندما قرر ترك الوظيفة للالتحاق
بالفن، تحديداً السينما، فقرر أن يعمل بكل طاقته.
طلبه يوسف وهبي مجدداً، لكن للعمل معه في المسرح ولنوعية محددة من الأدوار،
بعدما أعجب به وبأدائه لدور الشرير في مسرحية «الجلف»، فرشّحه لإعادة تمثيل
أدوار ملك الشر في مسرحياته، الفنان محمود المليجي، الذي ترك فرقة رمسيس
والتحق بالسينما، الأمر الذي أسعد فريد لأنه كان معجباً بهذه النوعية من
الأدوار التي سيقدّمها خلفاً لأستاذه محمود المليجي، غير أنه أراد أن يقدّم
نموذجاً مختلفاً للشرير، ساعدته في ذلك ملامح وجهه والصلع الذي بدأ يسري في
رأسه، ومحاولته إبراز جحوظ عينيه مع رفع أحد حاجبيه وخفض الآخر، مؤكداً ذلك
بصوت خشن جهوري، فقدّم الشرير بطريقة تناسب شكله وملامحه، وظهر بهذا الشكل
مع الفرقة في مسرحيات: «بنات الريف»، «أولاد الفقراء»، «أولاد الشوارع»،
«الشيطان»، «رجل الساعة»، و{المائدة الخضراء».
لم يكتف فريد بعمله في المسرح إلى جانب الدراسة، فوصل الليل بالنهار وقبل
كل الأعمال التي عُرضت آنذاك عليه في السينما تحديداً، لدرجة أنه خلال عام
1948 شارك في بطولة ثمانية أفلام في وقت واحد، إذ طلبه المخرج حسن الإمام
في فيلمه التالي، فقدم معه «الستات عفاريت» أمام ليلى فوزي، محمود المليجي،
حسن فائق، ثريا حلمي، وزوزو حمدي الحكيم، ثم عمل مع المخرج عمر جميعي في
فيلم «اللعب بالنار» أمام زوزو ماضي، محمود المليجى، شريفة فاضل، وشكوكو.
لفت أداء فريد شوقي الفنان والمخرج والمنتج أنور وجدي، فطلبه للعمل معه في
دور كبير يكاد يتقاسم معه البطولة، إذ شاركه بطولة فيلم «طلاق سعاد هانم»
أمام الممثلة والمطربة عقيلة راتب فنجح فريد في الدور، ما جعل وجدي يستعين
به في دور شرير آخر في فيلمه التالي «عنبر» أمام زوجته ليلى مراد، وإن كان
في دور أقلّ، إذ قدّمه في دور أحد أفراد العصابة.
اختار المخرج محمد عبد الجواد فريد للأسباب نفسها وفي الدور نفسه في فيلم
«حبّ» أمام حسيبة رشدي، يحيى شاهين، دولت أبيض ومحمود المليجي، ثم طلبه
حسين صدقي في فيلم «القاتل» من بطولته وإخراجه، وعاد يوسف وهبي وطلبه ثانية
في فيلم «رجل لا ينام» من بطولته وإخراجه أيضاً، أظهر فيه فريد شوقي قدراته
كشرير على الشاشة بشكل واضح، ما جعل المخرج الشاب صلاح أبو سيف يستعين به
في فيلمه الثالث، بعدما قدّم فيلمين: الأول قصير بعنوان «نمرة 6» والثاني
بعنوان «دايما في قلبي»، غير أنه قرر أن يكون فيلمه الثالث من النوع
التاريخي بعنوان «مغامرات عنتر وعبلة» أمام كوكا، سراج منير، وزكي طليمات.
مرحلة فارقة
كان لقاء فريد شوقي مع صلاح أبو سيف مختلفاً عن اللقاءات التي سبق أن
قدّمها فريد للسينما، شعر مع أبو سيف بأنه يعمل للتمثيل والفن وليس
للانتشار وجني الأموال، وبأنه مختلف. على رغم أن أحداث الفيلم تاريخية، إلا
أن صلاح أبو سيف حرص على كل كبيرة وصغيرة وعلى أن يكون الأداء واقعياً من
دون مبالغة أو الحاجة إلى رفع الحاجب أو خفضه لمجرد الإيحاء بالشر، فظهر
فريد شوقي مختلفاً للمرة الأولى، لأن الفيلم والإخراج كانا مختلفين عن
السائد، ما رشّح العمل للمشاركة في مهرجان «كان» الفرنسي.
