ودّع فريد شوقي الصمت، وأصبح في كل الأدوار التي يؤديها في مسرح يوسف وهبي
كومبارساً متكلماً، قد يختلف شكل الدور، بين خفير أو عامل بسيط، أو حتى
عسكري، وقد يختلف حجم ظهوره فوق خشبة المسرح ومساحة الكلام، من جملة إلى
اثنتين على الأكثر، ولكنه متكلّم.
إحساس عارم بالسعادة، أن يوافق يوسف وهبي على أن يصبح فريد شوقي ممثلاً
متكلماً في مسرحه، لكنه في النهاية مجرد واحد من مجموعة كبيرة من الذين
يؤدون هذه النوعية من الأدوار، ومن الممكن أن يظل هكذا سنوات طويلة، قد
يعرفه الأصدقاء والأهل والمقربون، لكن لن يعرفه الجمهور، لن يكون مثل هؤلاء
الذين تعلّق صورهم في مدخل المسرح داخل نجمة كبيرة تشير إلى نجوميّتهم،
ويلفّها إطار مذهب.
اختفت لحظات السعادة بالتحوّل من كومبارس صامت إلى متكلّم، وبدأت لحظات
اليأس، والسؤال: متى يصبح فريد مثل هؤلاء؟
بدأ يوسف وهبي بروفات مسرحية جديدة بعنوان «بيت تهدم»، وكالعادة كان دور
فريد شوقي فيها «العسكري» فحفظ الجملة التي يقولها جيداً. بدأ وهبي بروفات
الحركة، حيث يقوم هو بدور أب «مجرم» يطارده البوليس، غير أنه في النهاية
يتم القبض عليه، وتشاء الأقدار أن من يلقي القبض عليه هو ابنه، ويتم ذلك في
مشهد ميلودرامي مؤثر للغاية، لا بد من أن ينتزع الدموع من عيون المتفرجين
وأن يستقبلوا ذلك بعاصفة من التصفيق.
أجرى وهبي بروفات عدة على هذا المشهد تحديداً، مع ذلك الممثل الذي يؤدي دور
الضابط، وفي كل مرة كان يصيح وهبي بعنف وغضب شديدين:
* زفت… مش ممكن كده… يا أخينا شوية إحساس… ده انت أداءك بيخرجني من
اندماجي… فتخيل ممكن يعمل إيه في هذا الجمهور المسكين الذي يدفع تذكرة
المسرح من أجل الاستمتاع فإذ به يجدك تقدم أداء كوميديا، من الممكن أن يجد
أفضل منه في الروايات الهزلية.
- يا أستاذ أنا ببذل أقصى ما…
* انت لا تبذل… انت تأخذ من وقتي ووقت هؤلاء الأفاضل… اسمح لي أقولك إنك
ممثل كوميدي ضل طريقه إلى التراجيديا.
الاحتراف
قرّر وهبي الاستغناء عن هذا الممثل فوراً ليمنحه الفرصة في مسرح يبحث
جمهوره عن الضحك وليس البكاء، لكن دوره أساسي في الرواية، وهذه هي البروفة
الأخيرة، وافتتاح الرواية في اليوم التالي…
وقف الجميع كلّ في مكانه في انتظار قرار وهبي، هل سيتم التأجيل الى حين
العثور على فنان يستوعب هذه الأحاسيس والمشاعر التي يمتلئ بها الدور، أم
سيتم إلغاؤه؟
صمت وهبي، وقطع خشبة المسرح ذهاباً وإياباً، ثم توقّف والتفت إلى فريد شوقي
وصاح فيه:
* انت اللي هتعمل الدور ده يا فريد… حافظ الدور.
ساد الصمت بين الجميع الذين ألجمتهم الدهشة، وراحوا يتبادلون النظرات بأعين
جاحظة، بمن فيهم فريد شوقي نفسه الذي لم يصدّق ما سمعه، فلم ينطق ولم يجب
عن سؤال وهبي، فكرّره عليه:
* حافظ الدور ولا لأ؟
- أنا حافظ الرواية كلها يا أستاذ.
* خلاص… جهّز نفسك… ذاكر الدور كويس الليلة واحفظ الحركة… وخليك جاهز
للافتتاح بكره.
ألقى يوسف وهبي بالقنبلة في وجه فريد وانصرف… تركه زائغ العينين، لا يعرف
ماذا يقول أو ماذا يفعل، حتى أنه لم يترك له فرصة للاعتذار، كذلك وجد أعضاء
الفرقة يلتفون حوله يواسونه ويعزّونه بدلاً من تهنئته بهذه الفرصة التي لا
تحدث إلا مرة واحدة في كل جيل… إذ أشفقوا عليه من هذا الامتحان الصعب الذي
ستكون نتيجته أن يغادر الفرقة لامحالة، وإلى غير رجعة بعد فشله في الدور،
ومؤكد سيفشل، فإذا كان الأقدم والأفضل منه في الفرقة قد فشل خلال البروفة،
فماذا سيفعل هذا المسكين غداً في الافتتاح؟!
* شد حيلك يا فريد.
- معلش يا بني… ربنا معاك.
- اللي عاوزه ربنا هيكون يا فريد متشلش هم.
لكن بالنسبة الى فريد شوقي فجاءت الفرصة التي طالما حلم بها، وهو على ثقة
بأنه قادر على القيام بها، وقد عرف النتيجة مسبقاً من خلال نظرات وهمسات
كبار نجوم الفرقة: أمينة رزق، علوية جميل، محمود المليجي، فاخر فاخر، حسين
رياض، وغيرهم.
