حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مهرجان

الدورة الخامسة والاربعون لمهرجان كارلوفي فاري تنطلق غداً

عـــــــودة تــشـــيــكــيـــا الـى قــلـــــب أوروبـــــا الــنــــابــضـــــة

كارلوفي فاري ــ من هوفيك حبشيان

كارلوفي فاري رقعة في أوروبا البوهيمية يزورها طالبو العلاج والنقاهة على مدار السنة. هي من اكثر المدن الأوروبية هدوءاً وجمالاً. مياه ينابيعها تتدفق من باطن الارض بحرارة قد تصل الى سبعين درجة مئوية. تقع في "الجناح الروسي" من جمهورية تشيكيا. مكان مفعم بالحياة. بعد سنة من الغياب، ها ان المهرجان الذي يحمل اسم المدينة ينهض مجدداً، بدورة جديدة، لا نعرف بعد مدى اختلافها عن الدورة الفائتة. قبل بضعة أعوام، عندما تخطى الأربعين من العمر، اعتقدنا انه لن تكتب له قطّ ولادة ثانية تسمح بإعادة النظر في سبب وجوده وفوائده. لكنه بدا، غداة النتائج الملموسة لسقوط الستار الحديد ونهاية الحقبة الشيوعية، أكثر شباباً وانفتاحاً من مهرجانات أخرى لا تزال في سنواتها الاولى.

مديرة المهرجان ايفا زاورالوفا سيدة الفصول السينمائية الاربعة. "مسبّعة كارات" انقذت مهرجانها من براثن الشيوعية. على رغم سنواتها الثماني والسبعين، لا تزال تدير منذ ستة عشر عاماً، شؤون حدث سينمائي هو الأهم والأعرق حالياً في أوروبا الوسطى، وهي تفعل ذلك من دون ان تشعر بأن الزمن الذي مضى خلفها قد ذهب سدى في أروقة قصر "تيرمال" حيث تعقد هذه التظاهرة في بداية الصيف من كل عام.

المهرجان بات يؤكد علمانية دائمة بعد سنوات من التبعية السياسية بلغت ذروتها في منتصف الثمانينات من القرن الفائت حين قاطعه الجمهور وصارت صالاته في عزلة مخجلة. عاد المهرجان ليكون مرتعاً لعشّاق السينما الذين شاهدناهم يملأون الصالات على مدار الأيام التسعة للمهرجان.

الايقاع الذي يفرضه المهرجان لا علاقة له بالإيقاع الرتيب الذي يسود المدينة خارج ايام التظاهرة. فالمكان - الرمز، الأثير على قلوب النوستالجيين الى الحقبة الشيوعية، يعيش احتفالاً لا مثيل له. صالات، ومقاهٍ، وممرات، كلها تنتفض وفق وتيرة تسقط عليها من فوق. فوضى عارمة واضحة للعيان ما ان تدخل فندق "تيرمال"، حيث مجمل نشاطات المهرجان ومكاتبه ونقاط بيع البطاقات. لكن القلوب كبيرة والمكان للجميع من دون تمييز، خلافاً لمهرجانات أخرى جعلت الدخول الى مقارها اشبه بالدخول الى سفارات بلدان مستهدفة. العنصر الشاب هو الذي يجعل المهرجان على هذا النحو. ومع ان كثراً من المراهقين الذين يحملون حقائب على اكتافهم ويأتون الى هنا من مدن بعيدة، لا يتكلمون لغات أجنبية، فالصورة تصل اليهم بلا سوء فهم، وهي دليلهم الى ثقافات الآخر. هذا الجمهور الذي عمره أكثر من عمر الـ"دي في دي" بقليل، المغيّب عادةً في مهرجانات أخرى لأسباب اقتصادية، هو عصب المهرجان، بلا شكّ.

قبل التاريخ المفصلي، أي عام 1994، كان للمهرجان تاريخ مجيد وعصر ذهبي. كان مرجعاً للفيلم السياسي، لكن فقط ذلك الذي كان يستجيب العقيدة الاشتراكية. حتى أفلام غودار التي كانت تعتبر سياسية، لم يكن يؤتى بها الى المهرجان. "كنا نرى البعض منها في الصالات التجارية"، تقول زاورالوفا. "كنا نشاهد تروفو ورومير لكن ليس غودار. كانت الموضة آنذاك للكوميديات الفرنسية والايطالية. والناس كانوا يحبونها. انها الكوميديات التي لا تزعج احداً. عام 1990، وبعد حوادث تشرين الثاني 1989، اخرجنا كل الأفلام التي كانت تحت الحظر. وعاد الكثيرون الى المهرجان، من ميلوش فورمان الى ايفان باسر".