لم يصدّق فريد نفسه، سيُعرض الفيلم الذي شارك في بطولته في أهم وأكبر
مهرجانات العالم القليلة جداً، سيراه كبار الفنانين العالميين الذين طالما
سمع عنهم وشاهد أفلامهم في السينما وصورهم على أغلفة المجلات، سيراه
المنتجون والمخرجون العالميون… مؤكد أن هذه مرحلة فارقة في حياته الفنية،
لا بد من أن يتوقف هنا ويفكّر جدياً في ما سيفعله في المرحلة المقبلة،
ويعيد التفكير في اختياراته لأفلامه وعدم قبول كل ما يُعرض عليه، فقد بات
اليوم على عتبات مرحلة لن يكون فيها جمهوره المصري المحدود هو الحكم على ما
يقدّمه، بل قد تتّسع دائرة هذا الجمهور إلى أوسع مما يتخيّل.
تمنى فريد لو أنه رافق الفيلم وأبطاله وسار على السجادة الحمراء في «كان»
وهو يرتدي «السموكن والبابيون الحمراء مثل كبار النجوم العالميين، غير أن
ما منعه هو امتحانات التخرّج في السنة النهائية في المعهد القومي للتمثيل،
التي خاضها بنجاح كالعادة وكان الأول على دفعته، ولم ينسه حزنه على عدم
سفره إلى دورة مهرجان «كان» (1949)، سوى فرحته بالتخرّج ونيل دبلوم معهد
التمثيل، لتكتمل هذه المرحلة الفارقة في حياته الفنية، غير أن صلاح أبو سيف
لم يرد إنهاءها عند حدّ التخرّج ليغلق بها المرحلة، فقد عاد من باريس
بأخبار… كاد أن ينخلع لها قلب فريد شوقي.
الجريدة الكويتية في
06/08/2011
الملك الأسطورة (8):
فريد شوقي… على طريق الضياع بسبب امرأة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي
نال فريد شوقي دبلوم معهد التمثيل بامتياز، فكانت مكافأة إدارة المعهد
ترشيحه لبعثة لدراسة الإخراج المسرحي في فرنسا، غير أن فريد رفض البعثة بلا
تردد، فالإخراج ليس من طموحاته ولن يكون غير ممثل.
اختاره زكي طليمات هو وشكري سرحان وعمر الحريري ونعيمة وصفي وصلاح
منصور وضمّهم إلى الفرقة القومية، لتقديم جيل جديد من خريجي المعهد بعدما
بدأ كبار أعضائها يتخطّون الستين من العمر، فشعر هؤلاء بأنهم مثل «خيل
الحكومة» يُستغنى عنهم بمجرّد تخرّج جيل شاب من الدارسين في المعهد.
تقدم الفنانون: حسين رياض وأحمد علام وحسن البارودي ومحمود رضا
باستقالاتهم رداً على موقف زكي طليمات، غير أن فريد وزملاءه فطنوا إلى هذا
الموقف فاتخذوا من هؤلاء الكبار أساتذة لهم ورفضوا الاستغناء عنهم وشاركوا
معهم في تقديم أول مسرحية على خشبة المسرح القومي.
هكذا وقف فريد شوقي إلى جوار الفنان حسين رياض في مسرحية «مدرسة
الإشاعات» التي حققت نجاحاً كبيراً، ثم إلى جوار الفنان الكبير جورج أبيض
في مسرحية «صلاح الدين الأيوبي» وجسّد فيها شخصية صلاح الدين، وقد أكدت
المسرحية أن فلسطين ستبقى عربية وسيخرج من يحرّرها بعدما سقطت في أيدي
اليهود بعد حرب 1948، ومع كل عرض كان المسرح يلتهب ويردد الجمهور مع جورج
أبيض وشكري سرحان وعمر الحريري:
* ستبقى فلسطين عربية… في قبضة العرب.