لم ينم فريد ليلته، راحت جملة يوسف وهبي ترن في أذنيه، وتقابلها كلمات كبار
الممثلين بالفرقة… ماذا سيفعل؟ ولماذا اختاره يوسف وهبي ولم يختر ممثلاً
آخر له خبرة كبيرة في الفرقة؟ هل يمتنع عن الذهاب إلى المسرح ويختصر الطريق
ويوفر الكلام الذي سيسمعه، ويتجنّب طرد يوسف وهبي له أمام الجميع مثل
الممثل الذي سبقه؟ الكارثة أن الطرد هذه المرة سيكون الجمهور شاهداً عليه،
فيوسف وهبي لا يتورّع أن يفعل ذلك أمامه من دون أدنى اعتبار لأي أحد.
قبل موعد رفع الستار بثلاث ساعات كان فريد شوقي يجلس في حجرة تبديل الملابس
بالمسرح، ارتدى ملابس الدور، وضع الماكياج، وظل جالساً يراجع الحوار، بدأ
توافد الفنانين المشاركين في المسرحية، ودخل كلّ منهم يلقي بالسلام عليه
وليس على ألسنتهم سوى دعاء واحد: «ربنا معاك»، وهم يتحاشون أن تقع أعينهم
في عينيه.
وصل يوسف وهبي، نظر في عيني فريد شوقي طويلاً، ولم ينطق بكلمة واحدة، ولا
حتى بكلمة تشجيع، اكتفى بهذه النظرة، ثم ابتسم نصف ابتسامة وهزّ رأسه وغادر
الحجرة.
ارتفع الستار، وجرت أحداث المسرحية سريعة متلاحقة، غير أنها مرت بطيئة
ثقيلة عندما بدأ مشهد فريد شوقي مع يوسف وهبي… هكذا شعر فريد، الدقائق لا
تمر، غير أنه لا يريد أن ينتبه إليها… وقف أمام وهبي، قدّم المشهد من دون
أن ينظر في عينيه… جاءت اللحظة الحاسمة، وخرّ وهبي (الأب في أحداث الرواية)
راكعاً متوسلاً أمام فريد شوقي (الضابط الإبن)، الذي أصرّ على تنفيذ
القانون حتى ولو على والده… هنا ضجت قاعة المسرح بالتصفيق، ووقف الجمهور
مصفّقاً، لم يصدّق فريد شوقي نفسه، هل هذا التصفيق كلّه له؟ لقد نجح إذن…
لكن يبقى رأي الأستاذ. لم ينتظر فريد طويلاً ليعرف رأيه، الذي جاء سريعاً.
أمسك وهبي يد فريد وتقدّم به إلى مقدمة خشبة المسرح يقدّمه للجمهور… راح
جسد فريد كلّه ينتفض، هل يحلم؟ يوسف بك وهبي يمسك بيده ويقف بجواره كتفاً
بكتف يستقبلان تحية الجمهور… والأمر الأهم الذي كاد أن يطير عقل فريد معه
أن وهبي انحنى أمامه مقدماً إليه التحية.
يا للهول!!
ما إن أسدل الستار حتى التفّ الجميع حول فريد شوقي يقبلونه ويهنئونه،
فالتقطه من بينهم يوسف وهبي بقوة وهو يصيح على مدير الفرقة:
* عباس أفندي… يا عباس أفندي… وقّع عقد مع فريد شوقي من الليلة بسته جنيه
في الشهر… مبارك يا فريد أفندي.
عهد جديد بدأ ودنيا جديدة فتحت ذراعيها لفريد شوقي، فقد أصبح ممثلاً
محترفاً وبشهادة أكبر ممثل في البلد، تمنى لو يوقظ أهل البيت كلّه ليزفّ
لهم هذا الخبر غير العادي ويحتفل معهم حتى الصباح…
الوظيفة الميري
ليت هذا الصباح لم يأتِ… فقد أتى ليقتل حلم فريد شوقي الوليد في مهده فقبل
أن يزفّ هذه البشرى لوالده، زفّ له الأخير بشرى من نوع آخر:
* ألف مبروك يا فريد أفندي… دلوقت تستحق كلمة أفندي عن حق وجداره.
- الله يبارك فيك يا بابا… حضرتك عرفت؟
* طبعا والجواب في ايدي أهه.
- جواب!!
* أهه… حضرة المهندس فريد أفندي محمد عبده شوقي… نفيدكم علما أنه قد قُبل
طلبكم وتم تعيينكم مهندسا بمصلحة الأملاك… رئيس شؤون المستخدمين… مبروك يا
بطل… جهز نفسك بقى علشان يوم السبت تروح تستلم الوظيفة.
- مهندس مين؟ ووظيفة إيه؟ أنا مقدمتش طلبات.
* يا سيدي أنا اللي قدمت بالنيابة عنك باعتباري والدك.
- وقوام كده قبلوا الطلب؟
* لا طبعا.. يا سيدي ما احنا برضه مش قليلين في البلد… لولا أن معالي
الوزير بيعزني شخصيا ماكنش ممكن أبدا ده يحصل ولو بعد عشر سنين.
- أيوه يابابا… بس أنا حضرتك يعني منفعش في الوظيفة.
* ليه يا سي فريد ناقص ايد ولا رجل… حد تجيله وظيفة زي دي ويقول الكلام ده.
- بابا أنا اتخلقت علشان أكون ممثل مش علشان أبقى موظف.
* بلاش كلام فاضي… انت عارف إني بحب التمثيل وبقدره وكنت من أوائل الناس
اللي التحقوا بمعهد التمثيل الوطني اللي أنشأه زكي طليمات سنة تلاتين بقسم
الخطابة… لكن ده مش معناه إني أسيب وظيفتي وشغلي.. خليك في التمثيل هاوي زي
ما انت لكن الوظيفة مفيش بد منها.