في الستينات، كان المهرجان يقدم الكثير من الأفلام الأميركية اللاتينية. وكان يتمتع بصيت جيد. لكن بعد الاحتلال، أي في عام 1968، بات واجهة للمظاهر الرسمية وفقد الكثير من ألقه. غالبية الأفلام كانت تأتي من بلدان "صديقة". على رغم ذلك استطاعت العضوة في لجنة التحكيم ماري جوزيه نات، ان تقنع باقي الاعضاء، ومن بينهم كشيشتوف زانوسي، بمنح الجائزة الكبرى لفيلم كين لوتش، الذي لم يكن يعرفه أحد آنذاك، بدلاً من اعطائها الى فيلم روسي مؤدلج سياسياً. من الغرب لم يكن في استطاعة رواد المهرجان الا مشاهدة الأفلام الملتزمة سياسياً: كوستا غافراس أو أندره كايات. كانوا سينمائيين أوروبيين في معظمهم. السينما الأميركية كانت شبه غائبة. كان التشيكيون يبالغون في مشاهدة الأفلام الروسية، أو تلك التي كانت تبعثها اليهم الجمهوريات التابعة للاتحاد السوفياتي السابق في آسيا، بالاضافة الى الافلام المجرية التي انجزت آنذاك في رعاية رسمية. كان المهرجان يحتضر، لأن المشاهدين لم يكونوا يهتمون بما يختار لهم.

ابتداء من عام 1994، تاريخ تسلم زاورالوفا الادارة، تمّ السعي الى تشكيل برنامج لافت، الهدف منه جذب انتباه الشباب، الى أن صار عدد المشاهدين في الدورة الواحدة نحواً من 140 الفاً، معظمهم من الشباب، خلافاً للمهرجانات الأخرى حيث معدل العمر أعلى بكثير.

اليوم، المافيا الروسية تتحكم بالمدينة. هنا الروس يستثمرون كثيراً في شراء العقارات. تخشى زاورالوفا أن يشتري القصر رجل أعمال من الجنسية الروسية، كون المهرجان في منافسة شرسة مع مهرجان موسكو السينمائي. حتى ان ادارة الأخير أقدمت على تغيير تاريخ انعقاد المهرجان الموسكوفي خوفاً على مصلحة الروس. رئيس المهرجان جاء الى هنا ولاحظ أن الأمور تسير على ما يرام، خلافاً للحال التي هي عندهم.

بعدما تدحرج الستار الحديد، وانقشع ما انقشع، و"عادت" تشيكيا الى قلب أوروبا النابضة بالتسامح والانفتاح، بدأ المهرجان يجني ثمار مثابرته، الى أن صار اليوم مزيجاً عجيباً غريباً من الثقافة الخالصة والاحتفاليات، والأهم عودته الى الحضن الدافىء للسينيفيلية الاوروبية، مع نزوع فطري الى الاشتراكية. وعلى رغم أن عدد النجوم الذي يستضاف عادة، لا يتعدى اصابع اليد الواحدة، الا ان المهرجان مصنّف ضمن اللائحة "أ"، وهو تصنيف حصل عام 1958، ومذذاك يخضع للمراقبة السنوية بغية تجديده وفق شروط، في مقدمها الا تكون الاعمال المعروضة ضمن المسابقة الرسمية قد قُدّمت في اي مهرجان آخر. أما المعضلة التي يواجهها، وعلى رغم أن كثراً غيره يواجهونها ايضاً، فهي ان المهرجان يقع في الفترة الزمنية بين مهرجانين هما كانّ والبندقية. السينمائيون، مهما علا شأن المهرجان التشيكي، يفضلون الذهاب الى الكروازيت. نتيجة ذلك لا يبقى أمام المنظمين الا ان يختاروا من بين هذا الكمّ الوفير من الاعمال المصنفة "درجة ثانية".