وفي كل مرة كان يُسدل فيها الستار يضجّ المسرح بالتصفيق، لدرجة أن
الستار يرفع ويغلق أكثر من عشر مرات والجمهور يصفّق ويهتف:
* ستبقى فلسطين عربية… في قبضة العرب.
عاد صلاح أبو سيف من باريس في أغسطس 1949، ومعه مفاجأة لم يتوقعها
فريد شوقي، فقد تعاقد على تنفيذ نسخة عربية من فيلم «الصقر» الإيطالي
إخراج جاكوما، بطولة فيتوريو جاسمان وسيلفانا بمبا نيني وفولكو لوللي…
في النسخة العربية، أسند صلاح أبو سيف إلى فريد شوقي دور فيتوريو
جاسمان في النسخة الإيطالية، وإلى الراقصة والممثلة سامية جمال دور سيلفانا
بمبا نيني، وكانت البطولة للفنان الإيطالي فولكو لوللي، الذي أدى دوره في
النسخة العربية الفنان عماد حمدي الذي استقبل فريد شوقي في مطار روما (في
أول رحلة له خارج مصر) لتصوير المشاهد الداخلية أولاً في ستوديوهات روما،
على أن تُصوّر مشاهد الفيلم الخارجية في النسختين العربية والإيطالية
بالكامل في الصحراء الشرقية في مصر ليتعرّف الفنانون المصريون عن قرب إلى
الممثلين الإيطاليين، ولا مانع من تقليدهم ليكون مستوى النسختين متقارباً
بناء على نصيحة المخرج الإيطالي.
غير أن صلاح أبو سيف وفريد شوقي وعماد حمدي وسامية جمال اتفقوا على أن
تكون بصمتهم المصرية والعربية واضحة في الفيلم، ونفذوا ما اتفقوا عليه،
لدرجة أن الفنانين العالميين لم يصدقوا عيونهم وهم يشاهدون أداء فريد شوقي
وفريق العمل، الذي خطا به صلاح أبو سيف خطوات واسعة ومختلفة… فكتب
الصحافيون الإيطاليون الذين حضروا التصوير عن فريد شوقي تحديداً وقارنوا
بينه وبين فيتوريو جاسمان:
«الممثل العربي يتفوّق في أدائه على فيتوريو جاسمان».
الحظ يبتسم
أصبح فريد شوقي نجماً لامعاً من نجوم الفرقة القومية نظراً إلى صدى
المسرحيات التي كان يقدّمها معها، غير أن شهرته فاقت زملاءه لسبب آخر،
فالأفلام التي قدّمها للسينما كان انتهى عرضها من سينمات الدرجة الأولى،
وأخذت طريقها إلى سينمات الدرجتين الثانية والثالثة وروادها من القاعدة
الشعبية العريضة، وبدأ هذا الجمهور يشاهد ذلك الفتى الشرير الذي يقطر شراً
في كل دور يظهر فيه على الشاشة وبصورة تستفزّ المشاعر، فكان لا بدّ من أن
يقف كل من يخرج من دار العرض أمام صورة فريد شوقي في الأفيش ويسأل بمشاعر
مستفزّة:
* مين الواد اللي كان طالع بدور الشرير ده؟
- ده ممثل جديد… بس ابن جنية اسمه فريد شوقي.
بات اسم فريد شوقي يتردّد على كل لسان… وأصبح له معجبون ومعجبات،
يشيرون إليه كلما مشى في الشارع:
* الشرير أهه… الشرير بتاع السيما أهه.