- أيوه بس أنا مضيت عقد احتراف بستة جنيه مع فرقة رمسيس امبارح.
* يا ابني مع كامل تقديري للتمثيل والممثلين… لكن دول ناس بيشتغلوا شهر
وعشرة لا…
- بس دي الفرصة اللي بستناها من زمان… ولما تيجي أفرط أنا فيها؟!
* يا سيدي ماتفرطش فيها ولا حاجة… استلم وظيفتك… وخليك زي ما انت في
الفرقة… المهم يبقالك وظيفة حكومية ودخل شهري ثابت يكفيك شر الأيام.
وجد فريد شوقي أن كلام والده مقنع إلى حد ما، فلا مانع أن يعمل موظفاً في
النهار وممثلاً في المساء، إذ لا تعارض بين الوظيفتين، إنما لا بد من أن
يخبر يوسف وهبي بهذا الأمر فلا يصحّ أن يخفيه عنه، لكن ما إن عرض عليه
الأمر حتى فاجأه بأن عليه أن يستعد للسفر مع الفرقة في جولة بالمسرحية في
عدد من الأقطار العربية.
أعاد يوسف وهبي الى فريد الحيرة من جديد، ماذا يفعل؟ فإذا كان وهبي يرى
مستقبله في التمثيل وهو يميل أيضاً إلى هذا الرأي، ويرى والده أن مستقبله
في الوظيفة الحكومية، فلا بد من رأي محايد، ففكّر في استشارة حكماء الفرقة
من كبار الممثلين.
سأل محمود المليجي فبادره قائلاً:
* شوف يا فريد… أنا من رأيي إنك تقبل الوظيفة… صحيح ممكن يكون المرتب واحد
هنا وهنا… لكن الفرق أن مرتب الوظيفة هتضمن إنك تاخده كل شهر حتى لو نمت في
البيت… لكن هنا في الفرقة لو غبت يوم واحد مش هتقبض… وكمان ممكن تقبض شهر
واتنين لا… ومتنساش أننا بنشتغل عند الجمهور… يعني لو الجمهور قعد في بيته
ومانزلش يروح المسرح مش هنقبض… وبعدين شوف بقى أنا مع المثل اللي بيقول «إن
فاتك الميري اتمرغ في ترابه»… اتوكل على الله يا بني واقبل الوظيفة.
هذا الكلام أيّده أيضاً فاخر فاخر وحسين رياض، وبدلا من أن تُحلّ المشكلة
زادت فريد حيرةً، غير أن جبهة قبول الوظيفة أصبحت أقوى.
اتخذ فريد القرار، ووقف والدموع تملأ وجهه، مختبئاً خلف أحد أعمدة محطة
مصر، يراقب أفراد الفرقة وهم يستقلون القطار المتّجه إلى الإسكندرية حيث
سيسافرون على الباخرة إلى بيروت لتقديم عرضهم المسرحي، ومنها ينتقلون الى
بعض الأقطار العربية الأخرى.
الباشمهندس
استلم فريد شوقي وظيفته كمهندس في مصلحة الأملاك، غير أنه لم يحتمل وجوده
فيها أكثر من شهر واحد، فاضطر الى مصارحة رئيسه بالمصلحة بأنه لا يصلح لأن
يكون موظفاً ولا مهندساً. ترك فريد العمل وسط دهشة رئيسه، ولم يعد إليه
متوقّعاً أن يصله بين اليوم أو الغد خطاب فصله لتغيّبه، لكن ذلك لم يحدث،
فوالده صديق شخصي لمعالي الوزير!
خرج فريد من الوظيفة ولم يعد إليها، غير أن أهم ما خرج به منها هو مجموعة
من الأصدقاء الموظفين الذين يشاركونه حب التمثيل. اعتاد هؤلاء اللقاء مساء
كل ليلة في أحد المقاهي بمنطقة «باب الخلق»، يتحدثّون في التمثيل والمسرح
والسينما، يبحثون عن متنفّس لهوايتهم. شعر فريد بالندم على الفرصة التي
كانت بين يديه وبين أحضانه وتخلى عنها بسهولة، ولكن لا وقت للندم على ما
فات ولا بد من التفكير في المستقبل، وماذا يمكن أن يفعل مع هؤلاء الأصدقاء
الجدد من «شلة الموظفين» على اختلاف اهتماماتهم: عبد الرحيم الزرقاني،
أكبرهم سناً ومهتم بالإخراج أولاً ثم التمثيل، وشقيقه الأصغر علي الزرقاني
مهتم بالتأليف والكتابة، وأحمد الجزيري وكمال إسماعيل مهتمان بالتمثيل
مثله، أما عبد الفتاح البارودي فهو مهتم بالصحافة وكتابة المقالات النقدية
عن المسرح والسينما… وما يجمع بينهم جميعاً حب الفن.
لم يطل بهم التفكير، إذ كوّنوا فرقة مسرحية أطلقوا عليها اسم «الرابطة
القومية للتمثيل» وكتب علي الزرقاني أول مسرحية ستقدّمها، على أن يخرجها
شقيقه عبد الرحيم الزرقاني، ويقوم ببطولتها فريد شوقي ويشاركه أحمد الجزيري
وكمال إسماعيل، لم يبقَ سوى البطلة التي ستقف أمام فريد شوقي بالمسرحية،
لكن عبد الرحيم الزرقاني استطاع أن يتّفق مع شابة جميلة عاشقة للتمثيل
اسمها زوزو حمدي الحكيم.
