حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

السينما الصينية من الواقع.. إلى الفانتازيا

مخرجون صينيون أمثال جون وو يجدون ملاذهم في الصين وليس في هوليوود

هوليوود: محمد رُضا

ربما أحد نتاجات الأزمة المالية الحالية أن يجد المخرج الصيني جون وو ملاذه في الصين وليس في هوليوود. إنه أحد المخرجين الصينيين الأصل الذين يعملون في المؤسسة السينمائية الأميركية منذ عقود. وُلد في الصين قبل 62 سنة وانتقل إلى هوليوود في منتصف التسعينات حيث مزج رؤيته الخاصّة الشاملة إعادة تركيب التنفيذ حسب معطيات بصرية مبتكرة بالمواضيع الأميركية وبالكثير من المال الذي كان متوفّراً في ذلك الحين. بعد فيلم أكشن، وهي النوعية التي سبق له أن أنجزها في هونغ كونغ، بعنوان «هدف صعب» مع جان ـ كلود فان دام، انتقل إلى أعمال أكبر وأكثر إثارة عبر «السهم المكسور» مع جون ترافولتا وكرستيان سلاتر (1996) ونجاح هذا الفيلم مكّنه من ميزانية أكبر لفيلمه اللاحق Face/ Off مع ترافولتا (مرّة ثانية في دور الشرير) ونيكولاس كايج.

هوليوود فتحت ذراعيها وهو لم يتوقّف عن العمل ليس مخرجاً فحسب، بل منتجاً كذلك. في عام 2000 أخرج «المهمّة مستحيلة 2» مع توم كروز في البطولة ومن بعده أنتج بضعة أفلام ولو أن أياً منها لم ينجز ذات النجاح السابق.

في مطلع عام 2008 انتقل جون وو عائداً إلى الصين وباشر تصوير «الصخرة الحمراء» بميزانية 80 مليون دولار. ظاهرياً، ليس هناك من شيء غريب في الموضوع: مخرج وعاد إلى بلاده لينجز فيها فيلماً جديداً. ربما بداعي النوستالجيا، ربما بداعي التواصل من حيث ترك أو ربما لأن الصين تستطيع أن تصرف على ملاحم تاريخية من دون نجوم معروفين، وهوليوود توفّر ما في خزينتها هذه الأيام للإنفاق على أفلام من بطولة لعب وحيوانات ومخلوقات من الكومبيوتر غرافيكس ـ ليس تماماً ما في بال جون وو.

مليون محارب. الفيلم الذي اختاره المخرج مقتبس عن رواية ضخمة (800 ألف كلمة وتحتوي على 120 فصلا) للكاتب كوانجونغ ليو بعنوان «غرام الممالك الثلاث» والميزانية المذكورة هي أعلى ميزانية فيلم تم إنتاجه في الصين وبأموال صينية. رواية تاريخية تقع أحداثها في عام 208 بعد الميلاد حين انطلقت جيوش الملك كاو كاو، من سلالة عائلة هان الشهيرة في التاريخ الصيني، لتقهر ما أمامها من جيوش في الجانب الشمالي من البلاد ما دفع بعدد من كبار المحاربين المعارضين للهرب إلى الجنوب والتخطيط مع مملكتها لمواجهة الغزاة المرتقبين. في ذلك الحين، كان الملك كاو كاو قد جهّز مليون محارب وعشرة آلاف سفينة لاجتياز النهر الكبير (نهر يانغتزي) وضرب المملكة الجنوبية وقتل معارضيه في الوقت ذاته. تبعاً لذلك، بات واضحاً أن أراضي الجنوب الصيني ستقع تحت احتلاله أيضاً إلا إذا استطاع بعض هؤلاء المحاربين الاتفاق على خطّة كبيرة. هذه الخطّة مفادها مهاجمة السفن مجتمعة اعتماداً على قلّة خبرة محاربي كاو كاو بالسلاح البحري. المواجهة تحتدم والمخرج يعمد إلى تفنيد ذلك بالاعتماد على مراجع تاريخية في نحو خمس ساعات. النتيجة فيلم ملحمي كبير في جزءين، تم عرضهما متواليين في الصين قبل توفيرهما حالياً كفيلم واحد من نحو ثلاث ساعات يجوب بعض الدول الغربية وينطلق على الإسطوانات قريباً.

