حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

غياب

... وسكت رومير عن الكلام المباح!

هوفيك حبشيان

السينما الفرنسية في حداد بدءاً من الاثنين الفائت بعد فقدان أحد أكبر رموزها أريك رومير (1920)، الذي يروق لنا ان نتخيله، من حيث يوجد الآن، ضاحكاً مستهزئاً، لرؤيته وجوه عشاقه الحزينة بسبب رحيله من هذا العالم الذي دأب على إظهار شرّه المحيق، من فرط ما أحبه وغنّجه وداعب فضيلته ورذيلته.

لكن، من هو رومير الذي يعود الآن الى الواجهة الإخبارية بعدما بات في آخر حياته في الصفوف الخلفية؟ فرائد "الموجة الجديدة" احتاج الى خبر موته كي تقول فيه الصحافة المتخصصة كلمتها الأخيرة. أيضاً: من هو فعلاً هذا الشاب التسعيني؟ هل هو حقاً روائي فاشل، على وزن ناقد فاشل، اعتنق السينما للتعويض، لأنها أقرب الفنون الى فنّ الحكواتي؟ أم هو سينمائي مجدّ الكلمة بكل أحوالها: الكلمة التي تمسك، والكلمة التي تحرر، والكلمة التي "تقتل"، والكلمة التي تحيي، وسواها من كلمات تقع في منتصف الطريق بين الحزن والبهجة؟ لا أحد يعرف من يكون أريك رومير اذاً، لصعوبة تحديد وجهته، لكن الجميع يعرف ما لا يمكن ان يكونه اريك رومير.

المخرج الذي سلّى بحواراته الطريفة جيلين وثلاثة من المشاهدين، كان يؤمن بأن الأدب لا يتنافى مع السينما. وكمن يكتب روايات بوليسية، يشتمّ فيها القارئ رائحة المذنب أو القاتل منذ الصفحة الخامسة، راح يروي قصص حبّ تدور دائماً في الفلك نفسه: لقاء وانفصال، ثم لقاء آخر فانفصال جديد، وهذا كله يرافقه سيل من الحوارات تعاتب وتوضح وتقرر، تسكن أفلام المخرج، أحياناً عن حق وأحياناً عن باطل، والهدف الاساسي هو دائماً ارادة حقيقية في فهم مجريات لعبة الحياة والتواصل معها. أما ابطاله فيتلاقى بعضهم بالبعض الآخر من دون أن يكون أيٌّ منهم، في انتظار هذا اللقاء. يمكن القول ان المصادفة ولعبة الأقدار لعبت عنده دوراً محورياً في هذا التلاقي. لذا، في مكان ما، يمكن اعتبار رومير، سينمائي التواصل وانعدامه في آن واحد. استطراداً، ليس من الخطأ التشديد على انه كلما كثر النقاش العقيم، بان الشرخ العميم!

طوال أكثر من نصف قرن، تابع رومير توظيفه الأدبي غير المسبوق للسينما (بعضهم ينظرون الى ذلك كآفة، وهم أحرار)، وبسبب هذه التقنية شلّ آلية عمل عناصر كثيرة في أفلامه. لكن دعونا لا ننسى ان الرجل كان له طموحات أدبية منذ البدء، لذلك استطاع التقريب بين هذين الفنين، على نحو بات الكلام المباح عنده يولّد ايروسية ما، وهذا ما يدفعنا الى القول انه حرر الكلمة من أفواه الشخصيات، واضعاً اياها في فوهة السينما. الغريب أن رومير كان محسوباً على السينمائيين ذوي المنحى الأدبي، على رغم انه كان يؤلف بنفسه نصوص أفلامه، وكانت الاقتباسات من مثل "لا ماركيز دو" و"برسوفال الغالي"، عملة نادرة لدى شخصيته السينمائية ذات الحاجة الدائمة الى التعبير عن الذات بالذات

