حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

نهاية عصر السينما النظيفة بأشرطة نظيفة !

القاهرة ـ حمدي رزق

لكل شيء آفة من جنسه، قالت العرب بهذه الحكمة منذ فجر القول باللسان العربي. واذا كان السينمائيون المخلصون والمثقفون الحادبون على السينما المصرية بكوا طويلا على ما آلت اليه هذه السينما مع صعود موجة السينما النظيفة منذ انتعاش الانتاج السينمائي في مصر (1996) والى وقت قريب، فانه آن للدموع ان تجف وللقلب ان يبرد، بعد ان اعلنت هزيمة هذه السينما في العامين الاخيرين بالضربة القاضية.

والسينما النظيفة، لمن لا يعرف.. مصطلح روّجت له الصحافة الفنية والإعلام الفني والنقدي في المجلات والبرامج الفنية، وبدأ استخدامه في وسط السينما المصرية في أواخر التسعينات من القرن العشرين والسنوات الاولى من هذا القرن والى وقت قريب، حين حدثت الانتعاشة الكبرى لسوق السينما بعودة الأسر لدخولها بأعداد كبيرة مع أشرطة «اسماعيلية رايح جاي» و«صعيدي في الجامعة الأمريكية». ويقصد بالتعبير السينما الخالية من القبل ومشاهد التعري، بحيث تناسب الأفلام جميع أفراد الأسرة. وتأسست هذه السينما على محورين اولهما الخلو من اية مشاهد ساخنة ولو كانت خفيفة عابرة، فضلا عن اعتماد الضحك اسلوبا اساسيا لتحقيق النجاح التجاري.

أما الآن، فهناك دلائل على انتهاء هذا المفهوم بعد ظهور كثير من الاشرطة في الفترة الاخيرة لا تعترف به.

اليوم هذه السينما تنتهي تماما ليحل محلها اعتدال وتنوع حقيقي يتفاءل به السينمائيون. ان نظرة الى اشرطة العام المنصرم 2009، تقطع الشك باليقين في هذا السياق، مثل شريط «احكي يا شهرزاد» لمنى زكي الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه يسري نصر الله. صحيح انه نال هجوما شديدا خصوصا على الفيس بوك والانترنت وبعض المدونات، واتهم المهاجمون منى زكي بأنها غيرت مسارها وتخلت عن اخلاقياتها الفنية، لكن الشريط شق طريقه وحقق النجاح النقدي والتجاري، مقدما قضايا واشكاليات المرأة المصرية والعربية بصورة غير مسبوقة جرأة ونضجا.

كذا شريط «ولاد العم» الذي لايزال يعرض الى اليوم ويقدم قصة استخباراتية متخيلة تضم منى زكي وشريف منير وكريم عبد العزيز، يمثل نجاحه دلالة مهمة، هي ان الضحك ليس الاسلوب الوحيد للنجاح التجاري.

فضلا عن اشرطة جادة تقدم ملفات اجتماعية ساخنة مثل «احاسيس» للبنانية ماريا وعلا غانم وباسم السمرة وراندا البحيري، وشريط «عزبة آدم» لدنيا سمير غانم وفتحي عبد الوهاب وماجد الكدواني، وشريط «عصافير النيل» المأخوذ عن رواية لابراهيم اصلان، وقام ببطولته فتحي عبد الوهاب وعبير صبري وأخرجه مجدي أحمد علي.

عاد الجمهور يتوق الى سينما جادة لواقعه الجاد، وعاد الضحك الى موقعه الحقيقي كمسكن ملطف لآلام الحياة، وليس كل السينما!

[رحلة مضنية

« السينما النظيفة» لا معنى لها في أي معجم ولا في أي لغة من اللغات الحية أو الميتة اللهم إلا في عقول هؤلاء الذين ابتدعوا العديد من الاصطلاحات الجديدة علينا مثل» السينما النظيفة»، و«سينما الأسرة»، و«سينما لا تخجل منها أنت وأسرتك»، وما إلى ذلك من هذه الاصطلاحات التي خرج بها علينا في الاعوام الاولى من هذه الألفية بعض أهل الفن والصحافة ليصدعوا بها رؤوسنا ليل نهار.

