حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

صالة لواحد

الأسطورة التي أسمها العراب

محمد رضا

بعد ست وثلاثين سنة على إنتاجه، فإن مشاهدة «العرّاب» الفيلم الملحمي الكبير الذي قام المخرج فرنسيس فورد كوبولا بتحقيقه، لا يزال يمثل متعة راقية أو قل هي ضرورة لكل من يحب السينما من دون حدود. لا يهم إذا ما شاهدته مرّة أو أكثر من مرّة. هذا ليس فيلماً تستطيع أن تعتبر نفسك مكتفياً بمشاهدته لمجرد أنك شاهدته حينما خرج في حينه على الجمهور أو بعد ذلك. شخصياً، شاهدت هذا الفيلم ما لا يقل عن خمسة عشر مرّة. والسبب في أن كل مرّة تشبه المرّة الأولى هو دليل كفاءة مخرج يعرف كيف يصنع أفلاماً. أفلاماً وليس مجرّد أشرطة تتوارى بعد أشهر أو سنين قليلة.

في سلسلة من المقالات تتألّف منها هذه الدراسة، سآخذ وقتي لأجوب في رحاب هذا العمل، لسبب واحد: الكتابة عنه هي مثل مشاهدته، عليها أن تكون متأنية وشاملة. ليست خاطرة أو ملء فراغ بل قراءة من سطر إلى سطر تماماً كما أنجز كوبولا رائعته هذه لقطة لقطة..

1- البداية: حفلة تؤسس كل شيء

هناك حفلة عرس كبيرة في مطلع الفيلم وحفلة موت كبيرة في نهايته...

يفتح "العرّاب" على يوم سبت في شهر آب/ أغسطس من العام 1945. اللقطة الأولى هي للدون كارليوني (مارلون براندو).  الكاميرا مثبّتة على وجهه ثم تنسحب للوراء ببطء مقصود. تلاحظ الإنارة الخافتة (التصوير لغوردون ويليس) وبعد أن تنتقل الكاميرا إلى الخارج حيث حفلة العرس في وضح النهار وتحت أشعة شمس غامرة يبرز التناقض الذي يُضيف تعليقاً صامتاً مهمّاً: رئيس هذه العائلة/ العصابة يعمل حتى في يوم زفاف  ابنته.  وهكذا، وبينما الحديقة تشهد حفلة كبيرة  والكل سعيد بها،  داخل الغرفة، هناك، "بزنس" معقود. فالدون عليه أن يستقبل المدعوّين الذين جاؤوا يباركون زواج ابنته. بعضهم كما سنرى لديهم مشاكل وقد جاؤوا يطلبون العون. في الغرفة أيضاً ابن الدون سانتينو (جيمس كان) ومحامي العائلة الذي يعتبره الدون ابنا له واسمه توم هاغن (روبرت دوفول) والرجال المقرّبين بيتر كليمنزا (البدين رتشارد كاستيلانو) وآل نيري (رتشارد برايت). هذا البزنس لا يضم ولديْ دون كارليوني الآخرين:  فريدو (جون كازال) ومايكل كورليوني (آل باتشينو) لكن فريدو يعيش في كنف العائلة بينما مايكل هو الابن المدلل العائد من الحرب العالمية الثانية والمغترب عن أصوله الإيطالية قدر استطاعته. صديقته (دايان كيتون) ليست إيطالية كصديقات وزوجات الجميع...

الرجل الواقف أمام الدون مستعطفا هو أميريغو بوناسيرا (سل?اتور كورسيتو)  جاء يطلب المعونة والعدل.  ابنته تعرّضت لاعتداء فاحش وضرب مبرح  على يدي أميركيين (غير إيطاليين). العدالة الأميركية حكمت عليهما بحكم مؤجل فقط وهو لا يؤمن بالعدالة الأميركية. جاء يطلب العدالة الصقلّية يقول للدون:

"أؤمن بأميركا. لقد منحتني ثروتي. وربّيت ابنتي على الطريقة الأميركية. منحتها حرية- لكني علّمتها أن لا تهين شرف العائلة. وجدت صديقاً غير إيطالي" ثم يحكي ما حدث لها حين اعتدى عليها ذلك الصديق وصديقاً له في السيارة. حين مانعت وحافظت على عفّتها، ضرباها. ويمضي والدها شارحاً ما حدث بعد ذلك. ابنته الجميلة لن تبقى جميلة بعد اليوم. والمحكمة أطلقت سراح الولدين :"وقفت في الحكمة مثل أحمق. وهذان النذلان وقفا يبتسمان لي" ويعكس مرارته بعبارة " I went to the police  like a good American".