هذا الجهد الإنتاجي ليس منفصلا عن صناعة سينما صينية متنامية في الأساس وتعود إلى أواخر العقد الأول من القرن التاسع عشر حيث مرّت منذ ذلك الحين بعدة عصور ومراحل يمكن تقسيمها إلى ثلاث رئيسية: قبل الحكم الشيوعي (العصر الذهبي كما يراه بعض المؤرخين) والعصر الشيوعي (عصر السلطات المتوالية بمستويات مختلفة من الهيمنة الرقابية)، والعصر الذي بدأ في الثمانينات بقيادة الجيل الخامس الذي ما زال يعمل جنباً إلى جنب مع جيل جديد (السادس) من المخرجين. في كل هذه المراحل، احتل الفيلم التاريخي جانباً مهمّاً من صناعة الفيلم الصيني. أولا لغزارة ذلك التاريخ وسعته واندماجه بفني الأسطورة والفانتازيا، وثانياً لحب الصينيين مشاهدة أفلام ملحمية مليئة بمشاهد المعارك وصليل السيوف وصهيل الجياد، وثالثاً ـ وبعد أن آل الحكم إلى الحزب الشيوعي سنة 1949، لأسباب تتعلّق بتوفير أفلام ذات مضامين تخلّد عظمة الصينيين من ناحية وتنتقد الإقطاع والمؤسسات التي حكمت جميعاً من زاوية ايديولوجية متوقّعة.

حين انطلق الجيل الخامس من السينمائيين الصينيين إلى العمل في مطلع الثمانينات عمد إلى معاينة التاريخ على نحو غير مطروق من قبل. نحو يتضمّن الإيحاء بنقد اجتماعي للحكم الشيوعي خصوصاً لتلك الفترة المعروفة باسم «الثورة الثقافية» والتي لم يكن منها ما هو ثقافي متاح، إلا ما تصفه المؤسسة الحاكمة لمواطنيها تحت هذا العنوان. فترة كالحة نتج عنها الكثير من المآسي الاجتماعية من تهجير فردي أو جماعي ومعارضة لكل منحى لتفكير فردي ضمن ما كان بقي متاحاً على قلّته، والكثير من العقوبات التي تراوحت بين السجن والنفي والقتل.

مخرجو الجيل الخامس، مثل تيان زوانغزوانغ وزانغ جونشاو وتشن كايجي وزانغ ييمو تعاملوا مع تلك الحقبة بالنقد وشكّلوا بداية تغيير. أفلامهم، مثل «واحد وثمانية» لزانغ جونشاو و«الأرض الصفراء» لتشن كايجي و«ارفعوا المصابيح الحمراء» لزانغ ييمو، وصلت إلى الشاشات العالمية بترحاب نقدي وجماهيري واسع وحملت الرغبة في طرح أسئلة محقّة حول الحياة الاجتماعية في ركاب المتغيّرات المتعددة للصين. بعض تلك الأفلام ساوم وبعضها عاند لكن الرقابة لم تمنحها أكثر من عشر سنوات قبل أن تشد قبضتها من جديد فيلجأ الأشهر من بين أبناء هذا الجيل إلى الفيلم التاريخي ـ الفانتازي هرباً من أفلام الواقع التاريخي والرسالة الإجتماعية.

زانغ ييمو، على سبيل المثال، كان أول المتراجعين عن خطابه. أنجز سنة 1990 «جو دو» الذي رمز فيه إلى الحكم المجحف للزعيم ماو والحرس الأحمر، مع أن قصّته تقع في عشرينات القرن الماضي، وبعده أرخى الحبل قليلا في «ارفعوا المصابيح الحمر» من حيث عدم تعرّضه، مجازاً أو رمزاً، لحياة ما بعد الثورة الشيوعية وإبقاء موضوعه في كنف الفترة ذاتها من القرن عينه.