تضمن سجل رومير نحواً من 25 فيلماً، منها مجموعته الحكواتية التي باشر العمل عليها منذ ستينات القرن الماضي، وبلغ عددها في المحصلة النهائية: ستة أفلام من سلسلة "حكايات أخلاقية"، والعدد نفسه من "كوميديات وأقاويل" (الثمانينات)، اما "حكايات المواسم الأربعة" (التسعينات)، فتوقفت عند أربعة أفلام

هذا الطوباوي الذي كان يشكو من خجل مرضي يجعله متحفظاً ومنغلقاً على نفسه، أضحى رمزاً للسينمائي المؤلف، بحسب تقويم "الموجة الجديدة"، وهي الحركة السينمائية المعروفة التي كان هو أحد الأركان الذين ساهموا في اخراجها الى العلن، بدءاً من أواخر خمسينات القرن الماضي، صحبة اسماء طبعت الذاكرة السينمائية، من مثل كلود شابرول وجان - لوك غودار وفرنسوا تروفو. بيد انه كان أكثرهم ثقافة وابهة، واقلهم ارتياداً للصالات، في المرحلة الاولى من حياته. في هذا الاطار، ثمة مصادر تقول انه من عمر الخامسة الى العاشرة لم يشاهد الا فيلماً واحداً، هو "بن هور" في نسخته الصامتة (التي يفضلها الزميل محمد رضا على النسخة الناطقة)، أما بين العاشرة والسابعة عشرة، فشاهد فيلمين ناطقين فقط! لكن عاد وعوّض عما فاته، عندما بلغ الخامسة والعشرين، إذ بدأ يرتاد السينماتيك الفرنسية حيث اكتشف كلاسيكيات السينما الصامتة، من غريفيث الى مورنو فأيزنشتاين، ولكن أيضاً كيتون وشابلن. وسرعان ما استل القلم للكتابة، بدءاً من 1946، ومن أول مقالاته: "السينما، فن المساحة". لكن تقربه من اندره بازان في منتصف الخمسينات أتاح له ان يأخذ الكتابة على محمل الجدّ، وصولاً الى ترؤسه "دفاتر السينما" عام 1957، التي كانت "المطبخ الحقيقي" لأهمّ تيار سينمائي عصف بـ"الواقعية الشاعرية" التي بدأت على أثر هذا الانقلاب تلفظ أنفاسها الأخيرة.

•••

بعد باكورته "رمز الأسد" (1959) التي شهدت مخاضاً عسيراً، عمل رومير على أفلام غلبت عليها المقاربة الشخصية. فجأةً، مع "ليلتي عند مود" (1969) افتتح جناح سينماه على الجمهور العريض، الغائب حتى ذلك الحين من حساباته، وهذا الفيلم كان التحفة التي نصّبته، على نحو لا يحتمل أي جدال، نموذجاً أبدياً لما يجب أن يكون عليه فيلم المؤلف، حيث المخرج هو ربّ العمل الأول والأخير، والمسؤول الوحيد عن الخيارات الجمالية كلها. ولكن كان هذا النموذج من وجهة نظر ما بات يُعرف بدءاً من الخمسينات بـ"سياسة المؤلفين" التي شارك رومير في صوغها.

كان رومير يستهويه المضي بصحبة كاميراه في شؤون الحياة وشجونها، انطلاقاً من حبّه للقال والقيل، وللهمس داخل الغرف المقفلة، مأخوذاً على الدوام بالحس التربوي المبطن، الذي كشف لاحقاً الفرق، كل الفرق، بينه وبين زملاء له حمل واياهم في حقبة سابقة راية واحدة. مما لا شك فيه انه كان صاحب سرّ، وهذا ما منع الآخرين من تقليده. "من يقلّدني تأتي نهايته على يده"، كان يقول سيرغي بارادجانوف. كلام مشابه نستطيع أن نقوله في شأن رومير. غامر تكراراً في متاهات الحب والمصادفة والأقدار الخائبة والعلاقات المكلومة: قد يكون هذا تعميماً خطيراً في وصفنا لعمله. لكن هذه هي الخلاصة التي يتركها في البال بعد قرابة 25 فيلماً ونحو 60 عاماً من السينما. مع ذلك، اذا كان سبق للواحد منا أن غرق يوماً ما في بلاغته وطول اناته، فلا شك انه كان يخرج من عنده مزهو القلب وكأنه احتسى كأساً من الخمر.