أما المسرح الذي سيعرضون عليه المسرحية فأمّنه عبد الفتاح البارودي الذي
اتفق مع مدير مسرح الريحاني على إيجار المسرح في فترة «الماتينيه» على أن
يكون عرض الريحاني في «السواريه»… قدّمت فرقة «الرابطة القومية للتمثيل»
مسرحية «الفاجر» على خشبة مسرح الريحاني، في صيف 1945، ولاقت نجاحاً
كبيراً، لتصبح أهم فرقة هواة في مصر كلّها.
بين الهواية والدراسة
استمرت الفرقة في تقديم عروضها حتى ساقت الأقدار فريد شوقي الى تعلّم اللغة
الإنكليزية في المعهد البريطاني الذي كان أنشئ لتوّه آنذاك، ليكتشف أن
للمعهد مسرحاً كبيراً، والأهم أنه متاح لمن يرغب من الطلبة الدارسين في
المعهد، فوجدها فرصة لينضمّ بقية أفراد الفرقة إلى المعهد ليكون المسرح
متاحاً لهم سواء في البروفات أو العروض من دون أي مقابل.
لم يكن فريد الوحيد الذي اهتدى إلى هذه الفكرة الثمينة، بل كانت ثمة مجموعة
أخرى من الشباب من هواة التمثيل انضمت إلى المعهد للفكرة والسبب نفسيهما:
استغلال المسرح، وهم: السيد بدير، صلاح منصور، محمد توفيق، محمود السباع،
كمال حسين، نصري عبد النور، ماهر عبد النور، غيرهم. استطاع فريد إقناع
أفراد فرقته بالانضمام إلى هؤلاء الشباب الجدد، فوصل عددهم جميعاً مجتمعين
إلى 20 شاباً بين التمثيل والتأليف والإخراج والنقد المسرحي، فأطلقوا على
أنفسهم «فرقة العشرين»، التي راحت تقدّم عروضها على خشبة مسرح المعهد
البريطاني، سواء باللغة العربية، أو باللغة الإنكليزية، بل إن إدارة المعهد
استقدمت لهم عدداً من أساتذة التمثيل في القطر المصري ليلقوا عليهم محاضرات
في فن التمثيل والإلقاء، وكان من بينهم يوسف وهبي وعزيز عيد وزكي طليمات.
حرصت مجموعة «العشرين» على الاستفادة من كل كلمة في محاضرات هؤلاء العظماء
من أساتذة فن التمثيل، خصوصاً أنه لم يعد يتوافر معهد أو مدرسة في مصر تقوم
على تعليم هذا الفن، منذ أغلق حلمي باشا عيسى، «وزير التقاليد» كما كان
يُطلق عليه، معهد التمثيل الذي أنشأه زكي طليمات في العام 1930، بحجة أنه
يحرّض على الفجور، غير أن طليمات لم ييأس وظل يجاهد مع الحكومة المصرية
لإعادة إنشاء هذا المعهد لأهميته القصوى لدى أي شعب متحضّر. وفي أول محاضرة
ألقاها طليمات أمام مجموعة العشرين في بداية العام 1946، زُف إليهم الخبر
السار:
* دعوني أزف إليكم هذه البشرى… فقد وافقت الحكومة المصرية على إعادة افتتاح
المعهد القومي للتمثيل، وستبدأ إدارة المعهد في تلقي طلبات الراغبين في
الانضمام للمعهد بدءاً من الغد، وسيتم تحديد الاختبارات خلال الأسبوع
المقبل، وعلى من يرغب منكم الانضمام للدراسة بهذا المعهد، وإن كنت أنصحكم
جميعاً بالانضمام إليه… فمن المؤكد أن الموهبة ضرورية ومهمة… ولكن الأهم
صقلها بالدراسة.
في اليوم التالي كان فريد شوقي الأول في الطابور الذي وصل العدد فيه على
مدار اليوم الى ما يزيد على ألفي متقدم. سحب فريد استمارة التحاق وكتب
بياناته، وراح يساعد بقية أفراد العشرين في ملء استماراتهم، بل وآخرين
غيرهم ممن توسّم فيهم خيراً، وتمنى نجاحهم، غير أنه أسقط في يده عندما علم
أن إدارة المعهد قد حدّدت عدد 15 طالباً فقط سيتم قبولهم من بين هذا العدد،
وما زاد قلقه، إعلانهم أن الأولوية ستكون للفتيات، لكن ما طمأنه أنه التقى
أحد المتقدمين الذي سبق أن شاهده في مسرحية «بيت تهدم» مع فرقة رمسيس،
فبادره قائلاً:
* حتى انت يا أستاذ جاي تقدم… انت فنان محترف… يعني أكيد ناجح ناجح. الدور
والباقي على الغلابة اللي زينا.
بدأ سكرتير اللجنة ينادي على الطلبة الذين سيدخلون لحضور الامتحان واحداً
تلو الآخر، وقف فريد ينتظر سماع اسمه… طال انتظاره حتى انتهى السكرتير من
كل الأسماء، فذهب إليه فريد:
* يا أستاذ.. أنا مسمعتش اسمي.
- يبقى اسمك مش موجود.
* إزاي؟ دا أنا كنت أول واحد في الطابور.
- حاضر يا سيدي… اسمك إيه؟
* فريد محمد عبده… واسم الشهرة فريد شوقي.
- شهرة!! انت لسه دخلت من باب المعهد علشان يبقالك اسم شهرة… فريد… فريد…
فريد… مش موجود يا أستاذ يا بتاع الشهرة.
