حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

العمل الوحيد الذي اقتبسه عن رواية

تارانتينو يعود إلى "جاكي براون"

محمد رُضا

المرة الوحيدة التي أقدم فيها المخرج المعروف كونتن تارانتينو على تحقيق فيلم مقتبس عن رواية، كانت تلك المرة التي أعجب فيها بقصة وضعها الكاتب البوليسي إلمور ليونارد تحت عنوان “روم بَنش”، لكنه نقلها إلى الشاشة تحت عنوان جديد هو “جاكي براون” سنة 1997 .

الفيلم كان من أفضل أعماله، ومن أقلها تناولاً من قبل النقد العربي، إذ إن أحداً لم يحتف بها كاحتفائه، سلباً أو إيجاباً، بفيلميه السابقين “كلاب المخزن” (1992) و- على الأخص- “بالب فيكشن” (1994)، السبب قد يكون أن هذين الفيلمين عرضا في مهرجان “كان”، حيث فاز الثاني بالسعفة الذهبية في سنة إنتاجه، بينما اشترك “جاكي براون” في مسابقة مهرجان برلين الأقل حظوة على الصعيد الإعلامي . أو ربما السبب أن تارانتينو لم يكن بعد ذلك الاسم الذي يتبعه عن كثب المعنيون بالكتابة السينمائية، كما هي الحال الآن بعد أن استمر في إنجاز أفلام تحمل بريقاً فنيّاً ونجاحاً جماهيرياً خاطفاً كما الحال مع “أقتل بل” (بجزءيه) وأخيره “أولاد زنى مغمورون” .

الآن، يعود فيلم “جاكي براون” إلى الواجهة بعدما قرر الكاتب إلمور ليونارد تسويق رواية أخرى بطلتها جاكي براون كان نشرها تحت عنوان “التبديل” قبل روايته “روم بَنش” . ومع أن تارانتينو لن يقف وراء الكاميرا لتحقيق الفيلم الجديد، إلا أن حقيقة أنه أسهم في نقل شخصية جاكي براون، كما أدتها الممثلة بام غرير، دفع الكاتب لإطلاعه على ما سيقوم به من باب التقدير على الأقل .هذا ما يعني أن المشروع قيد البحث عن مخرج آخر، إلا إذا ما غيّر تارانتينو رأيه وفضّل أن يخرج القصّة بنفسه .

استرعت رواية ليونارد “روم بنش” انتباه تارانتينو منذ أن بدأ يقرأ لذلك الروائي حين كان لا يزال في الخامسة عشرة من عمره كما قال ذات مرة . وتذكّر الرواية حين كان يبحث عن مشروع جديد يختلف قليلاً عن فيلميه السابقين . بالنسبة إليه كانت الرواية، التي أصبحت فيما بعد تُعرف ب “جاكي براون” جاهزة لتنتمي إلى عالمه: هناك بطولة نسائية (والمرأة القوية حاضرة في معظم أفلام المخرج) وأدوار يمكن إسنادها لممثلين مرموقين، كما حبكة بوليسية مشدودة بالإضافة إلى أن اسم إلمور ليونارد من الشهرة بحيث يمكن اعتماده سنداً تجارياً مهماً . قبل “جاكي براون” مباشرة، نقلت هوليوود إلى الشاشة “اقبض على شورتي” بنجاح كبير، وبعده عادت إليه وأنجزت من تأليفه بضعة أعمال أخرى بدأت ب “غياب” أو الذي أخرجه ستيفن سودربيرغ من بطولة جورج كلوني  .out of Sight

في ذلك الحين، كان تارانتينو مهتماً بإيجاد قصة يسند بطولتها إلى الممثلة الأفرو- أمريكية بام غرير، وذلك كونها كانت نجمة العديد من أفلام “السينما السوداء” التي سادت السبعينات من القرن العشرين . تلك الأفلام البوليسية التجارية المسماة ب”بلاك إكسبلويتاشن” قام بمعظم أدوارها ممثلون سود ودارت حول أشكال الصراع بين الخير والشر ممثلين بأبطال سود، ثم بخليط من السود والبيض في الأدوار الشريرة . بام غرير كانت بطلة بعض تلك الأفلام . وُلدت سينمائياً في 1970 بفيلم “ما وراء وادي الدمى” وترعرعت سريعاً كإحدى أبرز النجمات الأفرو- أمريكيات في أفلام مثل “نسمة باردة” و”امرأة سوداء، امرأة بيضاء” و”اصرخ يا بلاكولا” .