فما المقصود من قولهم هذا؟ هل هي السينما غير القذرة التي لا تشوبها الأوساخ والأدران؟
إنها بهذا المعنى تجعلنا نضرب أخماسا في أسداس للبحث في تاريخ السينما المصرية بل والعالمية أيضا عن تلك السينما التي تملأها الأدران. انك بعد بحث طويل لن تستطيع العثور على مثل تلك السينما وستقول لنفسك انك أخطأت التفسير وأن المقصود من ذلك المصطلح الجديد هو السينما المستقيمة الخالية من أية أفكار مؤدلجة تحاول التنظير للفكر اليساري أو اليميني. إلا أنك، بعد بحث مضن من جديد، لن تتحقق من صدق ما ذهبت إليه وسوف تقع في حيرة كبيرة حتى تكتشف في النهاية وبعد اجتهادات كثيرة انهم كانوا يقصدون «سينما ممنوع اللمس»..

ولعلّ مثل هذا الاتجاه الذي طفا على السطح منذ فترة ليست بالبعيدة، شكل في السنوات الاولى من هذا العقد اتجاها قويا كان يرسخ لمجموعة من الأفكار والقناعات الخاصة التي بدأت تفرض نفسها فرضا على العديد من قطاعات المجتمع، مثقفين وغير مثقفين!

ولعلنا إذا ما حاولنا الرجوع إلى البدايات الأولى لمثل هذا الاتجاه المتجهم في خطابه ونظرته للمجتمع لألفينا أنه وجد تربته الخصبة الصالحة للنمو منذ أواخر السبعينيات والبدايات الأولى للثمانينيات من القرن الماضي حينما حاول الرئيس الراحل «السادات» ضرب خصومه من التيارات الأيديولوجية المختلفة بعضهم ببعض ومن ثم بدأ يضخم من الاتجاه السلفي الديني الذي يتميز أغلبه بفهم الدين من خلال منظوره الخارجي- أي القشور- في مقابل الاتجاه اليساري- و المد الشيوعي والناصري - الذي كان يتعاظم أثره في المجتمع. وهنا قويت شوكة هذا الاتجاه السلفي؛ فبدأ خطابه الديني يتجه نحو الجهامة؛ ما ادى الى سيادة حالة عمومية من التحريم والعيب. ثم سرعان ما انسحبت مثل هذه الرؤية الضيقة على السينما فرأوا فيها هم وغيرهم من المتحفظين والمحافظين وغلاة الأخلاق شرا لا بد من استئصاله ومن ثم القضاء عليه نظرا لأنها من وجهة نظرهم تدعو إلى الفاحشة والخطيئة والفسق بما تصوره وتقدمه لهم من مشاهد عري وابتذال وقبلات وما إلى ذلك مما يعتقدونه هدما للمجتمع و أخلاقياته وتقاليده، على الرغم من كون ما تقدمه لنا السينما ليل نهار نمارسه جميعا في حياتنا كل يوم بل كل ساعة، بل على الرغم من أن السينما فيما تقدمه لنا لا تقصد قصدا عمديا الى تقديم الجنس لنا- على افتراض تقديمه- كما يرونه هم، بل إن الأمر مجرد منطق خاص للسيناريو لا يمكن أن يكتمل سوى به لأنه من أساسيات العمل الروائي.

وبذلك رأينا عام 1986 قضية من أغرب القضايا التي ظهرت في المجتمع المصري والتي قصد بها فرض الرقابة الاجتماعية على السينما المصرية- فصار هناك رقيبان خارجيان هما المجتمع والرقيب على المصنفات، هذا فضلا عن الرقيب الداخلي- حينما أثيرت قضية الفعل الفاضح العلني* عند عرض شريط «للحب قصة أخيرة» للمخرج الكبير رأفت الميهي فتقدم البعض ببلاغ للنائب العام يفيد بأن هناك فعلا فاضحا تم بين يحيي الفخراني ومعالي زايد الأمر الذي جعل المخرج والفنانون يدافعون فيه عن أنفسهم باعتبار أن مشهد الفراش واللقاء الحميم كان من صميم العمل؛ حيث كان الزوج مصابا بمرض في القلب وعليه فانه يترتب على لقائه مع زوجته الكثير من أحداث الشريط، وعلى الرغم من مرور القضية بسلام حيث تمت تبرئة كل من معالي زايد ويحيي الفخراني من التهمة الجديدة بل والشاذة التي وجهها لهم «اصحاب القيم الجديدة»، إلا أنها سرعان ما عادت تطفو على السطح مرة أخرى حينما تقدم البعض ببلاغ آخر للنائب العام ضد ممدوح وافي ومعالي زايد أيضا عند عرض شريط «أبو الدهب» 1995 للمخرج كريم ضياء الدين، بل وحينما تقدم أحدهم ببلاغ ضد يسرا لأنها تظهر في أفيشات شريط «طيور الظلام» للمخرج شريف عرفه 1995 بصورة غير لائقة تخدش الحياء العام على حد تعبير البلاغ، حتى صار الأمر وكأن الجميع بدأوا يترصدون السينما المصرية بل و يبحثون فيها بالمجهر عما يتعارض مع معتقداتهم الخاصة وأخلاقياتهم، كي يبدأوا في إثارة الضجيج ومن ثم اتهام السينما بعدم نظافتها ورغبتهم في سينما أكثر نظافة لا يشعرون فيها بالحرج من أولادهم و بناتهم حينما يدخلون لمشاهدتها.