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
04/08/2011
الملك الأسطورة (6):
فريد شوقي… الحظ يبتسم له مع أول زواج وأول سيارة
كتب: القاهرة - ماهر زهدي
أيقن فريد شوقي أنه لن يلتحق بالمعهد القومي للتمثيل ضمن هذه الدفعة بعدما
تأكد من ضياع أوراقه وعدم وجود اسمه ضمن الكشوف، غير أنه قرّر ألا ينصرف،
فقد بقي لمساعدة عدد من الأصدقاء والزملاء خلال الامتحان، فكل طالب لا بد
من أن يؤدي مشهداً من إحدى المسرحيات المصرية أو العالمية، أحياناً بمفرده،
وأحياناً أخرى بمساعدة أحد الزملاء الذين أدوا الامتحان ليقف أمامه في دور
مساعد.
في ساحة مسرح الأزبكية وقف فريد شوقي يساعد عدداً من الزملاء في حفظ
أدوارهم والاستعداد لدخول الامتحان، فقد كان اسم أي فرد من أفراد لجنة
الامتحان وحده، يثير الرعب في نفوس الطلبة الممتحنين، فما بالك وكل هؤلاء
مجتمعون: جورج أبيض، يوسف وهبي، أحمد علام، حسين رياض، وعميد المعهد زكي
طليمات، بالإضافة إلى رئيس اللجنة معالي وزير الخارجية محمد صلاح الدين
باشا؟!
رأى فريد شوقي أحد الهواة الذي سبق والتقاه يوم تسجيل الأسماء، وأبدى
إعجابه به منذ شاهده في مسرحية «بيت تهدم» مع فرقة رمسيس، وأكد له يومها
أنه إذا دخل الامتحان سيكون أحد أوائل الناجحين، لأنه ممثل محترف، فنظر
إليه فريد نظرة غيظ ولسان حاله يقول له: كان وجهك شؤماً يوم رأيته.
جاء الدور على هذا الهاوي ليؤدي الامتحان، وفجأة وجد فريد شوقي أمامه،
وكأنه وجد نجدة من السماء، فتوجّه فوراً نحو فريد الذي أدار ظهره كي لا
يراه ثانية، وقال له:
* لو سمحت يا أستاذ فريد ممكن تدخل معايا تؤدي المشهد ده؟
- مين أنا؟ معلش شوف زميل تاني لإني ماشي فورا…
* أرجوك يا أستاذ…
- يا سيدي عندك الزملا كتير أهم… أنا لازم أمشي عندي بروفة دلوقت.
* صدقني يا أستاذ فريد أنا مستبشر بيك… وحاسس إن وشك هيكون حلو عليّ.
- أنا وشي حلو عليك… بس إنت بقى كان وشك نحـ… سعد عليّ.
لم يصمد فريد طويلاً أمام توسلات هذا اللجوج، ووجدها فرصة للتعرّف عن قرب
وبأعصاب هادئة، إلى اللجنة وأسئلتها وشكل الامتحان.
ضربة حظ
دخل الإثنان فوجدا نفسيهما وجهاً لوجه أمام اللجنة. سأل رئيس اللجنة عن
أيّهما سيؤدي الامتحان، لم يستطع الطالب أن ينطق إذ توقّف الكلام في حلقه
من شدة الخوف، لكنه رفع يده في إشارة إلى أنه هو الذي سيؤدي الامتحان، وكان
المشهد من مسرحية «مصرع كليوباترا» للشاعر أحمد شوقي، تلك المسرحية التي
يحفظها فريد عن ظهر قلب، وطالما أدى دور «أنطونيو» في مونولوجات طويلة أمام
جمهوره من الهوانم صديقات والدته في لقاء يوم الإثنين الأسبوعي.
بدأ الطالب في أداء المشهد، غير أن رهبة الامتحان جعلت بعض الجمل يهرب منه،
فاضطر فريد الى القيام بدور الملقّن له، إضافة إلى الدور الذي يؤديه أمامه،
وكلما توقّف أو تلعثم أنقذه فريد بسرعة بجملة حوار.
لاحظ محمد صلاح الدين باشا ما يفعله فريد مع زميله إضافة إلى أدائه الواثق
الهادئ، فهو يتصرّف ويؤدي بروح اللامبالي من النتيجة فهو غير ممتحن، ما جعل
أداءه راقياً متميزاً، وفجأة أشار الباشا، رئيس اللجنة، الى الطالب
بالتوقّف ووجّه كلامه لفريد:
* استنى إنت شوية… قولي إنت يا بني… إنت… ورقتك نمرة كام.
فأسقط في يد فريد ولم يعرف كيف يرد وماذا سيقول، لكنه تنبّه بسرعة قائلاً:
- أنا يا سعادة الباشا معنديش نمرة.
* إزاي… إنت اسمك إيه.
- اسمي فريد محمد عبده… الشهير بفريد شوقي.
هنا تنبّه سكرتير اللجنة إلى أنه سمع هذا الإسم ودار أمامه هذا الحوار
سابقاً، فنبّه الباشا قائلاً:
- الطالب ده معندوش أوراق يا سعادة الباشا… علشان كده ملوش رقم.
* ده كلام مش مظبوط… الولد ده ياخد نمرة فوراً ويجيب أوراقه… هو ده اللي
لازم يدخل المعهد.