- مش ده فريد شوقي بتاع السيما اللي بيطلع شرير مع العصابة دايماً؟
وإمعاناً في التقرّب من معجبيه، حرص فريد على أن يرتاد من وقت إلى آخر
إحدى دور عرض الدرجة الثانية، ويجلس بين الجمهور لحضور أحد الأفلام التي
يشارك فيها ويخرج بعد العرض وسط عاصفة من التصفيق… فعلى رغم الشرّ الذي
يقدمه في هذه الأفلام، إلا أن الجمهور أحبه ولم يكرهه، نظراً إلى القبول
الذي يتمتع به على الشاشة، فضلاً عن خفّة ظله، وكلما نجح له فيلم وصفّق له
الجمهور يقول بينه وبين نفسه:
* إنت فين يا زينب تيجي تشوفي النجاح اللي بحققه… مش لو كنت وافقتِ
إني أستقيل من الوظيفة وأتفرغ للسينما والمسرح كان زمانا أسعد زوجين في
العالم… وكان زمان بنتنا منى بتتربى بين أبوها وأمها.
لم تستطع الشهرة والفلوس أن ينسيا فريد حبّ زينب الذي سيطر على كيانه
وروحه، كما لم تستطع الحسناوات اللواتي كنّ يلتففن حوله أن يعوّضنه حبّها،
فلم تعد سيارته تخلو من الحسناوات يومياً خصوصاً عندما انتقلت الفرقة
القومية إلى تقديم عروضها في مدينة الإسكندرية، فما أن يخرج من باب المسرح
كل ليلة بعد انتهاء العرض، حتى يجد ثلاث أو أربع حسناوات في انتظاره،
يتشاجرن حول من منهن ستركب إلى جوار فريد، فيضطر إلى اصطحابهن جميعهن في
سيارته ليكملن بقية الليل في «كازينو الشاطبي» المطل على البحر.
ثمن الشهرة
لاحظت راقصة الملهى الأولى سنية شوقي حضور هذا الممثل الجديد كل ليلة
إلى الملهى وبرفقته حسناوات الإسكندرية اللواتي يتشاجرن للجلوس إلى جواره
أو مراقصته، حتى أثار هذا المشهد المتكرر كل ليلة غيرتها، فمن يكون هذا
«الدنجوان» الذي تتهافت عليه الحسناوات؟
لم تكن سنية شوقي بعيدة عن الوسط الفني، فقد سبق لها أن مثلت أمام أم
كلثوم في فيلم «فاطمة»، ومنذ ذلك اليوم أصبحت أم كلثوم إحدى أشد المعجبات
برقصها لدرجة أنها قالت عنها:
* سنية شوقي تغني بوسطها.
عند سماعها هذه الشهادة من أم كلثوم، قررت سنية ألا تكون مثل بقية
الراقصات، فما إن تنتهي من عملها حتى تغادر الملهى فوراً، لا تجلس مع
الزبائن ولا علاقة لها بالسكارى وما يدور في صالة الملهى، غير أنها قررت في
تلك الليلة أن تلقّن هذا الممثل الجديد درساً لن ينساه، وعندما انتهت من
تقديم فقرتها الفنية أرسلت في طلبه:
* أهلا أهلا بالنجم الكبير الأستاذ فريد شوقي… إتفضل أقعد.
- الله يخليك… دي مجاملة لطيفة منك.
* لا أبداً مش مجاملة… دي حقيقة.
- يا ست سنية أنا يا دوب حطيت رجلي على أول درجة في السلّم.
* ده مش كلامي… ده كلامهم.
- كلام مين؟
* الستات اللي ملمومه حواليك وبتقولك كده.
- آاااه… دا تجريح بقى… مش مدح.
* لا صدقني مش بجرح فيك ولا بقلل من شأنك… أنا سمعت عنك حاجات كتير
كويسة خالص… وأنك فنان موهوب وينتظرك مستقبل كبير.
- الله يخليك يا ست… ده من ذوقك.
* صدقني يا فريد إنت صعبت عليّ لأنك مش وش الحاجات دي… اسألني أنا
ياما ورد عليا أشكال وألوان… والطريق ده آخرته الضياع… وانت مش لازم تضيع.
شعر فريد شوقي بصدق كلامها الذي لم ينته في حجرتها في الملهى، بل
تابعاه في سيارته التي راحت تجوب شوارع الإسكندرية، ولم ينتبها إلى الوقت
إلا عندما تلفّتا حولهما فوجدا الناس يشيرون إليهما في الشوارع بعدما ملأت
الشمس سماء الإسكندرية.. فقد ظلا يسيران بالسيارة حتى طلع النهار، ولم ينته
اللقاء إلا بالفطور في حي بحري: «فول إسكندراني وفلافل ساخنة»، وحبّ جديد
وُلد بين فريد وسنية.