قلت لزوجتي: لأجل العدالة يجب أن نذهب إلى دون كورليوني". يقول الرجل بخنوع...

يسأل الدون ضيفه: "لمَ ذهبت الى البوليس ولم تأت إليّ باكراً؟" وضيفه بوناسيرا ينحني إلى أذن الدون ويسر له بشيء. إنه ربما يطلب أن يقوم الدون بإخصاء الرجلين. لكن الدون يقول بصوت مسموع" "هذا لا أستطيع فعله" وهنا  يعرض بوناسيرا على الدون المال. يقول I will give you anything you ask على ذلك يرد كورليوني وقد ازداد عتابه: "نعرف بعضنا منذ سنوات بعيدة لكنها المرّة الأولى تأتي إلي للنصيحة أو للمساعدة.. هذا على الرغم من أن زوجتي هي عرّابة ابنتك الوحيدة"  ثم يُضيف :"أفهم. لقد وجدت الفردوس في أميركا. باتت لديك تجارة صالحة. حققت معيشة طيّبة. البوليس يحميك وهناك محاكم. وأنت لم تحتج لصديق مثلي. لكن الآن تأتي إلي وتقول: دون كورليوني، أعطني عدالة. لكنك لا تطلب ذلك باحترام. لا تعرض صداقة. لا تفكّر بأن تدعوني "العراب". بدل ذلك تأتي إلى منزلي في يوم زفاف ابنتي  وتطلب مني جريمة مقابل مال" . بوناسيرا لا يزال لا يفهم. يقول للدون: كم تريد؟

هنا ينهض الدون من مكانه ويدير ظهره...

الجو، عند هذا الحد، مشحون. أستطيع أن أتصوّر هذا المشهد المنفّذ بطوله (تقريباً) وقد حبس العاملون وراء الكاميرا أنفاسهم. الإضاءة الخافتة والحوار الجيّد القادم من صلب الشخصيات يضع المشاهد منذ البداية في جو محكوم. ولاحظ: ليست هناك نافذة مفتوحة. النافذة المفتوحة  ستكشف عن عالم خارجي لا أحد يريده هنا. العالم الخارجي  احتمال آخر والاحتمال الآخر (أيّما كان) يضعف المشهد وما يدور فيه والبعد الذي يمثّله..

إنه هنا يسأل براندو هذا الرجل قائلاً: "بوناسيرا، بوناسيرا.. ما الذي فعلته لك لكي تعاملني  بلا احترام؟  لو أنك جئتني كصديق لكانت الحثالة  التي خربت ابنتك تعاني من هذا اليوم. ولو أن رجلاً شريفاً مثلك  أصبح له أعداء لكان عدوّه عدوي.."

يبكي أميريغو. يطلب منه الدون التوقّف مذكّراً إياه أنه رجل ثم يطمئنه ويعده خيراً. بعد مغادرة أميريغو، يطلب الدون من أحد رجاله  القيام باللازم حيال المعتدين..

هكذا يرسم فرنسيس فورد كوبولا لفيلمه، المنجز بتأن ودراية، صورة لعائلة كارليوني تحت سُلطة الأب الكبير (العرّاب كما سمّاه الفيلم). عائلة متعددة الشرائح وشريحة أساسية منها تنتمي إلى الجريمة  المنظّمة. في الوقت ذاته، هي عائلة كبيرة ومتعددة من الأقارب والسلالات الصقلية.  وهناك حفلة عرس كبيرة  في تلك الحديقة. فرقة إيطالية تعزف وإيطالي عجوز يقوم ويغني بالإيطالية وفي أحد المقاطع يشير بيده رامزاً للكلمات الخادشة فيضحك الجمهور.  غير بعيد يقف برونو (توني جورجيو) أحد رجال الدون  المخلصين يتمرّن على ماذا سيقول للدون مهنئاً. يكرر العبارات كما لو كان يتدرّب على مشهد من مسرحية.

هذه الصورة الأولى الشاملة،  تمنح "العراب"، منذ مطلعه ملامح عائلة  فيلم عن العائلة، ثم عن كل فرد فيها. ليست العائلة المؤلفة من الأب والأم وسلالتهما، بل عن كل من يؤلّف العائلة المافياوية التي أسمها عائلة كورليوني. الأزلام والرجال والحراس والقتلة المأجورون. وهو أيضاً عن القمّة في الهرم ثم السفوح. عن الالتزام.. التضامن.. التآخي.. ثم عن الخيانة.. الضعف.. الجبن..