هكذا ببساطة عادت الفرصة إلى فريد ثانية وبهذه السهولة، بكلمة من محمد صلاح
باشا، مؤكد أنه يحلم… لكنه رئيس اللجنة، وكلامه لا يرد، فأراد فريد أن
يصدّق على كلام الباشا ويؤكده كي لا تتوافر فرصة أمام سكرتير اللجنة لإسقاط
اسمه مجدداً:
- أنا حافظ مصرع كليوباترا كلها يا سعادة الباشا… معاليك تحب أقدم مشهد
منها دلوقت ولا لما آخد نمرة؟
* لا دلوقت ولا بعدين… يا بني انت خلاص نجحت.
أول الدفعة
لم يصدق فريد ما سمعه… فجأة أُدرج اسمه الذي سقط من الكشوف، بل وكان أول من
يعرف نتيجته من بين كل المتقدمين، والأهم أنه نجح بكلمة من رئيس اللجنة،
وأيّد هذه النتيجة يوسف وهبي الذي يعرف قدرات فريد، وكذلك حسين رياض… وصدّق
الثلاثة الباقون: جورج أبيض وأحمد علام وعميد المعهد زكي طليمات، على
كلامهم.
انتهى الامتحان، وأصبح فريد شوقي أول طالب في الدفعة الأولى التي التحقت
بالمعهد القومي للتمثيل في عامه الأول بعد إعادة افتتاحه في العام 1946،
وقد ضمّت الدفعة إلى جانب فريد شوقي: عبد الرحيم الزرقاني، كمال حسين، حمدي
غيث، شكري سرحان، لطفي عبد الحميد، صلاح منصور، عمر الحريري، وسعيد أبو
بكر. كذلك ضمّت الدفعة وللمرة الأولى في مصر خمس فتيات هنّ: نعيمة وصفي،
نادية السبع، فاتن حمامة، سميحة أيوب، وزينب عبد الهادي، الحاصلة على دبلوم
الصيدلة (بكالوريوس الصيدلة اليوم) والتي تقدّمت بأوراق التحاقها في المعهد
بقسم النقد والإخراج، لكن ما إن شاهدها زكي طليمات ورأى جمالها اللافت حتى
طلب منها أن تتحوّل إلى قسم التمثيل، وقد استطاع إقناعها بذلك.
انتظم الطلبة الجدد في الدراسة، ومثلما لفت جمال زينب نظر طليمات، لفت نظر
فريد شوقي أيضاً، غير أن طليمات أراد أن يزيد عدد الفتيات اللاتي يلتحقن
بقسم التمثيل واحدة أرادها ممثلة، لكن فريد أرادها حبيبة. فما أن كانت تقع
عيناه عليها حتى يدق قلبه بسرعة غير عادية، يضطرب ويتصبّب عرقاً، ويتوارى
خجلاً، لا يستطيع مواجهة عينيها الجميلتين، ووجهها البريء… مؤكد أن هذا هو
الحب وليس «حب العيال» الذي أحبه لحسنية، لكن كيف يصارحها، ماذا يقول لها،
وهل يضمن أن يجدها تبادله المشاعر نفسها؟ تمنى لو تتوافر الفرصة ليبوح لها
بحبه ويعرف حقيقة مشاعرها.
الحب الأول
جاءت الفرصة عندما بدأ زكي طليمات يدرّب الدفعة على أول مسرحية في السنة
الدراسية، «مصرع كليوباترا»، وأسند الى زينب دور «كليوباترا»، لكنه لم يسند
لفريد دور «أنطونيو»، الذي فاز به حمدي غيث، بل دور «أنوبيس»، وعلى رغم ذلك
كانت البروفات فرصة جيدة للتقارب والتعارف أكثر. اكتشفت زينب خفة دم فريد
الذي كان يتعمد لفت انتباهها، وشعر بأنها أصبحت مهيأة لمصارحتها بحبّه،
فانتهز فرصة الاستراحة في إحدى البروفات:
* زينب…
- أيوه يا فريد.
* كنت عاوز أقولك… أقولك ازاي صحتك؟
- الحمد لله كويسه قوي.
* يعني مش حاسه بحاجة.
- لا أبداً كويسه خالص… هو أنا باين علي أني تعبانه؟
* لا أبداً بعد الشر عنك يا اختي… أنا قصدي أقولك مش حاسة بحاجة من ناحيتي؟
- مش فاهمة… فريد فيه إيه… مالك؟
* زينب أنا بحبك وعاوز أتجوزك.
قالها واستدار بوجهه خشية مواجهة ردّ فعلها… سادت لحظة صمت، لم تثر، لم
توبّخه، ولم تنصرف… فكيف هو ردّ فعلها إذاً؟
عاد فريد واستدار بوجهه ببطء ونظر في عينيها، انتظرت زينب أن تقع عيناه في
عينيها، ثم ابتسمت ابتسامة رقيقة جميلة وركضت مسرعة.
ظلّ فريد طوال الليل يفكّر في ابتسامة زينب، فهل هي موافقة مصحوبة بخجل؟ أم
رفض مصحوب أيضاً بخجل من مصارحته بالرفض؟ لا بد من قطع الشك باليقين ومعرفة
رأيها صراحة، سواء بالرفض أو القبول، ومع أول ضوء للنهار لم يطق فريد
الانتظار، وكان أول من يصل إلى المعهد. ظلّ يقطع الشارع الذي يقع فيه
المعهد ذهاباً وإياباً فيما يدخن سيجارة من أخرى، وما إن لمح زينب آتية حتى
توجّه إليها مسرعاً، لم يمهلها حتى يدخلا المعهد:
* صباح الخير يا آنسة زينب.
- صباح النور يا فريد… إيه اللي موقفك كده ما دخلتش ليه؟
* أنا مانمتش طول الليل.
- ليه سلامتك… تعبان؟
* عاوز أسمع رد صريح وواضح على الكلام اللي قلته لك امبارح.