حبّ مدمّر
وافق فريد شوقي على الزواج من سنية ولكن بشرط أساسي وحيد هو أن تترك
الرقص نهائياً ولا تفكّر فيه إطلاقاً، فلم تتردد سنية في تلبية هذا الطلب،
إذ تركت الإسكندرية وسافرت معه إلى القاهرة.
لم يعد ثمة من يركب إلى جواره في سيارته سوى سنية شوقي ولا من يقف
ينتظره في كواليس المسرح سوى سنية، وعندما ينتهي من العمل يخرجان لاستكمال
السهرة في ملهى أو عند أحد الأصدقاء، فقد باتت تلازمه مثل ظلّه ولا تفارقه
إلا عند النوم، ولو استطاعت الدخول إلى أحلامه وهو نائم لفعلت، فقد ملأت
الغيرة قلبها وتحوّل هذا الحب إلى طوق يكاد يضيق ليخنق فريد.
لا يقف فريد مع ممثلة ويبتسم، وإذا حدث وكان ثمة مشهد يستدعي أن يظهر
فيه بعض الغرام للممثلة التي تؤدي الدور أمامه على خشبة المسرح أو أمام
كاميرات السينما، تكون كارثة الكوارث، حتى بدأ يُحرج من نظرات زميلاته
الفنانات وهنّ يتجنّبن الوقوف معه أو حتى الابتسام له.
تحوّلت الحياة بين فريد وسنية إلى جحيم لا يطاق، وكانت الخاتمة في
تلك الليلة التي تسلّم فيها فريد «بذلة» جديدة من قماش جديد لم يكن يرتديه
سوى البكوات والباشاوات، وكان شاهد القماش وموديل التفصيل على إحدى بذلات
فؤاد باشا سراج الدين، وطلب من الخياط الخاص به تفصيلها بالموديل نفسه،
وعندما تسلّمها أراد الاحتفاء بها مع سنية فذهبا لمشاهدة فيلمه الأخير
«الصقر» المعروض في سينما «ريفولي» في وسط القاهرة. خرج فريد متجنباً نظرات
المعجبين والمعجبات، تحديداً المعجبات، كي لا يثير غيرة سنية، مع ذلك حدث
ما لم يتمناه، إذ شاهدته إحدى المعجبات وصرخت لصديقاتها:
* فريد شوقي أهه… هاي فريد… بصي بصي… ده لابس بدلة تهوس… مش ممكن
الشياكة دي.
صبّت سنية جام غضبها، ليس على المعجبة ولا على فريد طبعاً، لكن على
«البذلة» سبب هذا الإعجاب، فبعد رجوعهما إلى البيت سكبت عليها «بنزيناً»
وأشعلت فيها النيران!
العودة إلى الفن
أدرك فريد أن حياته تنتهي، فقد حوّلتها سنية إلى جحيم وبدأت بزميلاته
الممثلات ولم تنته عند المعجبات، وبات الجميع يتحاشى الاقتراب منه، لدرجة
أنه بدأ يرفض نصف ما يُعرض عليه من أفلام، فاقتصر دخله على 12 جنيهاً،
راتبه الشهري من الفرقة القومية، مع أنه كان من الممكن أن يتجاوز مائتي
جنيه.
فجأة ابتعد المنتجون عنه ولاحظ ذلك أصدقاؤه المقربون: محسن سرحان
ومحمود إسماعيل وغيرهما، ووصل الأمر إلى يوسف وهبي، الذي أرسل في طلب فريد
فظن الأخير أنه يطلبه للعمل معه في فيلم جديد:
* أخبارك إيه يا فريد…
- الحمد لله يا أستاذ… ماشي الحال.
* الحال ماشي ولا واقف؟
- يعني… شويه كده وشويه كده.