كان رومير من سلالة المستفزين، لكن بتحفظ شديد جعل معالجاته تبدو من زمن غابر. ظل يعمل في زاوية خاصة له، من دون ان يزعج أحداً، وأحياناً بسرية مطلقة. هويته الفرنسية المتينة لم تكن عائقاً امام اعتباره فناناً ذا امتدادات كونية، يشمل خطابه الفقير والغني، الملحد والمؤمن، الأمي والأكثر ثقافة.  

•••

مراراً، شاهدنا شخصياته تلجأ الى التصريح بما في أعماقها. الامتحان الذي ينوضع فيه هؤلاء الشخوص، قائم على فكرة البوح. الكاميرا هي امضى الاسلحة في معالجة امراض مجتمع متستر على قضايا القلب، ولا سيما في مرحلة بدء تشكيل ملامح انحلال المبادئ في جمهورية ترفع راية ثلاثية اللون، "حرية مساواة إخاء".

دنا اسلوبه من نمط مسرحي واضح، من حيث ستاتيكية حركة الكاميرا أو مواقع التصوير. عموماً، ضمّت سينماه خصائص غالباً ما تصنَّف في خانة الـ"انتي" سينمائية، لجهة انعدام الحوادث وانحسار الشخصيات الى حفنة محظوظة لوقوفها امام كاميرا المعلم. لكن، اذا اعتبرنا ان لرومير اسلوباً، فهذا الاسلوب كان نقياً وكلاسيكياً ويبعث على الحيرة. تحليله كان يأتي هادئاً وهادفاً، في حين أن نظرته الى السينما راوحت بين النظري والرغبة في نيل الاعجاب. ولا شك أن ثمة فرقاً كبيراً بينه وبين رفاقه، عماده الرؤية النبيلة للسينما. مع ذلك لم يحذ حذو نوع من بورجوازية سينمائية ينضوي تحت لوائها كثر من الذين يسارعون للانتساب اليها ما ان يحتلّوا مراكز مرموقة بين أقرانهم.

بعيداً من النكات والكليشيهات التي تطاول الأحوال العاطفية لكلا الجنسين، أطلق لغة أكثر عمقاً للتعاطي مع الأشياء الصغيرة التي تصنع حيواتنا. ولم تنقص هذه اللغة اشارات فسق ورذيلة محببة. ولا شكّ ان هناك ثابتة غالباً ما تعود على الفيلم بنتائج عكسية، وهي عدم لمس الجسد، لكونه ربما معبد الروح ومأوى الكلام عند رومير. لعل ما صنع غرابته، بمعزل عن أي تيار أو موضة، هو الاهمال المقصود للواقعية. في هذا السياق، كيف لنا أن ننسى انه صاحب أغرب فيلم تاريخي على الاطلاق: "الانكليزية والدوك"، حيث اللوحات في خلفية الصورة احتلت مكان الديكورات التقليدية؟ وحده جنون رومير كان قادراً على جرعة مماثلة من الفانتازيا الرقمية. بعض السينمائيين يزدادون جرأة كلما تقدموا في السن. رومير من هؤلاء. وهي جرأة لها تاريخ عريق في عمله يتجسد مثلاً في مشهد من "بيرسوفال الغالي"، حيث نرى ممثليه المفضلين (اريال دومبال وفابريس لوكيني) يمتطيان حصاناً داخل ديكور كرتوني لا يؤخذ على محمل الجد، لكن رومير أكد مراراً انه يفضل الطرافة الخلاّقة على التراجيديا، ويميل الى اخفاء الفسق والانحراف متذرعاً بمداواتهما أخلاقياً