تقول زاورالوفا: "نبحث عن أفلام تتماشى مع فهمنا للجماليات، وعلى هذه الأعمال ان تكون على قدر من الجدية، مع شرط تقني بالنسبة الى أفلام المسابقة، هو أن تكون عرضاً أول، وهذا شيء في منتهى الصعوبة، لأن المهرجانات الثلاثة الأولى كما تعلم، تنال كل ما تريد. فأن تجد، في ظل الوضع القائم في المهرجانات المصنفة فئة "أ"، اعمالاً تفي بالغرض وتستجيب المهمات الموكلة اليها، وتنجز برنامجاً يكون على مستوى معين من الجودة، فذلك شيء في منتهى الصعوبة".

"للإتيان بالأفضل"، تتابع زاورالوفا، "نذهب الى معظم المهرجانات المهمة، ونختار من هناك ما يعجبنا، ويتبدى ذلك من خلال قسم "آفاق" وأيضاً في خانة "عيون مفتوحة" التي هي اعادة عرض لبعض الأفلام التي عرضت في كانّ. أما مسابقة "شرق الغرب" فمهمة جداً، لأنها تتضمن أهم ما انتج أخيراً في البلدان التابعة للاتحاد السوفياتي سابقاً، ولا يهم اذا كان البعض منها سبق أن عُرض في العالم أو لا. تجد فيها الجديد والقديم، الحصري وغير الحصري.

يساندني في عملية الاختيار أربعة معاونين. لدينا ايضاً شبكة من الاتصالات مع متخصصين، من صحافيين ونقاد، في مناطق مختلفة من العالم، مهمتهم اقتراح الأفلام علينا. نحتكم كثيراً الى خيارات هؤلاء وأذواقهم. يُرسل الينا الكثير من اقراص الـ"دي في دي". لا يمكن خمسة اشخاص أن يشاهدوا هذا العدد. اذاً، علينا الاستعانة بآخرين. لكن هذا لا يعني اننا نسلّم الأمر اليهم، اذ يحصل أحياناً أن نعيد النظر في فيلم كان مستشارنا اعطى فيه رأياً سلبياً، وذلك عندما نشعر ان ثمة تجزئة في حكمه. ذائقتنا هي المعيار والدليل. ذائقتي وذائقة معاونيَّ الذين يصغرونني بسنوات".

مجال الاكتشاف في كارلوفي فاري يكون مفتوحاً أمام العناوين الغامضة والاسماء غير المتداولة حتى ضمن الوسط. ولا تخفي زاورالوفا، "ان المخرجين الذين يحضرون بأعمالهم الى هذا المهرجان يعلمون ان لا مكان لهم في كانّ، لأن المسابقة هناك لا تستوعب أكثر من دزينتين من الأفلام". في المقابل، الأمر الذي كان المهرجان يتفرد فيه من قبل، اي ادراج تجارب أولى لمخرجين ضمن المسابقة الرسمية، لم يعد محصوراً به، لأن مهرجانات عدة باتت تنتهجه. أحياناً، في دورة من الدورات، لا يلمع ايٌّ من أفلام المسابقة الرسمية، ولا يلهب ايٌّ منها حماسة المشاهدين. في هذه الحال ينبغي النبش في الاقسام الأخرى، حيث الجرأة تكون في أحايين كثيرة سيدة الموقف.

عندما سألت زاورالوفا اذا كانت تمارَس على المهرجان ضغوط سياسية، أجابت: "على الاطلاق. لم تعد موجودة. لسنا ممولين من الدولة. وزارة الثقافة تساندنا في جزء من الموازنة. منذ 1989 صارت لنا استقلالية واسعة وسيادة. والمهرجان تموله مجموعة "سبونسورز". ثلاثة ارباع الموازنة هي أموال خاصة لا عامة. رئيس الجمهورية كان موجوداً في الافتتاح.

أحياناً يوجه اليَّ انتقاداً حول فيلم قائلاً: "لم يكن ينبغي اختيار هذا الفيلم، لم أحبه". هذا أقصى ما يمارَس علينا من رقابة!