* شوف يا فريد… أنا بحبك وبعتبرك زي ابني… وخوفي عليك وعلى مستقبلك
الفني هو دافعي الأول علشان أقولك الكلام ده… حواء يا فريد هي سبب هلاك
الرجل… خصوصاً إذا كانت امرأة غيورة مثل سنية… هذه المرأة يمكن أن تحطمك…
الغيرة العمياء تحرق كل شيء حولها.
- أنا عارف يا أستاذ… بس حاسس إني عامل زي اللي بيغرق… مش لاقي بر
إرسي عليه… مش عارف أعمل إيه؟
* تخلص من هذه العلاقة… الحب الحقيقي يبني ولا يدمّر… وهذه المرأة لا
تحبك… بل تحبّ نفسها… ولن تهدأ إلا إذا دمرتك… ابتعد عنها… العاقل يا فريد
يا ابني من اتعظ بغيره… وأنا بقولك خلاصة تجربة سنين طويلة… إنت فنان…
والحرية للفنان زي الميه والهوا.
- أيوه بس إزاي… أعمل إيه؟
* إعمل زي الأطباء ما بيعملوا مع مدمن الكوكايين… لو سحبوه من جسمه
مرة واحدة ممكن تحصل له انتكاسة خطيرة… ولكن لا بد من العلاج التدريجي…
انسحب من حياتها تدريجياً…
- حاضر يا أستاذ… مفيش غير كده.
* وقبل ما انسى… خد الرواية دي… ده فيلم جديد اسمه «رجل لا ينام»
بنستعد لتصويره… طبعاً أنا الراجل اللي مش عارف ينام… لكن إنت لك دور كويس
فيه… جهز نفسك… ومش عاوز أي حاجة تأثر عليك ولا على فنك.
نفّذ فريد نصيحة يوسف وهبي، وبدأ يتهرّب من لقاءات سنيّة، فشعرت
الأخيرة بخطته وردّت عليه بأمر لم يكن في الحسبان، حاولت الانتحار وأُنقذت
في اللحظات الأخيرة… مع ذلك لم يتراجع عن قراره، مهما كانت النتائج، وقرر
إغلاق هذه الصفحة من حياته نهائياً وإلى الأبد.
انتهى تصوير فيلم «رجل لا ينام»، غير أن وجود فريد مع يوسف وهبي لم
ينته، فقرر الأخير التعامل معه مجدداً في مسرحياته التي سيقدّمها للفرقة
القومية، إذ استعانت به بعد تدهور إيراداتها علّه يعيد الازدهار إليها
ثانيةً.
عقد احتكار
بدأت الدنيا تبتسم مجدداً لفريد، بعدما زال عنه كابوس سنية شوقي، ولم
يصدّق نفسه عندما زاره مساعد الفنان أنور وجدي في البلاتوه وطلب منه أن
يمرّ صباح اليوم التالي على الأستاذ في مكتبه في عمارة «الإيموبليا» في
شارع شريف.
هذا معناه فيلم جديد بطولة أنور وجدي وليلى مراد، وأفلام هذا الثنائي
«تكسر الدنيا»، ويقبل عليها الجمهور بشغف، ومن المؤكد أنه سيعوّض الأيام
التي تراجعت فيها أسهمه بسبب التفرغ لحبّ سنية وغيرتها. قبل الموعد كان
فريد شوقي في مكتب أنور وجدي:
* فريد شوقي في مكتبي… لا… لا… ده إيه السعادة اللي أنا فيها دي… أهلا
أهلا فريد.
- أهلا بك يا أستاذ أنور… أكيد السعادة دي من نصيبي أنا لمجرد أني
أدخل مكتب الأستاذ أنور وجدي.
* شوف يا سيدي… بدون مقدمات وعلشان مضيعش وقت… إنت هتشتغل معايا في
فيلم جديد.
- كالعادة طبعاً إنت ومدام ليلى.
* انت مش من هنا ولا إيه…. يا بني الدنيا كلها عارفه إننا اتطلقنا… بس
ده ما يمنعش إننا ممكن نشتغل مع بعض.
- خسارة كبيرة… أنور وجدي وليلى مراد ثنائي ماشفتش ولا هتشوف زيه
السينما المصرية.
