حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

في جديد ميشيل خليفي:

«زنديق» ينفر ممّن كفروا

بشار إبراهيم

لم يكن المخرج السينمائي الفلسطيني؛ ميشيل خليفي، بحاجة إلى هذه القسوة كلها، وهو يعود بفيلمه الجديد «زنديق»، بعد قرابة عقد من السنوات، على آخر إطلالاته السينمائية الروائية.

لا يبرر له ذلك تاريخه السينمائي العريض، وهو المخرج الذي أسّس لولادة السينما الفلسطينية الجديدة، حتى أننا كنا قد رصدنا له الجزء الأول، الأهمّ والتأسيسي من كتابنا «ثلاث علامات في السينما الفلسطينية الجديدة»؛ (دار المدى 2005)، باعتباره المخرج السينمائي الفلسطيني الذي أعلن صراحة عن وجود سينما فلسطينية خالصة، مختلفة، ومغايرة، ومفارقة، سينما قادمة من قلب فلسطين المحتلة، وليس من الشتات، كما كانت العادة حينذاك..

ولم يكن للمخرج السينمائي؛ ميشيل خليفي أن يبصق على كل شيء، وأن يرميه طيّ النار، بدءاً من صوره القديمة، إلى مفتاحه العتيق، إلى صليبه العتيد، ليثبت لنا أنه مأفون ملعون في عالم فلسطيني، كل ما فيه يمضي إلى الدمار.

ما كان لميشيل خليفي أن يسمح لتلك الرسائل بالتدفق، من بين يديه، وعبر فيلمه، مهما بلغ به الحنق من حالٍ فلسطينية بدت كأنما باتت تأكل نفسها، وبنيها..

سيبصق ميشيلي خليفي في البئر. وسيهزأ من تلك النبرة الدرويشية الصارخة: «أنا من هنا»، على ما فيها من نبرة التمسك بالبقاء في المكان. وسيبول على كل ما آمن، وآمنا به. وسيسكر، ويمجن.. في حفلة صارخة من جلد الذات، أكثر من نقدها. والكفر بما فيها، أكثر من التفكير فيها!

لن يقف المخرج ميشيل خليفي، على ما هو فيه من ثقافة ودراسة وعلم وخبرة، وسعة اطلاع، أتاحتها له تجربته المميزة، للتأمل المتأني، ولو لحظة واحدة، إذ أن شياطين عاصفة وأشباح هائمة تطارده، وهو يلوب لاهثاً في شوارع «الناصرة»، المدينة التي بدت أنها أقفرت من مارتها، ولم يبق ثمة من يجوس في شوارعها، سوى لصوص، وقتلة مأجورين، أو متطوعين.. وكثير من المجرمين!..

ميشيل خليفي؛ المخرج السينمائي الفلسطيني الكبير، والمبدع الرائد، الذي انطلقت السينما الفلسطينية الجديدة مع كاميرته أولاً وأساساً، منذ فيلمه الشهير «الذاكرة الخصبة»1980، و«طريق النعيم» 1981، و«معلول تحتفل بدمارها» 1985، وتعرَّجت دروبه، ما بين ذروته الفنية في «عرس الجليل» 1987، ومن ثم أفلامه «نشيد الحجر» 1990، و«حكاية الجواهر الثلاث» 1994، و«الزواج المختلط في الأراضي المقدسة» 1995، انتهاءً بفيلم «الطريق 181» عام 2003، ها هو يعود مع فيلمه الروائي الطويل «زنديق» 2009، وقد أرهقته السنون، والحمل الكبير على كتفيه، والثقل الموجع في قلبه، ليبدو كأنما أراد أن يقوم بتصوير ما صارت إليه الحال الفلسطينية، بكل سوءاتها.

غضب عنيف يرجّ ميشيل خليفي، فينفر، حتى بدا كأنما الغضب طار به على جناحه، فصنع فيلمه هذا من غضب. لم يشأ ميشيل خليفي أن يلتقط حكاية من الواقع الفلسطيني، من أحياء خلفية، أو من عالم سفلي، لم يعد خافياً على الكثيرين من الفلسطينيين، على الأقل كما فعل إسكندر قبطي في فيلمه «عجمي»، أو كما فعل توفيق أبو وائل في فيلمه «عطش»، فيدفع بالقول: هذا جزء من حالكم، فانظروا في أقبيتكم المعتمة!.. كما لم يشأ أن يبني حكاية من الخيال، ويحقنها بمعادلات فنية أو درامية، لتشير إلى سوءات الحال الفلسطينية، ليقول: فتشوا في ملابسكم، لعل أحدكم يعثر على شيء مما أصوّره في فيلمي، بين ثناياها!..

ميشيل خليفي، هنا، وكما شاء له من الهوى، يقف على حافة ذاته؛ أقصد تماماً تجربته الشخصية، لينطلق منها إلى محاكمات قاسية، سواء لتجربته الشخصية، وهو العلم السينمائي الفلسطيني الرفيع، كما للتجربة الفلسطينية العامة، وقد باتت لا تأبه به، ليس فقط لا تعرفه، بل أيضاً تطرده بلامبالاة من أمام أبوابها!.. وهو أمر مفجع حقاً.