بام غرير كوّنت لنفسها اسماً منفصلاً ومشهوداً في هذه النوعية من الأفلام حين مثلت “كوفي” و”فوكسي براون” وكلاهما في منتصف السبعينات . تارانتينو، المعني جداً بتلك الأفلام الشعبية اختار عنوان “جاكي براون” تيمناً بفيلم بام غرير “فوكسي براون” .

وقصة إلمور ليونارد هي أنضج من كل تلك الأفلام التي لعبت غرير بطولتها . في تلك الأفلام كانت أشبه ببروس لي لكن في صورة امرأة مع لذة في الاقتناص من الأشرار من دون أن تدعي العفة . في “جاكي براون” لعبت شخصية مضيفة طيران تجد نفسها مضطرة لتهريب مخدرات عبر حقيبتها، وإلا كشف البعض عن تاريخها الذي تحاول أن تنساه . بذلك تصبح واقعة بين البوليس والأشرار .

العمل مع بام غرير كان رغبة تارانتينو منذ البداية وازدادت الرغبة إلحاحاً حين التقى بها ذات مرة بعدما أعرب عن رغبته في العمل معاً، فقالت له: “متى تعتقد أنك ستحقق هذه الرغبة؟ عندما أشيخ وأصبح مترهلة؟” . بعد أقل من سنة أصبح “جاكي براون” مشروعاً واقعاً مع لفيف من الممثلين الجيدين مثل سامويل ل . جاكسون (الذي مثل مع تارانتينو أكثر من مرة) وروبرت دي نيرو ومايكل كيتون وروبرت فوستر وبردجت فوندا .

 

"نجم ساطع" أغفل نهاية كيتس

هناك سخرية قدرية في الأشهر الأخيرة من حياة الشاعر البريطاني جون كيتس (1795-1821) أفلتت من ملاحظة المخرجة الاسترالية جين كامبيون في فيلمها الحديث “نجم ساطع” . والسبب أن الشاعر الذي مات شاباً بمرض السل كان قرر الإبحار إلى إيطالياً طلباً لدفئها الصيفي، واصطحبه في رحلته صديقه الرسّام جوزف سيفرن . أقلعا في سبتمبر/أيلول بحراً، لكن السفينة تعرضت لعواصف عاتية أخّرت وصولها إلى منتصف نوفمبر/تشرين الأول . حينها كانت بقايا الدفء الصيفي ولت والطقس البارد حل ومات كيتس بعد شهرين وعشرة أيام من وصوله في بيت في روما . السخرية كامنة ليس في تلك العواصف التي عبثت بالرحلة البحرية وأخرتها، إنما في وصولها في الوقت ذاته الذي بدأت فيه السلطات الإيطالية إجراءات تقضي بحجز كل سفينة مقبلة من بريطانيا بسبب انتشار مرض الكوليرا . كيتس الذي لم يكن مصاباً بالكوليرا مكث عشرة أيام على ظهر السفينة يسعل ويحصي أيام حياته الباقيات، وحين الإفراج عن الركّاب بعد الفحص كانت الرحلة استنفدت أغراضها قبل أن تبدأ .

فيلم جين كامبيون، الذي شهد عروضه التجارية قبل فترة ليست بالبعيدة وسط اهتمام بالغ من النقاد وبعض المتابعين لأعمالها أو للمهتين بالأفلام التي تدور حول شخصيات أدبية، يكتفي بالإحاطة بالجوانب العاطفية من هذه التراجيديا ويخلو من تجسيد لتلك السخرية التي عايشها الشاعر خلال حياته الصغيرة.