فيلموغرافيا اختيارية

  • Triple agent (2004)
  • L'anglaise et le duc (2001)
  • Conte d'été (1996)
  • Les rendez-vous de Paris (1995)
  • Conte d'hiver (1992)
  • Le rayon vert (1986)
  • Les nuits de la pleine lune (1984)
  • Pauline à la plage (1983)
  • La femme de l'aviateur (1981)
  • Perceval le Gallois (1978)
  • L'amour l'après-midi (1972)
  • Le genou de Claire (1970)
  • Ma nuit chez Maud (1969)
  • Le signe du lion (1959)

 (hauvick.habechian@annahar.com.lb)

 

مهرجان

"كتابات على الشاشة" في "متروبوليس"

الرواية الكبيرة لا تصنع سينما كبيرة، لكن غودار...

 

بين السينما والرواية قصة حب ينبغي العودة الى بدايات الفن السابع لادراك أهمية العلاقة التي جمعتهما والأزمات التي عصفت مراراً بتاريخهما المشترك. في البداية، كان السينمائيون ينكبّون على المسرحيات كونها أقرب الى اللغة السينمائية، أقله لتضمنها حوارات شبه جاهزة. ثم، وبعدما استفادت السينما من كل ما يمكن الاستفادة منه في المجال المسرحي، راحت عيون مؤلفيها تتجه نحو الرواية في اشكالها كافةً، من الملحمية الى القصة القصيرة، مروراً بالشريط المصور، وحتى الشعر نال نصيبه من الأفلمة.

في البدايات، لم تكن للسينما قواعد واحدة تأخذ بها. كانت تغرف من الينبوع الذي تراه مناسباً لها. بعض الأفلام "شرشحت" كلاسيكيات الأدب. في المقابل بعض الأعمال الأدبية الملهمة بدت باهتة عند انتقالها الى الشاشة المستطيلة. شيئاً فشيئاً، تخلصت السينما من تأثرها بالفنون الأخرى، وأسس المعلّمون اللغة السينمائية، اعتماداً على المونتاج. وتوالت أجيال من "الثوار"، من أهدافها قلب الطاولة على رؤوس الأعمال الأدبية، في ايطاليا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة. نزلت الكاميرا الى الشارع لتلمس نبضه. تخلصت السينما من قبضة نصوص مرّ عليها الدهر، بابتكارها أدوات خاصة بها، ليس أقلها اهمية الصمت البليغ الذي يُعتبر من خصائص الفن السابع.

على رغم الانفصال المرحلي والعنيف للسينما عن الرواية في بلدان سينمائية كثيرة، بقي مسار الاثنين متلازماً. وحتى مَن كان يدين افلمة الادب لمصلحة النصوص الاصلية في الستينات، عاد ولجأ اليها، وهذه حال كلٍّ من غودار وتروفو. مع الزمن اكتشف الجميع ان الكتاب الكبير لا يتيح في الضرورة المجال لفيلم كبير، والامثلة في هذا الشأن لا تحصى. تأكد ايضاً انه ليس من المفروض على السينمائي المؤلف أن يكتب قصة فيلمه ليحسب على المؤلفين. لكن بقي هناك أسئلة معلقة مثل "كيف" يجب أن يُقتبس الكتاب؟ وهل على المخرج أن يبدي وفاء للاصل؟  معظم التجارب برهنت ان الاخلاص لا يفيد، لأن على المخرج ان يتبنى نصاً لآخر ويجعل منه معجونة لعمله، شرط ان يتمتع بوجهة نظر بالغة القيمة (اياً يكن، ليس هناك وصفة سحرية). فعلى سبيل المثال، في عام 1962، عندما اقتبس كوبريك "لوليتا"، خرج نابوكوف من صالة العرض قائلاً: "انه لفيلم عظيم، على الاقل، استطيع الآن ان ابيع روايتي من شخص آخر ليقتبسها". وهذا ما حصل فعلاً. فبعد 35 عاماً على الأفلمة الاولى للرواية، جاء أدريان لاين بنسخة ثانية لـ"لوليتا" تتجاوز الاولى من حيث الوفاء للاصل، لكن فيلم كوبريك ظل أكثر اكتمالاً وجمالاً.