ينبغي القول بداية، إن المخرج ميشيل خليفي سيحقق، مع عودته المظفرة فنياً، وبعد طول غيبة، فيلماً متميزاً، دون شك، فيه الكثير من حرفية السينمائي المتمكّن، العارف بتقنيات الفيلم السينمائي، بل والقادر على خوض تحديات التصوير الليلي، والتجوال الخارجي، والسيطرة على ما يكتنفه هذا العمل من صعوبات، فضلاً عن السيطرة على مفرداته جميعاً، من ممثلين محترفين، يقف على رأسهم الفنان الفلسطيني الكبير محمد البكري، أو ممثلين يظهرون للمرة الأولى، كالفنانة الفلسطينية، ذات الوجه الجميل ميرنا عوض.

ربما لا يحتاج ميشيل خليفي لأي شهادة نقدية، وهو صاحب الباع الطويلة والتجربة الغنية في تحقيق الأفلام السينمائية، روائية وتسجيلية، وما راكمه خلال مسيرته الإبداعية من منجزات.. ومع ذلك، فإن التتبع النقدي لمسيرة هذا المخرج ، تشير إلى أنه حقق فنياً خطوة واسعة على طريق تراثه السينمائي، تجاوزاً لما سبق أن فعله، على الأقل في فيلمه الروائي السابق: «حكاية الجواهر الثلاث» 1994، وما فيه من اقتراحات فنية وسردية.

«زنديق»؛ فيلمه الروائي الطويل الجديد هو فيلم كبير على أكثر من مستوى فني وتقني.. ويستحق التقدير والاحترام، لم تكن جائزة المهر العربي التي نالها في مهرجان دبي السينمائي الدولي السادس 2009، إلا أولى تباشيرها للعام القادم 2010، وفي اليقين أن هذا الفيلم سيراكم عليها المزيد من الجوائز، والتقديرات، والتكريمات، وسيكون سفير السينما الفلسطينية خلالها..

ربما سيُؤخذ على الفنان الفلسطيني الكبير محمد البكري، وهو المطلوب منه الكثير، أنه لم يكن في أفضل حالاته الفنية، التي اعتدناها منه، خاصة وأن تعبيراته، في هذا الفيلم، بقيت تدور ضمن حدود ضيقة، ليست مُنتظرة من فنان بحجمه وقدراته.. وربما كان من المأمول منه ما هو أكثر من ذلك، خاصة وأن بنية الحكاية وطبيعتها، ومركزية دوره، كانت تتطلب تنويعات انفعالية أكثر غنىً، وأعمق ثراءً، سواء على مستوى علاقته بالشخصيات المحيطة به، وذات العلاقة معه، أو على مستوى تحولات الحدث معه، وهو ما لم يظهر بحرفية على تعبيرات وجهه، التي بقيت على مستوى واحد.

مع فيلمه «زنديق»، سيبدو أن المخرج ميشيل خليفي يجرُّنا إلى إشكالية المضمون، وسؤال زاوية التناول، وصوابية وجهة النظر، وتوازنها، وموضوعيتها، أكثر مما يضعنا أمام الجوانب الفنية والتقنية.. فالفيلم يأتينا كأنما هو رسالة المخرج، أو وصيته، أو قولته في الشأن الفلسطيني برمته، ومصيره، ومآله.. وليس تناولاً لجانب من الموضوع الفلسطيني، أو تفصيل منه، كما هي عادة المخرج خليفي، في أفلام سابقة له!..

ونحن نقف أمام عتبة فيلمه «زنديق». لن ننسى أن المخرج ميشيل خليفي هو من أسس للسينما الفلسطينية الجديدة، ولادة ونشوءاً وتطوراً. فهو مؤسسها ورائدها وعنوانها، وهو من أطلق بيان وجود الفلسطينيين وحضورهم في مكانهم، وحضور سينماهم أيضاً، بذروة فنية اسمها «عرس الجليل».. كما لن ننسى أنه من أسّس لتيار لذاكرة الإنسان في السينما الفلسطينية، إذ ليس عبثاً أن فيلمه الأشهر جاء بعنوان «الذاكرة الخصبة»، كما أنه من أسّس لتيار ذاكرة المكان، على الأقل من خلال فيلمه «معلول تحتفل بدمارها»..

هكذا، ومتكئين على تراثه السينمائي الكبير، وتجربته الإنسانية الغنية وفرادتها يجعلنا ميشيل خليفي، نقلّب وجوه أبواب الدخول إلى فيلمه الجديد.. فنحاول أن نأتيه في كل قراءة.. لنجد أنفسنا ننتهي إلى أسئلتنا المحيرة ذاتها.. وننتهي إلى الخلاصات ذاتها..