- (ضاحكة) رد إيه يا بني؟ انت فاكرها لعبة.
* افهم من كده أنك مش موافقة؟
- لا رافضة ولا موافقة… اديني فرصة أعرفك كويس وأفكر.
* يعني فيه أمل؟
- (بدلال) ممكن.
* وأنا موافق على الفرصة… يومين كفاية
- يومين إيه يا بني… هو انت بتعرض علي اشتري فستان… انت بتعرض علي الجواز…
يعني المسألة محتاجة تفكير ودراسة مش أقل من شهر.
* وأنا موافق… ولو أني مستعجل.
مرّ الشهر بطيئاً ثقيلاً، غير أن النتيجة كانت مرضية تماماً، فزينب هي
الفتاة التي كان يتمناها فريد ويحلم بها، وهي بدورها وافقت على الزواج منه.
لم يضيّع فريد الوقت وفاتح والده فوراً:
* صحيح انت عندك خمسة وعشرين سنة… بس ليه تربط نفسك بالجواز من دلوقت…
وخصوصاً انك لسه بتدرس؟
- بدرس إيه يابابا… انت ناسي اني اتخرجت وبقيت مهندس وكمان موظف حكومي في
مصلحة الاملاك… أنا بدرس فن علشان انمي موهبتي.
* وانت فاكر إن الستة جنيه بتوع المصلحة ممكن يفتحوا بيت؟
- ماهو أنا كمان هشتغل برضه في المسرح جنب مرتب المصلحة… يعني ممكن يبقى
مرتبي في الشهر مش أقل من خمستاشر عشرين جنيه.
* اللي تشوفه يا بني… انا نصحتك وانت حر.
«في حفل عائلي بهيج، تمت خطبة الآنسة زينب عبد الهادي، الصيدلانية بمستشفى
الأميرة فريـال، على فريد أفندي شوقي، الموظف الحكومي بمصلحة الأملاك، مع
العلم أن العروسين يدرسان التمثيل ضمن طلبة الدفعة الأولى بالمعهد القومي
للتمثيل».
هذا خبر مقتضب ورد ضمن أخبار صفحة المجتمع في مجلة «روز اليوسف»، جعل زكي
طليمات يستشيط غضباً، لدرجة أنه وقف على باب المعهد في صباح اليوم التالي
وما أن شاهد فريد شوقي يدخل حتى أشار إليه بحدة وغضب أن يتبعه إلى المكتب:
* تقدر تقوللي يا أفندي انت إيه اللي مكتوب ده.
نظر فريد في المجلة وقرأ الخبر وابتسم:
- آه ده خبر خطوبتي أنا وزينب… الله يبارك فيك يا فندم.
* الله لا يبارك فيك ولا فيها… أنا مش بباركلك… أنا عاوز أعرف معناه إيه
الخبر ده؟
- (مندهشا) معناه اننا بنحب بعض واتخطبنا وهنتجوز قريب على سنة الله
ورسوله.
* ده على جثتي يا أفندي.
- مش فاهم يا فندم تقصد إيه.
* أقصد أن الجوازة دي مش هتم… ولو تمت يبقى على جثتي.
- ليه يا زكي بيه… إيه الجرم اللي عملناه؟
* أنا عندي في المعهد خمس بنات وعشر ولاد… ولو الخمس بنات ارتبطوا بخمس
ولاد من العشرة… معناها أن قبل نص السنة مش هيبقى فيه ولا بنت في المعهد،
ويمكن الولاد كمان يهجروا المعهد علشان يشتغلوا ويدوروا على لقمة العيش…
يبقى عليه العوض في المعهد… نقفله بقى ونقعد في بيوتنا.
- لكن يا فندم أنا مش ممكن…
* انسِ.
- يا فندم أهلنا موافقين… واحنا الاتنين بنحـ…
* انسى… وجودكم في المعهد انتو الاتنين كوم… والجوازة دي كوم.
لم يكن زواج شباب المعهد وشاباته الخطر الوحيد الذي قد يهدّد استمراره
والدراسة فيه، بل كان ثمة خطر آخر أهم يهدّد المعهد بالإغلاق ثانية على
غرار ما حدث في المرة الأولى في العام 1930 بسبب اختلاط الجنسين، غير أن
الإغلاق هذه المرة سيكون بسبب عدم وجود ميزانية مالية للمعهد الذي تشرف
عليه وزارة الشؤون الاجتماعية… فلم تُعتمد له ميزانية مالية ما هدّد بغلقه.
إنقاذ معهد التمثيل
خبر آخر لفت نظر زكي طليمات، غير أنه تصدّر الصفحات الأولى للصحف والمجلات
كافة، تحت صورة كبيرة لجلالة ملك مصر فاروق الأول، يقول «إن سمو الأميرة
شويكار الزوجة الأولى للملك فؤاد، والد الملك فاروق، قررت أن تقيم احتفالاً
ضخماً في السراي الخاص بسموّها مساء الخميس الحادي عشر من فبراير، سيحضره
جلالة الملك فاروق الأول، احتفالاً بعيد ميلاد سموه».
كان الخبر بمثابة طوق النجاة لطليمات، فقد استطاع إقناع رئيس الديوان
الملكي بأن يقدّم طلبة المعهد القومي للتمثيل وطالباته عرضاً مسرحياً ضخماً
يُعرض في هذه المناسبة السعيدة. طار طليمات من الفرحة وأصدر أوامره لكل
الطلبة بالاستعداد لهذا اليوم وهذا العرض التاريخي الذي سيكتب للمعهد
الاستمرارية، فأن يشاهد جلالة الملك عرضاً مسرحياً لطلبة المعهد، هو اعتراف
رسمي من جلالته بالمعهد، وبالتالي ستخصّص له حتماً وزارة الشؤون الاجتماعية
ميزانية مالية.