إنه عن علاقة الحب بين كيتس (كما يقوم بدوره بن ويشبون) وفاني برون (آبي غوريش) التي تنمو في فترة صغيرة من الزمن لم تسمح لهما بالكثير من الوقت لتوجيه العاطفة صوب النتيجة المنتظرة لها . حين رأته غمزت الصنارة سريعاً، ربما بسبب شبابه وحسن طلعته، أو ربما بسبب ما خطه من أبيات شعر كان جديداً على مسامعها . ولم تكن واثقة مما إذا كان كيتس شاعراً حقيقياً أم مجرد صورة خاوية حين طلبت من شقيقتها الصغيرة شراء أحد كتبه لتعرف، على حد قولها في الفيلم، ما إذا كان “هذا الشاعر غبياً أم لا” .

لاحقاً ما تمضي المخرجة في سبر غور سلسلة من المآسي الصغيرة التي عايشها الشاعر قبل إصابته بالسل، وكيف بذلت فاني في سبيل مساعدته الوقوف على قدميه من جديد .

الفيلم يتيح للمخرجة كامبيون التعامل مرة أخرى مع موضوعها المفضل: الشخصية النسائية التي تعاني في سبيل حبها، كما كان الحال في ثلاثة من أفلامها السابقة على الأقل هي “ملاك في طفولتي” (1990) و”البيانو” (1993) و”صورة سيّدة”(1996) .

مثل تلك الأفلام أيضاً، فإن عناية جين بالتفاصيل وعناصر الصورة التشكيلية والمناظر والديكورات دقيقة من دون أن تعيق العلاقة المنشودة بين الفيلم ومشاهديه . هذا يأتي هنا مصحوباً بتصوير ينص، إضاءة وألواناً، على قدر كبير من التماثل مع رسومات الفترة ذاتها . أمر بات عدد متزايد من المخرجين المتعاملين مع مواضيع تدور في العصور السابقة تلجأ إليه من باب المعايشة أو التقدير، أو كليهما .

يذكر الفيلم، إلى حد أقرب إلى الرصد، كيف أن كيتس لم يكن شاعراً ناجحاً على الصعيدين الجماهيري والنقدي . هذا تبدل لاحقاً قبيل وفاته، وربما بتأثير من قصّة حياته المأسوية، ثم تبدّل أكثر بعد مرور عقود تبلور فيها تأثيره كمنتم إلى الشعر الرومانسي في زمن كان الشعر الكلاسيكي لا يزال سائداً . جين كامبيون تستقي ما تريد من المعلومات لتضع سيناريو مكتوباً خصّيصاً للشاشة، وبذلك تمنح لنفسها مشروعية المؤلّف أيضاً .

* فنياً الفيلم مُصاغ حسب الحاجة إلى نوعه وبضوء من المادّة ذاتها . بذلك هو رومانسي كما شعر الكاتب وكما كانت حياته . على ذلك لا يخرج الفيلم من حدوده الضيّقة بسبب من تخصص السيناريو بجزء محدود من حياة الشاعر وتكرار مواقع التصوير ثم الحدود الإنتاجية التي عليه الالتزام بها . جزء آخر من ذلك يعود إلى الرغبة الحثيثة لدى كامبيون، في كل أفلامها، لأن تقترب من شخصياتها إلى درجة إشباع سريع تقضي على استمرارية الفضول . بالتالي، نصف ساعة من الفيلم والمرء يشعر أنه شاهد ما يكفي حتى ولو قرر أن يمضي في رحلته تلك إلى النهاية .