 

مهرجان

سبعة أفلام طويلة وسبعة قصيرة في نسخة "اسبوع النقاد" البيروتية

دورة أقــــــــل ســـــــــوداويـــة وأكـــثـــــر مـــرحــــــاً

النسخة البيروتية لأسبوع النقاد حلّت في العاصمة منذ مساء أمس وتستمر الى 12 الجاري. هذه التظاهرة التي تُعقد بدءاً في مهرجان كانّ، هي اقدم الاقسام الموازية للتشكيلة الرسمية. 14 فيلماً طويلاً وقصيراً نابعة من التجارب الاولى أو الثانية لمخرجين صاعدين، تشق طريقها الى صالة "أمبير ــ متروبوليس" (صوفيل) بعدما تمت استضافتها في عواصم اوروبية، من مثل باريس وروما، وقبل ان تواصل مشوارها في اتجاه المكسيك والبرازيل ورومانيا وبلدان أخرى تبدي رغبة في احتضان السينما البديلة التي لا تكون الطريق أمامها سالكة في أحايين كثيرة بهدف ملاقاة الجمهور الواسع، وذلك لأسباب فنية واقتصادية وسياسية، لا مجال هنا لتعدادها.

في غضون الشهرين اللذين يليان انعقاد دورة "مهرجان كانّ"، تتنقل أفلام "الاسبوع" في مدن عدة، بهدف جذب أنصار السينما المغايرة والموزعين والصحافة الى نوعيات بديلة، تسهيلاً لعملية إمرار هذه الأفلام في الصالات ومشاركتها في مهرجانات دولية في اطار خطة تقريب المشاهد من الأعمال الصعبة واتاحة المجال له ليسافر الى قارات سينمائية مختلفة. لا يمانع المنتجون في تسليم نسخة من الشريط المعروض لمنظمي الحدث قبل اطلاق عروضه التجارية. هذه الاستمرارية جعلت "الاسبوع" موعداً سنوياً ثابتاً، تكمن أهميته الاولى في كون الأفلام معروضة بالـ35 ملم.

الإبحار في العوالم الغريبة لهذا القسم المسمّى "اسبوع النقاد" (حُذفت منه كلمة "العالميين" بدءاً من عام 2008) كثيراً ما يُحسب "مضيعة وقت" بالنسبة الى الصحافيين المشاركين في كانّ، اذ انه يجب عليهم تغطية نشاطات المسابقة الرسمية، التي تعتبر مركز الثقل في كل تظاهرة، حتى لو كانت الخسارة كبيرة أحياناً لأن هذا القسم المحاذي للتشكيلة الرسمية غالباً ما يلقي الضوء على الأفلام الأكثر غرابة وتجريباً واستفزازاً.

السنة المقبلة يحتفي "اسبوع النقاد" بذكرى مرور نصف قرن على تأسيسه. في انتظار ذلك، تتيح الاستعادة الحالية للسينيفيليين اللبنانيين أن يتابعوا سينما مرجحة بأن تخرج من تحت معطفها الاسماء التي ستصنغ سينما الغد. فمدى وجوده في واجهة المهرجان السينمائي الأكبر، كان "الاسبوع" خلف اكتشاف اسماء كبيرة من مثل روبرت كرايمر وليو كاراكس وجاك أوديار وبرناردو برتوللوتشي وونغ كار - واي الذي عاد وترأس لجنة التحكيم في دورة ماضية، وفرنسوا أوزون وغاسبار نويه الذي حلّ رئيساً فخرياً لـ"الاسبوع" في احدى المرات، قبل أن يدخل المسابقة من بابها العريض، في الدورة الماضية مع "فجأة الفراغ". في القسم الآخر الذي لا يتضمن أي نوع من مسابقة، ونعني به "اسبوعا المخرجين"، صار "الاسبوع" من أكثر الأقسام الذي يصدّر المواهب الفتية الى الاختيار الرسمي والمسابقة، سنة بعد سنة. بيد ان الأفلام المختارة في "الاسبوع" باتت على مرّ الزمن، تلامس "التجريب من أجل التجريب"، وازدحمت اللوائح بالخيارات غير المسؤولة والقليلة الذوق، الأمر الذي جعل نجم القسم يخفت، فبات كثر يقاطعونه بحجة أن البرنامج يلملم كل ما رفضته الأماكن الأخرى.