في عام 1994 عاد لمشاغباته فأنجز «لكي أعيش» الذي نقل أحداثه لما بين فترة بداية الحكم الشيوعي إلى فترة بداية الثورة الثقافية. الرقابة لم يعجبها الفيلم وحكمت بمنع مخرجه عن العمل لعامين متواليين.

حين عاد المخرج إلى العمل واصل التطرّق إلى مواضيع تدور في رحى السنوات السابقة للثورة الشيوعية ممارساً ضبط نفس ملحوظ باستثناء مرّة واحدة سمح لآلام الحياة بالخروج إلى السطح نوعاً وذلك في فيلمه الدرامي الجيد «الطريق إلى الوطن» حول الأستاذ المبعد من قريته وعودته إليها ليجد فيها الحب والذكرى.

لكن المخرج في ما بعد قرر أن يترك وراءه كل وجع الرأس المتأتّي من الرغبة في التطرّق إلى المواضيع مواربة ومواجهة الرقابة حتى في هذا النطاق فاستدار إلى الفانتازيات التاريخية بدءاً من «بطل» (2002) و«منزل الخناجر الطائرة» (2004)، وصولا إلى «لعنة الزهرة الذهبية» (2006). أكثر من ذلك، بدا أهلا لثقة الحكم فتم إسناد إخراج الفيلم الاحتفائي بألعاب الأولمبياد في السنة الماضية إليه.

مثله في هذه الرحلة تشن كايجي الذي اضطر للانتقال أيضا إلى رحاب الفانتازيا التاريخية عبر أفلام آخرها إلى الآن «الوعد» (2006). أما المخرج تيان زوانغزوانغ فكان أكثر المتضررين من موقفه النقدي للحياة الاجتماعية الصينية تحت إمرة الحكم الحالي. فهو كان أخرج، في سنة 1993 الدراما الاجتماعية القوية ببساطتها «الطائرة الزرقاء» وتبعه، بعد ثماني سنوات، بفيلم إنساني عميق وعاطفي آخر هو «ربيع في بلدة صغيرة». وفي كلتا الحالتين تعرّض للمنع من العمل والسفر عقاباً عليهما، لنراه هذا العام وقد أنجز فيلم معارك تاريخية موازية لما أخرجه زميلاه كايجي وييمو هو «المحارب والذئب».

الخزينة الصينية مفتوحة على وسعها هذه الأيام للاحتفال بكل ما هو تاريخي من دون خطوط سياسية تمضي إلى الزمن الحاضر. كايجي وييمو لديهما مشاريع في هذا الاتجاه، كذلك تم إنجاز «تأسيس جمهورية» للمخرجين سانبينغ هان وجيانكشن هوانغ، المصنوع احتفاء بولادة الثورة الشيوعية قبل ستين سنة والذي وصلت تكاليفه إلى نحو 60 مليون دولار.

وفي أسابيع قليلة قادمة سنرى «مولان» للمخرج جينغل ما حول المحاربة الصينية هوا مولان التي عاشت وحاربت الأعداء في القرن الثاني عشر. أيضاً يعود زانغ ييمو في فيلم «ثلاثة مسدّسات» ليقتبس من الفيلم الأميركي «جريمة بسيطة» (للأخوين كووَن) حكايته ناقلا إياها إلى صين مطلع القرن العشرين.

والى مطلع القرن أيضاً أنجز تيدي تشن «الحرس والقتلة» ليروي أحداثاً تقع في الزمن السابق للثورة من دون طموحات تخرج عن نطاق سينما الأكشن والفانتازيا التاريخية.

لا عجب أن جون وو، في نهاية المطاف، وجد لزاماً عليه أن يعود إلى الشرق لإخراج فيلمه الجديد «الصخرة الحمراء»، طالما أن كلمة الحمراء لن تصف اللون المفضّل لدى أصحاب البلاد.

الشرق الأوسط في

27/11/2009

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)