[مشاهدون ومنقبون..!

وهنا بدأت تظهر لنا طائفة جديدة من مشاهدي السينما الذين يحرصون على دخول دور العرض ليس لمجرد المشاهدة بل للبحث والتنقيب عما يرونه ليس نظيفا ومن ثم يبدأون في الصياح والضجيج بأن ما يقدم لا بد من إلغائه وحذفه بل وتفعيل دور الرقابة.

إلا أن التساؤل الذي لا بد أن يطرح نفسه هنا هو إذا كانت أشرطة مثل «الساح» للراحل رضوان الكاشف 2001، «مواطن ومخبر وحرامي» لداوود عبد السيد 2001، «عرق البلح» للراحل رضوان الكاشف أيضا 1998، و«سوق المتعة» للمخرج سمير سيف 2000، «مذكرات مراهقة» للمخرجة إيناس الدغيدي 2002 وغيرها من الأشرطة تعد من قبيل السينما غير النظيفة فما هي السينما النظيفة من وجهة نظرهم؟ هل هي «اللمبي» للمخرج وائل إحسان 2002، «55 إسعاف» للمخرج مجدي الهواري 2001 وغيرها من الأشرطة التي لا نرى لها مضمونا على الإطلاق يستطيعون من خلاله أن يقدموه لنا؟!

بل والسؤال الأقوى الذي كان يطرح نفسه عندما سادت السينما النظيفة هو هل مثل هذه الأشرطة التي تقدم لنا «اللمبي» وغيره من الممكن اعتبارها نظيفة على الرغم مما تقدمه لنا من نماذج مشوهة شديدة التأزم للشباب من مساطيل يمسكون المطواة ليل نهار ويعتبرون البلطجة أسلوبا ونهجا خاصا للحياة لا بد منه مما قد يؤدي إلى نشأة أجيال كاملة تتخذ من «اللمبي» وغيره نموذجا لا بد من احتذائه؟ أم أن الأمر كان مجرد مغازلة للجمهور الجديد على السينما المصرية الذي كان بدأ يرتاد دور العرض والذي كان يرغب في سينما متشنجة خالية من الملامسات؛ فبتنا نرى الإعلانات على العديد من الأفيشات لتقول لنا بكل صفاقة «شريط لا يخدش حياء الأسرة»، « شريط تستطيع أن تشاهده أنت وأسرتك» و ما إلى ذلك من تلك الرسائل الموجهة إلى نوعية خاصة من الجمهور المتشنج الذي يرفع شعار «سينما اللاملامسة»!

طبعا من الضروري بناء على ذلك إعداد قائمة لرواد السينما غير النظيفة مثل «أبي فوق الشجرة» للراحل حسين كمال 1969، «أعظم طفل في العالم» للمخرج جلال الشرقاوي 1973، «المذنبون» للمخرج سعيد مرزوق 1978، «قطة على نار» للمخرج سمير سيف 1976 والذي تناول رواية عالمية للروائي الأميركي تنيسي وليامز وهي رواية «عربة اسمها اللذة»، و«أرجوك أعطني هذا الدواء» للمخرج حسين كمال 1982 والذي تناول رواية شهيرة «لاحسان عبد القدوس» تحمل الاسم ذاته، وجميع أشرطة إيناس الدغيدي والراحل حسن الإمام لنخرج من تلك القائمة بأن جميع مخرجي السينما المصرية كانوا من رواد السينما غير النظيفة، بل إن كل تاريخنا السينمائي لا بد من حرقه والتخلص منه نظرا لعدم نظافته.