الحفلة تستمر لنحو عشرين دقيقة لتكشف بهجة لن نرها بعد ذلك طوال الفيلم.  المنحى الذي تتخذه الحكاية، عن حذق، هو أنه في حين يرفض الدون كورليوني تجارة المخدّرات التي يقف وراءها  فيرجيل سولوتزو (آل لاتييري) هناك آخرون، بينها عائلات مافياواية أخرى تعتقد أن سولوتزو على حق وأن تجارة المخدّرات هي كنز المستقبل وسوف لن يمكن تفويت فرصة المتاجرة بها. الدون يحذّر ويطلب من باقي رؤساء العصابات عدم محاولة فرض شيء عليه وعدم الانجراف في تجارة مرفوضة. البعض يوافق، والبعض الآخر يتظاهر بالموافق

ثم هناك ذلك المشهد المفاجئ. برونو، الرجل الذي شاهدناه سابقاً يتمرّن على إلقاء التحيّة، يصل إلى اجتماع مع سولوتزو. كما كان المشاهد استنتج من المشهد السابق، فإن برونو قد يكون أميناً لكنه ليس ذكياً. سولوتزو يوهمه بأنه يريد منه أن يكون صلة خير بينه وبين الدون كارليوني، لكنه يغدر به في لحظة مفاجئة ويزرع سكيناً في يده بينما يقوم رجل آخر بخنقه. القتل هو رسالة سولوتزو إلى الدون كارليون.  بعد ذلك محاولة اغتيال الدون التي تتم أيضاً على نحو غير متوقّع. الدون كان يمشي في السوق يشتري التفّاح. فجأة تتوقف سيارة ويبدأ من فيها بإطلاق النار عليه ثم يهربون.  للخروج من هذا المشهد، يختار كوبولا هنا تعتيم المشهد في النهاية كما لو أن جفن عين هبط خشية متابعة المشهد.

الجزيرة الوثائقية في

18/03/2010

 

الأسطورة التي أسمها العراب

2/2

 محمد رضا  

محاولة اغتيال الدون كارليوني تنتهي بزعيم العائلة جريحاً وبنقله إلى المستشفى بين الحياة والموت. ثم يأتي ذلك المشهد الذي لا تعرف، إذا ما شاهدت الفيلم لأول مرّة، ما إذا كنت تريد أن تجلس وتنتظر نتائجه أو تركض أمام آل باتشينو لكي تساعده في حماية أبيه

إنه المشهد الذي يبدأ بوصول آل باتشينو ليلاً لزيارة أبيه الجريح. المستشفى يبدو خالياً من أي شخص عداه.  يمشي في الردهة قاصداً غرفة أبيه التي في نهاية الردهة. حين يدخل يجد أباه بلا رعاية، لكن ها هي ممرّضة وحيدة تصل لتعاينه. يسألها عن رجال البوليس الذين كان من المفترض بهم حراسة أبيه. تقول له إنهم غادروا. يدرك ابنه مايكل أن انسحاب الحراسة مقدّمة لوصول من سيأتي لقتل والده. فجأة هناك صوت خطوات ثقيلة في الردهة. لكنه صديق العائلة. معا يرتّبان الأمر كما لو أنهما مسلحين ويقفان أمام المستشفى حين وصول رئيس البوليس (الممثل الكبير سترلينغ هايدن) الذي يضرب باتشينو قبل انصرافه، وهو لم يكن لينصرف لولا أن باتشينو كان اتصل بشقيقه سانتينو (جيمس كان) وأخبره أنه بحاجة إلى رجال لحماية أبيه

هذا هو التورّط الأولى لباتشينو في قضايا العائلة التي لم يتعامل معها من قبل، كذلك بداية رغبته في الانتقام. ليس من فرجيل سولتوزو (آل ليتييري) الذي أمر بالاغتيال، بل من رئيس البوليس نفسه (ذلك المشهد الحابس أيضاً للأنفاس حين يقابل مايكل سولتوزو ورئيس البوليس في المطعم ويقتلهما معاً)  ثم من كل من ثبت تورّطه بمن فيهم أعضاء من العائلة أيضاً موقف تصاعدي يبدأ حين يبدأ مايكل بالمشاركة في النقاش الدائر بين شقيقه  صوني (جيمس كاين) ورجال الأب المقرّبين (أكثرهم قرباً بيتر كلمنزي الذي يؤديه الممثل البدين رتشارد كاستيلانو، البطل-الظل) حول ما الذي يمكن فعله للنيل من سولتزو . في البداية يسخر صوني من تدخّل شقيقه الصغير مايكل في النقاش. إنه - إلى ذلك الحين- الحلقة الأضعف. الشاب الأكثر تحضّراً والذي يبدو كما لو كان مؤلّفاً من عجينة مختلفة تماماً. لكن مايكل لديه اقتراح والاقتراح يتحوّل إلى فكرة ثم مشروع. المشروع هو أن يقبل مايكل اقتراحاً ورد من سولتزو نفسه لحل المسألة ودّياً فيلتقي وإياه ورئيس البوليس الفاسد كابتن مكلوكسي (سترلنغ هايدن) في المكان والزمان الذي يحدده سولتزو أعزلاً من السلاح  لكن هناك من سيسبقه ويحشر له مسدسا صغيرا في خزانة مياه المرحاض