إن لم يكن «م»، بطل الفيلم، هو المخرج نفسه، فعلى الأقل هو المحتقن بذاكرته ذاتها؛ ذاكرة ميشيل خليفي، نتبين ذلك من لقطات الأفلام التي أنجزها ميشيل خليفي. التي تتوارد في لقطات استعادية، يمارسها «م»، في لحظات وحدة، ووحشة، وعزلة.. كثيرة هي التقاطعات بين «م»، المخرج في الفيلم، وميشيل خليفي مخرج الفيلم، حتى ليصح قول الأخطل الصغير: «لو مرّ سيف بيننا، لم نكن نعلم هل أجرى دمي أم دمك؟»!

وفي الفيلم سيوف كثيرة، وجراح لا تنتهي، فيركض المخرج كليثٍ هصور، كليم، مألوم، في شوارع خاوية، فارغة، إلا من العزلة، والوحشة، البرد، وصرير الرياح، وصيحات قتلة ومجرمين، وربما طالبي ثأر منه.

تنحني القضية الفلسطينية برمتها، لتنال منها صفعات غاضبة، على وجهها، وجبينها، فتتهدم وتتداعى أمام ما فعل بها بنوها بها!

بعد ستين سنة من النضال، والكفاح، والمقاومة، والاصرار على الحضور والوجود، ذاك الذي اكتسى في غالبيته الأعمّ سمة الانتماء ما هو حضاري مدني ديمقراطي، نكتشف إننا ما زلنا ننتمي إلى مجتمع الأخذ بالثأر، والعصبيات العائلية والقبلية والعشائرية، والطائفية والدينية!

بعد ستين سنة مما قدمته مدينة «الناصرة»، الحاضرة العربية الرائدة، والتي احتضنت الفعالية الثقافية والسياسية والاجتماعية الفلسطينية، طيلة عقود من الاحتلال، والتي احتضنت وأنجبت وقدمت أعلام الثقافة الفلسطينية، من توفيق زياد وأميل حبيبي ومحمد علي طه، إلى ميشيل خليفي وإيليا سليمان وهاني أبو أسعد، وكانت المجال الحيوي لأعلام السياسة الفلسطينية في الداخل من عزمي بشارة إلى محمد بركة وأحمد الطيبي، وتنوع الأحزاب العربية.. (وعلينا أن نعتذر للكثير من الأسماء اللامعة التي أنجبتها الناصرة، أو احتضنتها، أو قدمتها، ممن لا نستطيع ذكره).. نقول: بعد ستين سنة من كل ذلك، سنرى مدينة «الناصرة»، فارغة الشوارع، موحشة، تصفر رياح الخوف والظلام في جوانبها..

صورة مؤلمة، تدعو للبكاء.. للوعة والحسرة.. هل هذه الناصرة؟!.. أهذه هي المدينة التي ملنا عليها، وقلنا لها: أنت عاصمتنا، بعد اغتيال يافا وحيفا وعكا، وبعد تدمير اللد والرملة، وإفراغ صفد؟! ونتساءل: هل هؤلاء الذي يركضون في الشوارع هم نحن؟!

يمعن ميشيل خليفي فيما شاء له من القسوة.. ولا يكذب..

وينثر في وجوهنا ما أمكنه من حطامنا.. ولا يكذب..

ويذرو رمادنا في عيوننا حتى يعمينا.. ولا يكذب..

إنه صادق.. نعم.. لن يستطيع أحد اتهامه بالكذب.. حتى تلك الرسائل التي مرّرها، تحمل جانباً من الحقيقة!.. رغبة الثأر العارمة، واستسهال إراقة الدم الفلسطيني على يد فلسطيني.. عصابات تهريب الأطفال من غزة، إلى إسرائيل، والاتجار بهم هناك.. عفواً، ليس استغلالهم في أعمال سوداء، كأيد عامل رخيصة، بل حتى انتزاع أعضائهم، وبيعها.. الاختراع الفلسطيني المفجع، أن يكون الفلسطيني سجيناً، أو أسيراً، ليس عند إسرائيل، فقط، هذه المرة، بل عند طرف فلسطيني.. في حزن مُضاف على حزن.

ربما يكون الفلسطينيون اليوم في منحدر عميق من عصر انحطاط.. وفي قاع من زمن انكسار.. وربما آلت تجارب فردية كثيرة، على ما كان فيها من أحلام وطموحات، إلى خيبة.. ولكن الزمن الفلسطيني ذاته، ما آل إلى الخسران التام، بعد!.. ثمة أمل ما زال يساور شاعراً هنا، وقاصاً هناك، وروائياً هنالك.. ثمة أمل ما زال يحدو سينمائياً ليبدع أجمل أفلامه، وتشكيلياً ليرسم أحلى لوحاته، ونحاتاً لينقش بأمهر ضرباته.. ثمة أمل ما زال يجيش في جوانح فتى طالع من زواريب مخيم، وفتاة تجدل ضفائرها أمام مرآة فلسطين، تغني لغد أفضل، على الرغم من كل السواد الذي يظلل حواف تلك المرآة.

ميشيل خليفي.. رفقاً بنا.. وإن جدَّ جدُّ لن تكون وحدك ذاك الـ «زنديق»!

المستقبل اللبنانية في

17/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)