مناسبة هذا الكلام هي الحدث الذي يجري حالياً في بيروت، من تنظيم المراكز الثقافية التابعة لبلدان أوروبية عدة (فرنسا، اسبانيا، بريطانيا، ايطاليا، ألمانيا)، في عنوان "كتابات على الشاشة"، وذلك من 11 الى 17 الجاري في "متروبوليس ــ صوفيل". مجموعة من 11 فيلماً تعرض في مناسبة تظاهرة "بيروت، عاصمة عالمية للكتاب". منها: "شرف الفارس" (الثلثاء، 22:00) للاسباني الغريب البرت سيرا عن تسكعات دون كيشوت وسانشو في ديكور يفتقر الى جماليات أفلام الفرسان وخال تماماً من الحوادث. باختصار، نموذج حقيقي لاقتباس حر جداً لرواية ثرفانتس!

من بريطانيا تأتي الأفلمة الرائعة لرواية تشارلز ديكنز "التوقعات الكبرى" (1946) بكاميرا ديفيد لين (الاربعاء، 22:00)، والتي شكلت ايضاً مادة لـ"ريميك" عام 1998، بتوقيع ألفونسو كوارون، وطبعاً لم يواز في سحره نسخة لين. أما من ايطاليا فهناك الاقتباس الحديث العهد والناجح جداً لنصّ جيانكارلو دو كاتالدو، "رواية جريمة"، (السبت، 19:30) الذي صوّره ميكيلي بلاتشيدو، صاحب "الحلم الكبير". واذا كانت فرنسا، الدائمة الحضور في نشاطات ثقافية كهذه، تتمثل في فيلم "فيللا أماليا" (2008) لبونوا جاكو عن اصل روائي لباسكال كينيار، (الجمعة، 22:00) فلا شك أن الحدث الابرز لهذه التظاهرة عرض "ازدراء" (1963) مساء امس لغودار وهو من خلاله نقل الى الشاشة احدى افضل روايات الكاتب الايطالي البرتو مورافيا، علماً ان الفيلم يعرض بنسخة 35 ملم سُحبت حديثاً.

من الصعب جداً تناول هذا الفيلم "الاسطوري"، من انتاج جورج دو بورغار وكارلو بونتي، والذي وضعه النقاد مراراً في قائمة أفلامهم العشرة المفضلة العابرة للأزمنة. منذ الجنريك، يضع غودار اسس سينما معارضة، تتجلى من خلال كلمة اندره بازان الملقاة في التعليق الصوتي: "السينما تستبدل بنظرتنا عالماً يتطابق مع رغباتنا". ثلاثة من كبار اسماء السينما يضطلعون بالأدوار الرئيسية: ميشال بيكولي، بريجيت باردو، والمخرج الالماني الرائد فريتس لانغ. صوّر الفيلم في مدينة كابري الايطالية ويتضمن مناظر خلابة للبحر انطلاقاً من التلة التي تقع عليها الفيلا حيث تقيم الشخصيات. الموسيقى لجورج دولورو، وهي الشيء الأول الذي يجتاح الذاكرة عند سماع اسم "الازدراء".