[انتقائية

نسي دعاة هذه الموجة التي اندحرت ايضا أن السينما فن له خصوصيته؛ فهو لا يقتحم على المشاهد بيته كي يراه عنوة كما يفعل جهاز التليفزيون، بل هو فن بعيد تماما عن المشاهد العادي.. يتجه إليه بعض هؤلاء الذين لديهم القليل أو الكثير من الحس الثقافي السينمائي الخاص كي يدفعوا أموالهم التي يقتطعونها من قوتهم وقوت أولادهم في مقابل بضع من السويعات التي يرون فيها الفن الذي يقتنعون به، وبهذا يخرج الفن السينمائي من دائرة التسلية وتزجية وقت الفراغ إلى دائرة أخرى أوسع وأشمل وهي دائرة الفن الراقي الذي يقدم لنا لوحة بصرية وسمعية بل وقصة خاصة وحياة متخيلة تهدف إلى غرض ما من الأغراض إما لمعالجته أو لتسليط الضوء عليه من أجل الانتباه له. ولعلنا رأينا شريط «أسرار البنات» للمخرج مجدي أحمد علي 2001 و أدركنا جيدا أن مثل هذه المشكلة التي حاول مجدي تسليط الضوء عليها هي مشكلة موجودة في حياتنا إلا أننا نحاول عامدين إغفال النظر عنها ربما لعيوب وتشوهات في التربية المجتمعية الأولى لنا أو لقصور وعجز ما فينا نحن.

بل إن أشرطة إيناس الدغيدي التي يتهمها الكثيرون بكونها تقدم الجنس المجاني في أشرطتها تحاول من خلال ما تقدمه دائما علاج العديد من المشاكل أو فلنقل مجرد تسليط الضوء على بعض المشاكل الحقيقية التي نحاول جاهدين تجاهلها واضعين رؤوسنا في الرمال لأن مثل هذه الأمور ـ من وجهة نظر المجتمع الضيق الأفق ـ لا يصح أن نناقشها علنا هكذا بل إن مناقشتها لا يجب أن تتم إلا في غرف النوم المغلقة ومن ثم تكون الطامة الكبرى حينما نفشل في علاج مثل هذه الأمور.

فهل بعد ذلك يصر البعض على وجود سينما نظيفة أو سينما ممنوع اللمس في مقابل سينما أخرى غير نظيفة ملطخة بالأوشاب؟

[أحكام السوق

كان لموجة السينما النظيفة التي ولت مبررات كثيرة تتذرع بها في مواجهة خصومها من المثقفين، اهمها مبرر السوق، تلك السوق التي بدأت ملامحها الشائهة - مع هذه الموجة - تبدو أكثر تشويها حتى أن كثيرين منذ سنوات تنبأوا بموت السينما المصرية تماما أو إصابتها بالسكتة القلبية أو حتى انتحارها.

ونظرا لأن البعض ربما يتهم الجمهور وحده بتلك الأزمة الخانقة التي داهمت السينما المصرية؛ فان الحقيقة التي لا يستطيع أحد إنكارها تؤكد لنا أن ذلك الجمهور مجني عليه من قبل هؤلاء المنتجين الذين أصرواإصرارا عمديا على تقديم كل ما هو فاسد ومجاني لهذا الجمهور، حتى بات ذلك الجمهور لا يستسيغ سوى الفاسد الرديء، أو على حد قول المخرج رأفت الميهي قبل اربع سنوات «كيف نظل نقدم لذلك الجمهور برسيما لفترة طويلة ثم نتهمه بعد ذلك بفساد ذوقه؟»!

واليوم تثبت هذه السوق براءتها مما هو منسوب اليها، فالاشرطة تتجه اليوم في معظمها الى تنويعة بين اللون الاجتماعي او العاطفي او السياسي او الغنائي او الحركي (الاكشن) وينحسر الضحك في زاويته الطبيعية التي كان يحتلها طوال الوقت من دون ان يثير لغطا ولا اشكاليات، وليعود التفاؤل مجددا الى شريط السينما وصناع السينما والمثقفين المصريين المضروبين بحب الفن السابع!

المستقبل اللبنانية في

10/01/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)