* أنور وجدي موجود ويقدر يعمل المستحيل… بس سيبك من الكلام اللي
مايأكلش عيش ده… خلينا في المهم… الفيلم اسمه «أمير الدهاء»… فيلم تاريخي
عن قصة «الكونت دي مونت كريستو».
- الله أكبر… أهو كده يا استاذ… نقلة كبيرة قوي.
* سيبك من النقلة الكبيرة… وخلينا في النقلة اللي انت هتاخدها… أجرك
كام في الفيلم دلوقت.
- الحمد لله… أجري في آخر فيلم عملته مع يوسف بيه كان متين جنيه.
* لا.. دا انت باين عليك مجنون… ليه؟ «الكونت دي مونت شوقي»… إنت
هتشتغل مع أنور وجدي… متين جنيه مين يا حبيبي… وبعدين أنا مش بيه زي يوسف
بيه… أنا راجل منتج… وعندي مصاريف كتير… وده فيلم تاريخي… شوف… همّا خمسين
جنيه حلوين قوي.. ألف مبروك إمضِ العقد يا فريد… أمضِ.
- أيوه يا أستاذ.. بس أنا فعلا أجري…
* إمضِ يا فريد… دا انت أمك دعيالك علشان هتشتغل مع أنور وجدي… امضِ.
لم يتردّد فريد شوقي كثيراً في قبول هذا المبلغ الهزيل، الذي لم يصل
إلى أجر أول أفلامه، لكنه وقّع العقد عن طيب خاطر، فهو يعرف أنور وجدي
وقيمته كفنان وقيمة أفلامه وكيف يستقبلها الجمهور.
في اليوم الأخير من تصوير الفيلم فوجئ فريد برفض مدير الإنتاج دفع
القسط الأخير من أجره، وأكد له أن هذه تعليمات الأستاذ أنور، وأنه يريده أن
يمرّ عليه في المساء في مكتبه.
اندهش فريد من هذا الطلب، وظنّ أن وجدي يريد أن يخفّض أجره ثانيةً
بحجة أن تكاليف إنتاج الفيلم زادت على الحدّ، وقرّر تخفيض أجور الممثلين،
فليست المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك، غير أن دهشته زالت وخاب ظنّه بمجرد
أن التقى وجدي في مكتبه:
* يا ابن الإيه… دا انت ممثل جامد قوي يا فريد.
- من بعض ما عندكم يا أستاذ… إحنا لسه بنتعلم… وبعدين كله بفضل
توجيهاتك.
* قوللي يا فريد إنت خدت أجر كام في الفيلم ده؟
- ما حضرتك عارف… خمسين جنيه… وصلني خمسة وتلاتين.. وفاضل القسط
الأخير خمستاشر… لو حضرتك شايف يعني إنهم…
* لا… لا… هتاخدهم دلوقت… دا إنت يا راجل تستحق أكتر من كده بكتير…
لولا بس هي ظروف الإنتاج يعني.
- كتّر خيرك يا أستاذ.
* علشان كده أنا حابب أعوّضك عن الفيلم ده… مش بفيلم جديد… لا… بخمسة.
- مش فاهم!!
* باختصار دول خمسة عقود لخمسة أفلام… هتشتغلهم معايا… نعملهم في سنة
نعملهم في اتنين في تلاتة… إنت وحظك… المهم إن حقك محفوظ، الأول بميت جنيه،
والتاني مية وخمسين، والتالت متين، والرابع متين وخمسين، والخامس تلتمية…
إيه رأيك يا بطل.
وجد فريد شوقي العرض مغرياً جداً، يتمناه أي فنان، ومن الممكن أن
يقدّم الأفلام الخمسة في عام واحد وتكون قفزة إلى السماء، غير أنه ما إن
وقّع العقود، ووضعها أنور وجدي في خزينة مكتبه حتى قال له:
* ماهو الواحد يا فريد ياخويا لازم يبص لقدام… إنت ممثل شاطر… وفيلم
والتاني ممكن ألاقي أجرك وصل ألفين تلات تلاف جنيه… يبقى ابني في إيدي
وأروح أدور عليه؟!
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
07/08/2011 |