 

علامات

الفيلم المطلق

هل يمكن الوصول إلى حالة من السينما تخرج فيها عن كل القواعد الظاهرة منها والخفية لتصنع أفلاماً صافية وخالصة ومطلقة؟

بعض السينمائيين اعتقد أن ذلك ممكن . الألماني وولت روتمان حقق بدءاً من منتصف عشرينات القرن الماضي، قبيل نطق السينما في أوروبا، أفلاماً من هذا القبيل أشهرها “سيمفونية مدينة عظيمة” . لوي بونويل أنجز أفلامه القصيرة الأولى على هذا النحو، وبعض أعمال الشاعر الفرنسي جان كوكتو، صاحب السبع مهن (شاعر، روائي، محلل، رسّام، كاتب مسرحي، كاتب سيناريو، مخرج)، بدءاً من مطلع الثلاثينات كانت تقوم على المبدأ ذاته .

ما الفيلم المطلق إذاً؟ إنه الفيلم الذي ينشد التخلّي تماماً عن كل علاقات السينما بالرواية أو التسجيل وفي صدد ذلك، عليه أن يترك المؤثّرات الفنية والمرجعية الأخرى . يترك التمثيل، والموسيقا الإيقاعية، والديكور والكتابة، أدبية أو مسرحية أو حتى خاصة . يترك كل هذه النواحي التي يتشكّل منها، ومن سواها، الفيلم كما نعرفه يقدم على تصوير متحرر من كل مرجعية ممكنة وفي مقدّمتها سرد موضوع والاعتماد على تتالي الصور من دون معنى محدد . لأنه بمجرد التفكير بالمعنى فإن على المخرج أن يجلب أسباب طرحه ونتائجه وعما إذا كان صواباً أو خطأ، ولكي يفعل ذلك عليه أن يقدّم شخصيات وخطوطاً قصصية مهما كانت صغيرة فهي تتطلب سرداً قائماً على مشاهد تتوالى تبعاً لترتيب سردي، روائياً كان أو إخبارياً، تقريرياً أو وثائقياً . وحتى في الفيلم الإخباري، لنقل عن كارثة طبيعية أو استعراض حافل أو غارة عسكرية، هناك داع لنقل ما حدث ضمن خط مفهوم وسياق يوصل الحدث ومعانيه . الفيلم المطلق لا يكترث بإيصال هذه المعاني حتى ولو كان عن كارثة طبيعية أو مناسبة احتفائية أو أي حدث آخر .

في “الفيلم المطلق” هناك صور لا تعني شيئاً في الظاهر . لنقل إن المخرج يريد الحديث عن الصور والذاكرة، لكن وسيلته في ذلك ليست تصوير رجل يبحث في الصور أو يجلس ويتذكّر، بل ربما بمزج الصور بدقائق الذاكرة: نملة، طير، ورقة بيضاء، كرسي متداع، غصن يسقط، إطار سيارة يحترق أو يتدحرج، حصان يبتعد، نقاط ماء تتجمّع، نصف وجه رجل، صورة بلا ملامح الخ . . . بجمعها مع بعضها بعضاً يهدف لتشكيل حالة شخصية ونفسية مستخدماً حرفتين لابد منهما هي التصوير والمونتاج لكنه لن يستخدمهما كما يستخدمهما المخرج الآخر .

هذه الصفات هي أيضاً صفات الفيلم التجريبي، باستثناء أن له خطوطاً أعرض لغايات أكثر تنوعاً وأساليب لا تمانع أحياناً من استخدام عناصر سينمائية مختلفة (كالموسيقا مثلاً) .

السؤال الأخير الذي قد يطرأ على بالنا: هو ما أهميّة الفيلم المطلق؟ والجواب هو أنه بالنسبة لمعظمنا فإنه غير مهم لا بالمعنى الحياتي (من يوم ليوم) ولا بالمعنى الفني (كونه نوعاً مجهولاً لدينا)، لكن هذا النوع هو سينما، كما السينما الشعرية والسوريالية و”الأنيماشن” الرمزية وككل نوع آخر . وهو نوع لابد سنجد له مماثلاً في النثر والشعر والرسم من بين فنون أخرى .

م .ر

merci4404@earthlink.net

http://shadowsandphantoms.blogspot.com

الخليج الإماراتية في

30/05/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)