المشاهد التي تُري المداعبات وردّ الصاع صاعين بين بيكولي وباردو (Je t’aime tragiquement، يقول لها)، بالاضافة الى النزلات والطلعات على جسد ب. ب. بعدسة راوول كوتار، دخلت معاجم السينما، وشكلت مادة فخمة للتقليد من جانب كثر من الذين تأثروا بسينما غودار. أما الحكاية فليست أكثر من كونها تروي اللحظات الأخيرة من علاقة بين رجل وامرأة اصبحا على قاب قوس من الانفصال... كل شيء يبدأ مع وصول بول وزوجته كاميّ (بيكولي وباردو) الى كابري حيث من المتوقع أن يساعد المخرج فريتس لانغ (يلعب ذاته في الفيلم)، لمواصلة عملية كتابة سيناريو فيلم "أوليس". ما ان يصبح هناك حتى تتأزم العلاقة بينه وبين زوجته، ظناً منها بأنه يرميها في احضان المخرج الكبير كي يتسلم المهمة.  

اذا كان لا بد من مشاهدة عمل واحد لغودار فهذا هو الفيلم الذي ينبغي مشاهدته. فنحن أمام روعة صمدت أمام العتق والزمن. ثمة رمزيات تتداخل في الفيلم وتتشابك، ويستغل غودار هذا كله كي يطرح نظرياته في السينما بين الحاضر والماضي، بين سينما الآباء المتمثلة في صورة المنتج و"الموجة الجديدة" التي تتخذ ملامح ب. ب. في الأخير، ما بيكولي بقبعته وسيجاره، الا "غودار ثانٍ"، يلملم جراحه قبل الذهاب الى الموت.

الرواية الكبيرة لا تصنع سينما كبيرة، لكن غودار...

هـ. ح

النهار اللبنانية في

14/01/2010

 

رومير مثرثراً

محمد رضا  

شاهدت أول فيلم لرومير عام 1971 وكان "رُكبة كلير" الذي عُرض في بيروت بعد سنة من انتاجه، وخرجت انذاك بإنطباعات مؤيدة. صحيح أن رومير أقدم في هذا الفيلم على الشيء الوحيد الذي تتجنّبه السينما الفنية (تاركوفسكي وأنطونيوني) والسينما الأخرى الأميركية السائدة، وأعني به الحوار، لكن شيئاً ذا لمعة أصلية وأنيقة وناعمة طغى على ذلك الفيلم وجعله مميّزاً عن بقية الأفلام الفرنسية التي عُرفت عموماً بالإعتماد على الحوار الى درجة أنها أصبحت مثالاً بين سينمات العالم على ذلك.  

لم يكن رومير من الذين يستحوذون على إعجاب كل النقاد. كان كبير الشأن عند البعض وأصغر من ذلك عند لفيف آخر. الغرابة تكمن في أن بعض ملامح سينماه التي جذبت إليه إعجاب كثيرين، هي ذاتها التي تسببت في ابتعاد آخرين عنه، وأشير مرة أخرى الى الحوار. عام 1948 كتب المخرج، الذي كان لا يزال ناقداً آنذاك، مقالة في مجلة فرنسية اسمها "الأزمنة الحديثة" (ترأس تحريرها في ما بعد المخرج الفرنسي اليهودي الأصل كلود لانزمان) تحت عنوان "دفاعاً عن السينما الناطقة"، وفيها، كما تذكر سينمائية بريطانية اسمها تمارا تراز، يقول: "إذا كان الفيلم الناطق فنّاً، فالكلام يجب أن يلعب دوراً في تشكيل الشخصيات كعلامة ويجب الاّ يظهر كعنصر صوتي فحسب".

عبارته تلك مصيبة في أن معظم الحوارات في الأفلام التي نراها هي عناصر صوتية، لكنها في الوقت ذاته، عبارة تمنح المخرج "كارت بلانش" لاستخدام الحوار كعنصر أساسي، ولو أنه يكتب أيضاً أن للصوت "المركز الثاني من الأهمية بعد العنصر الصُوَري".