والحق ان ثمة "دساً" كثيراً في هذا القسم، والرجل المسؤول عن ذوق "الاسبوع" الهامشي هو جان ــ كريستوف بيرجون الذي يتبوأ منصب المدير الفني منذ ست دورات متتالية. هذه السنة بدا بيرجون مرتاحاً لخياراته التي قال عنها انها لم تكن يوماً على هذا القدر من الانسجام مع رغبات الآخرين وانفتاحهم وفهمهم. "كان ينبغي التسلح بجرأة كبيرة لعرض اربع كوميديات أعجبت الجمهور والنقاد على حدّ سواء، على رغم ان ليس هناك أي شيء مشترك بينها"، قال الرجل الذي اتهمه النقاد مراراً وتكراراً بالاتيان بأفلام قاتمة ذات مواضيع سقيمة.

هذه السنة تلقت ادارة "الاسبوع" نحواً من 900 فيلم اختير منها 7 أفلام طويلة وسبعة قصيرة في المسابقة الرسمية. أما خارج المسابقة، وفي اطار عروض خاصة، اختارت الادارة اربعة أفلام طويلة وخمسة قصيرة لن تعرض ضمن "الاسبوع اللبناني" الذي فضّل صيغة 7 × 7 التقليدية.

( hauvick.habechian@annahar.com.lb)

برنامج العروض

الخميس 1:

• "أعمق من أمس" لأريال كلايمان (أوستراليا، 20 دقيقة).

• "صوت الضجة" لأولا سيمونسون ويوهانيس ستايرن نيلسون (أسوج/ فرنسا، 89 دقيقة).

الأحد 4:

• "لاف باتات" لجيل كوفولييه (فرنسا، 13 دقيقة).

• "بي، دونغ سو" لفان دانغ دي (فيتنام/ فرنسا/ المانيا/ 90 دقيقة).

الاثنين 5:

• "بيريك" لدانيال جوزف بورغمان (الدانمارك، 15 دقيقة).

• "أرماديو" لجانوس ميتس (الدانمارك، 90 دقيقة).

(كل العروض تبدأ الساعة التاسعة مساء )  

 

خارج الكادر

مدن وسينما (2)

هل من علاقة بين المدن والمهرجانات السينمائية التي تُعقَد فيها مرةً كل عام؟ وهل للمدينة فضل على الحدث الذي تحتضنه؟ مَن يدين للآخر، المدينة أم المهرجان، علماً أن بعضاً من أهم المهرجانات في العالم لا يجري في العواصم بل في مدن أصغر حجماً وأقل تأثيراً وسكاناً؟ فمهرجان ساندانس مثلاً (ولاية أوتا) أهم من مهرجان نيويورك. وما من حدث سينمائي في باريس ينافس ما يجري في مدينة كانّ في شهر أيار من كل عام. أما روما، المدينة الأبدية، فلم تستطع مطلقاً أن تنافس موعداً سينمائياً يتكرر منذ أكثر من ستة عقود على جزيرة سينمائية اسمها البندقية. هنا حلقة ثانية من بعض المشاهدات في مدن تؤوي مواعيد سينمائية بارزة.

•••

القنوات المائية الشهيرة في البندقية تجعلها أكثر الاماكن رومنطيقية في العالم. وهي واحدة من أكثر المدن سحراً وروعة، لما تتمتع به من مبانٍ تاريخية يعود أغلبها إلى عصر النهضة. هذه المدينة التي تسبح فوق مياه بحر الأدرياتيك، عبارة عن أكثر من مئة جزيرة ملتصقة، كانت ولا تزال من أصعب أماكن التنقل عملياً وهندسياً. الذهاب من مكان الى آخر في هذه المدينة الساحرة، محصور في القوارب الكلاسيكية المتوافرة بكثرة، التي يطلق عليها اسم الغوندول. تبدو الاشكال الهندسية والمعالم الاثرية هنا كأنها لوِّنت استعداداً لعرض مسرحي جذاب. أما الرحلة الى أقاصي السينما في البندقية فحقيقية وممتعة، رحلة لا تخلو من النوستالجيا والنظر الى المستقبل باعتبار ان الفنّ ضمير العالم، حتى وإن كان هذا العالم معزولاً على... جزيرة!

بعد 77 سنة على ولادته، لا يزال "موسترا" البندقية واحداً من أعرق المهرجانات السينمائية في القارة القديمة وأبعدها تاريخياً في العالم. الـ"موسترا" هذا، يفيد من الديكور الخلاّب والخلفية الجمالية لمدينة البندقية، حتى انه يستحيل فصل المهرجان عن بيئته الجغرافية. واذا كان البندقية لا يحتّل المرتبة الأولى حضوراً وتأثيراً في بورصة المهرجانات، فإن موقعه الثقافي والتاريخي ودوره الريادي يخوّلانه ان يأتي بعد مهرجان كانّ.