مايكل كان جندياً ويعرف كيف يطلق النار، لكن لاحظ كيف أن كوبولا يترك لرتشارد كاستيلانو تعليم مايكل كيف يستخدم المسدس كما لو كانت المرّة الأولى والسبب هو أن القتل في الحرب غير القتل المتعمّد لشخص آخر عن قرب وعلى الطريقة المافيوية

والمشهد الشهير حين يعود مايكل من الحمّام ويسحب مسدّسه وينهي حياة سولتزو وحياة رئيس البوليس مكلوسكي على الفور لا يحتاج إلى تعريف لكنك لن تعبأ بالجريمة- تريد أن نصفق لمايكل. على أية حال

الرد من أسر إجرامية أخرى كانت تقف - سراً- وراء الرغبة في التخلّص من الدون ينجلي عن فخ يقع  صوني عرضة له فيموت عند حاجز تم استبدال عناصره الحكوميين بآخرين من المأجورين. وعن محاولة قتل مايكل في صقليّة حيث كان هرب بعد تنفيذ العملية. بعد عودة مايكل من إيطاليا يقدّم لنا كوبولا فصلاً من المشهد يتجسّد فيه الموت مرّة أخرى: موت الدون كورليوني بينما يلاعب حفيدته لا شيء يحيل إلى أن هذا اللعب سينتهي بفاجعة.

الآن مايكل بلا منازع هو سيّد هذه العائلة.. الآن وهو يعلم أن هناك من خانه من العائلة ولن يهمّه كم هو قريب منه أو بعيد. سيبدأ بالتخلّص منهم في الجزء الأول من الثلاثية، ثم يوالي  التخلّص منهم في الجزء الثاني. الجزء الذي يتم فيه تقديم روبرت دي نيرو في شخصية دون كورليوني في شبابه.

مثل الجزء الأول، "العراب 2" هو مجموعة متلاحقة من الفصول إنما واحد من الماضي والآخر من الحاضر. والنهاية تنفيذ مستمر لنهاية العصابات المتنافسة. بينما مايكل كورليوني في الكنيسة كعرّاب ابن شقيقته (التي قتل زوجها الذي كان خان العصابة بإفشائه سرّاً) كان رجاله ينفّذون العمليات المنفردة ولاحظ الدقّة في استخدام الخطوط المتوازية: كنيسة، تنفيذ عملية. كنيسة، تنفيذ عملية. كنيسة تنفيذ عملية..

في تعليق على التقيد بتعاليم وتقاليد دينية بينما الخروج عنها قائم بأمر الرجل الساعي لتطبيق تلك التعاليم لا أستطيع إيفاء الفيلم بما يستحق من حديث ليس فقط لأنه إنجاز فني كبير، من مخرج ناضل كل يوم من أيام التصوير لكي يحقق الفيلم الذي يريد، بل لثرائه وكثرة موارده ومصادره الفنية. نقاد آخرون وضعوا كتباً في السلسلة وبعضها لا يزال لا يفي العمل حقّه من الاهتمام كونه مؤلّفاً من تفاصيل كثيرة تشتغل على نسيج واسع. إنه فيلم عن العائلة التي عليها أن تأتي في المصاف الأول (وأنا أصف الأجزاء الثلاثة هنا بكلمة فيلم) في الوقت الذي هو عن رئيس جديد لعصابة مافيوية لا يرحم. أكثر قسوة من أبيه وأكثر جرأة من أعدائه. وعن تصوير سينمائي حققه الرائع غوردون ويليس لا يوجد مثيل له إلى اليوم، يُظلّل الأجواء، يمنح كل مشهد قوّته الخاصّة. يتحرّك ببطء مدروس (وفي هذا الصدد أحيلكم إلى مشهد رأس الحصان المذبوح في سرير المنتج السينمائي أو إلى المشهد الرائع في الجزء الثاني حين يموت مارلون براندو وهو يلاعب حفيده)

والمشاهد تتوالى وهذا الخضم من السحر السينمائي الذي يجاور كل سحر سينمائي حققه فنان مبدع في تاريخ السينما لا يتوقّف ولا يتحوّل إلى حالة متكررة حتى ولو شاهدت الفيلم عشر مرّات.

الجزيرة الوثائقية في

25/03/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)