لكن أفلام رومير تشي بغير ذلك. عموماً، حين يقدم المخرج، رومير او آخر يؤمن بأهمية الحوار المتبادل، على إبراز هذا العنصر (سواء اعتبره الأول أو الثاني من حيث الأهمية)، فإنه ينسحب من ممارسة عمل يتطلّب إبداعاً وخلقاً. رومير هو نفسه الذي كتب مرّة أخرى في مقالة سمّاها "رسالة الى ناقد"، قائلاً: "فيلمي ليس في نصوص تلك الوثائقيات وليس في الحوارات، بل في الأشياء التي أصوّرها. أنا لا أقول بل أعرض. أعرض الناس الذين يتحرّكون ويتحدّثون". هذا صحيح، لأن أفلامه، حتى تلك المفضّلة لديَّ مثل "رُكبة كلير" و"ليلتي عند مود" (1968)، تقوم على رصد حركة الناس متحوّلة عن فعل الإشتراك في خلق الحركة الى مجرد التقاطها. يخلق المخرج الحركة عبر تصميمها في شكل مزدوج. إنه يدير أشياء الصورة دائماً، أي من مطلع الفيلم الى آخره، متدخّلاً في اللحظة التي سيمر فيها قطار او سيظهر رجل على دراجة نارية من بعيد، او ستمطر، او ستخربط الريح شَعر البطلة، ويشرف على حركة الكاميرا، مصمماً المشاهد واللقطات على نحو يلتقي، بافتراض مهارته، مع أسلوب ما يعرضه داخل الفيلم ومع روحه. هذا تدخّلٌ في الحياة التي يبتدعها المخرح (سواء أكان مؤلّفاً ام منفّذاً). أما إذا ترك الشخصيات تتحرّك وتتحدّث على هواها، فهو يخلع عن نفسه رداء الإبداع المباشر، الأمر الذي يترك مسألة أن يأتي فيلمه جيّداً او غير جيّد، رهين اعتبارات مختلفة، من بينها أهمية الموضوع (وليس النص في الضرورة).

انطلاقاً من هذا التفسير، فإن أفلام رومير تكشف عن العنصر الأدبي في صياغتها، ومواضيع المخرج كانت نوعاً من التحقيقات يقوم بها بمنأى عن أهميّتها. تحقيقات بين الناس، مدفوعة بفضوله الظاهر للخوض في حياة اللحظة الآنية لشخصياته. وهو خصّص الكثير من أفلامه للحديث عن شخصيات شابّة يصوّرها بلقطات طويلة وهي تتعارف، تتقابل وتنصرف، وتقع في ما يبدو حبّاً، تكتشف شيئاً، فثم تمضي. أفضل أعماله هي أفلام من البساطة شكلاً ومن البساطة مضموناً أيضاً. ما يجعلها أفضل من سواها، هو قدر النعومة التي مارسها رومير في عمله.

ليس رومير مخرجي المفضّل، ولا أضعه في قائمة أفضل عشرين مخرجاً (بل يأتي ربما في المرتبة الحادية والعشرين من بين أهم 365 مخرجاً)، لكنه كان مميّزاً في فهمه للسينما. وأحسبني أجمع في داخلي وجهتَي نظر الفريقين من النقاد، المحبّذ والمعارض: أحب رقته في تناول شخصياته، وأتذمّر من ذلك الحوار الكثيف، حتى بعد التمييز بين الحوار مكثفاً والحوار مثرثراً. بكلمات أخرى، أفهمه وأقدّره لكني لا أوافقه، وخصوصاً في أفلامه من بعد سلسلة "الحكايات" التي أنجزها (مثل فيلميه الرائعين "حكاية خريفية" و"حكاية شتوية") حيث بدا ضد أن يتراجع عن أهمية الحوار في أفلامه.

النهار اللبنانية في

14/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)