بعد فترة باهتة اجتازها المهرجان في عهد مديره الاسبق موريتز دو هادلن، اضحى البندقية مجدداً، في ادارة ماركو موللر، أرضاً مفتوحة وأصبح يستقطب سينمائيين ونجوماً من الطراز الرفيع، يأتون الى هنا ليستعرضوا آخر انتاجاتهم البصرية. زحمة وتدافع وهيصات على السجّاد الاحمر، هي الخبز اليومي لكل الذين يتهافتون من انحاء ايطاليا على مشاهدة وجوه لم يعتادوا رؤيتها من قريب.

مئة سؤال تساورك في هذه المدينة العائمة التي تفرض مزاجها الحزين على الزائر.

•••

في برلين ثمة مهرجان وحّد الألمان حول مسلّمات العصر الحديث وقيمه. في مدينة تاريخية عظيمة الشأن، تحوي كل الغرائبيات، هذه التظاهرة هي الموعد السنوي الأكثر رمزية: ليس من تظاهرة لعبت الى هذا الحد دوراً تاريخياً في مصالحة شعب والخروج من غياهب التاريخ منتصراً على الخراب وفخوراً بإنجازاته. اليوم، أمسى بعيداً زمن كان فيه الأوروبيون يلجأون الى لغة العنف لمخاطبة بعضهم البعض. وهل مثل الفنون الجميلة والأدب والسينما قدرة على مراقبة سلوك البشر وتغيراتهم؟

أن تكون في برلين يعني أن تواجه طبيعة أوروبية صافية تغمرها الثلوج في أماكن، فيما الشمس تطل بأشعتها الخجولة في أماكن أخرى. رحلات طويلة في القطار تعبر التلال والوديان والبراري، تحت سماء شبه غائبة لشدة البياض، في حين يلوح في الافق فجر يوم مثمر بلقاءات كثيرة. فالسفر والسينما مصير واحد ومسارهما متلازمان. انهما اشبه بذهاب واياب بين الواقع والمتخيل. من بلد الى آخر يعرّفنا السفر الى أماكن وشعوب تصمد في الذاكرة الى الأبد. وما هي السينما غير هذا؟ تاريخ الشعوب والأمكنة مطبوع على مادة لاصقة.

لسنوات خلت، كانت ساحة بوتزدامر حيث تُعقد معظم تظاهرات المهرجان، خط التماس الذي فصل المانيا الشرقية عن الغربية. لكن الأمور تغيرت الآن وصار هذا المكان يحتضن ثالث اكبر حدث سينمائي في العالم بعد كانّ والبندقية: الـ"برليناليه". الاسم مشتق من مدينة لم يبق منها شيء في سنوات الحرب العالمية الثانية سوى الخراب والدمار والبؤس. اياً يكن، فبعد عقود طويلة من العزلة، تحولت هذه المدينة "الرمزية" نموذجاً للهندسة العصرية يزورها 70 ألف سائح في اليوم. في مطلع شباط من كل عام، يجتاحها عشاق السينما من انحاء ألمانيا وأوروبا والعالم للاحتفاء بفن كبير كان له فضل كبير في لمّ شمل "العائلة" الألمانية.

 ليس ثمة ما هو أكثر بداهة من أن تحمل مدينة كوزموبوليتية كبرلين راية السينما القائمة أصلاً على فكرة الاختلاف. فنحو من 40 صالة موجودة في هذه المدينة، لكن هذا العدد يكاد لا يكفي لسد جوع الألمان الى المعرفة والاتصال بالقرية الكونية بعد سنوات من الانغلاق والتقوقع! واذا كانت للألمان رغبة في قلب صفحة الماضي، فكل شيء في برلين يحضّهم على تذكر أشباح التاريخ، بدءاً مما يُعرض على الشاشة بين حين وآخر، وعلى علاقة مباشرة بالتاريخ الألماني، وصولاً الى هذا الجدار، الذي لم يستطع المهرجان في السنة الماضية  أن يُعقد من دون الالتفات اليه، وخصوصاً في مناسبة مرور عقدين على انهياره.

هـ. ح

النهار اللبنانية في

01/07/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)