كاد قلب طليمات أن يتوقّف عن النبض عندما تلعثم كلّ من فاتن حمامة وشكري
سرحان في الحوار رعباً من مواجهة جلالة الملك، ولم ينقذ الموقف سوى تدخل
فريد شوقي السريع، الذي استطاع بذكاء شديد أخذهما بعيداً عن الإحساس
بالصالة ومن يجلس فيها، الملك والأمراء والأميرات. تنفّس طليمات الصعداء
وابتلع ريقه وضجت الصالة بالتصفيق ووقف الملك، فوقف الجميع وهزوا رؤوسهم
محيين، فزاد التصفيق وحصد طليمات النتيجة المرجوة.
شعر فريد بأن حسن تصرّفه أنقذ طليمات من موقف لم يكن يعلم نتيجته إلا الله
وحده، بل والأهم أنه أنقذ المعهد من الإغلاق الذي كان يهدّده، وبالتالي لا
بد من مكافأته على هذا الموقف، وأيقن أنه لو فاتح طليمات في أمر زواجه من
زينب الآن فقد لا يمانع:
* أنا بشكرك يا فريد أنت رفعت راس المعهد ورفعت راس زملاءك.
- أنا يا فندم اللي عاوز اشكرك أنك منحتني ثقتك وشرفتني بالقيام ببطولة
العرض ده.
* انت ولد مجتهد يا فريد… وخد بالك من نفسك… هيبقالك مستقبل كويس… بس المهم
تبعد عن الافكار البطالة اللي في دماغك دي.
- بالمناسبة دي يا فندم أنا كان ليّ طلب عند سعادتك… وياريت تحققهولي.
* قول يا فريد عاوز إيه… عاوز مكافأة ولا اعفا من المصروفات؟
- لا يا فندم خير ربنا كتير… أنا كان نفسي أن سعادتك تبارك جوازنا أنا
وزينب.
* (بحدة) انت لسه الأفكار البطالة دي في دماغك.
- يا فندم بكلمة من سعادتك هتسعد قلبين ومش ممكن هننسى لسعادتك الجميل ده.
صمت طليمات لحظة حرص فيها فريد على ألا يرفع نظره عن الأرض:
* أنا موافق… بس بشرط.
- كل شروطك مجابة يا فندم… ربنا يخلي سعادتك.
* مفيش مخلوق في المعهد لا طلبة ولا أساتذة يعرفوا بأمر الجواز ده… وبلاش
حكاية الأخبار اللي في الصحف دي.
- حاضر يا فندم… مفيش مخلوق هيعرف… ولو مش عاوز أهلنا نفسهم ما يعرفوش مش
هيعرفوا.
زواج سري
في الأسبوع الأول من يونيو بعد انتهاء العام الدراسي، وفي هدوء تام وبشكل
يكاد يكون سرياً، خوفاً من عميد المعهد، تم زفاف زينب عبد الهادي إلى فريد
شوقي، الحلم الثاني الذي تحقّق لفريد هذا العام بعد حلمه الأول بالالتحاق
بمعهد التمثيل.
لم يكن هناك من هو أسعد من هذين الزوجين في عشّهما الصغير الهادئ بحي
الحلمية الجديدة، لا يتركان بعضهما إلا سويعات قليلة أثناء النهار، تمضيها
زينب في عملها بالمستشفى، ويمضيها فريد في مصلحة الأملاك، يشرب الشاي
والقهوة ويتصفّح بعض الصحف والمجلات، حتى يقترب موعد خروج زينب من
المستشفى، فلا يفترقان إلا في صباح اليوم التالي، حيث يمضيان بقية اليوم
بين تناول طعامهما في الخارج، والفسحة ومراجعة بعض الدروس والبروفات
المسرحية.
أحب فريد زينب لدرجة الجنون، وأصبح يغار عليها، ربما من نفسه هو شخصياً،
وهذا ما دفعه الى أن يعرض عليها أمراً فكّر فيه وتردّد طويلاً قبل أن
يفاتحها فيه:
* كنت عاوز أقولك يعني حكاية المعهد والدراسة دي ما بقتش مناسبة لك دلوقت.
- عاوز تقول إيه يا فريد؟
* عاوز أقول كفاية عليك المستشفى… وأهو القرشين اللي بتاخديهم على مرتبي
نقدر نعيش كويس والحمد لله… لكن حكاية إنك تبقي ممثلة دي يعني…
- أولا أنا مش في المعهد علشان أبقى ممثلة وآخد فلوس، ثانيا ودا الأهم، مش
معنى إن الأستاذ زكي طليمات خلاني أدخل قسم التمثيل، اني هتخلى عن حلمي
بإني أكون ناقدة كبيرة.. ده حلم يا فريد ولازم أحققه.
لم يشأ فريد أن يقتل حلم زينب، خصوصاً عندما شعر بأنها كانت وجه سعد عليه،
إذ تذكرت مصلحة الأملاك أخيراً أن لديها موظفاً يدعى فريد شوقي، عندما جاءه
خطاب منها يطالبه بالإشراف على توزيع أملاك «البرنسيسة نعمت مختار» على
ورثتها، وهو العمل الذي جنى من ورائه مبلغاً طائلاً من المال، جعل فريد
وللمرة الأولى في حياته يملك سيارة، «أوستن» موديل 1930.
البقية في الحلقة المقبلة
الجريدة الكويتية في
05/08/2011 |