شكل الفيلم الكوري الجنوبي «جبل بلا أشجار» للمخرجة سو يونغ كيم مفاجأة
لجمهور
مهرجان دمشق السينمائي الأخير، وللجنة تحكيم الأفلام الطويلة
كذلك، التي اصطفته من
بين عشرين فيلماً من بلدان مختلفة لتمنحه الجائزة الذهبية. واللافت أن هذه
المفاجأة، المقرونة بالإعجاب طبعاً، لم تكن لأسباب لها علاقة بالجموع
الغفيرة في
الفيلم أو بضخامته الإنتاجية العالية، أو بنجومه وممثليه بل
على العكس من ذلك
تماماً، فإن المفاجأة حدثت بسبب بساطة الفيلم، ورهافته، وانطوائه على لغة
سينمائية
تخاطب المشاعر والأحاسيس قبل أن تخاطب العقول.
هجران وخدعة
«جبل
بلا أشجار»، أو «الجبل الأجرد»، بحسب ترجمات أخرى، يقارب عالم الطفولة من
زوايا خاصة جداً، تنجح في كشف أسرارها، وأحلامها، وبراءتها، وعفويتها...
ثمة أفلام
كثيرة تناولت موضوع الطفولة وخصوصاً السينما الإيرانية،
وبالأخص مجيد مجيدي في معظم
أفلامه مثل «أطفال السماء»، «باران»، «أغنية العصفور الدوري» وسواها، وهي
أفلام
حققت نجاحات واسعة لكن الفارق أن السينما الإيرانية تتكئ على أبطال محترفين
كي تدعم
وتقوي حضور الأطفال، أما المخرجة الكورية فتكاد تخصص زمن
الفيلم برمته (نحو ساعة
ونصف) لطفلتين صغيرتين هما جين (كيم هي يون) التي لا تتجاوز الستة أعوام،
وشقيقتها
بين (كيم سونغ هي) التي تصغرها بسنتين.
تعيش الطفلتان مع والدتهما في منزل بسيط، وتظهر المشاهد الأولى جانباً من
حياة
جين السعيدة في المدرسة، ولكن سرعان ما تقرر الأم، دون أي
توضيح، اصطحاب ابنتيها
لزيارة عمتهما، وتتركهما هناك لتعود هي بحثاً عن الزوج الذي لا يظهر في
الفيلم
مطلقاً، وفي غضون ذلك تعطي ابنتيها حصالة نقود، وتقول لهما: «إذا تصرفتما
بشكل
مؤدب، وأطعتما أوامر العمة، فإنها ستعطيكما قطعاً من النقود
وعليكما
وضعها في
الحصالة إلى أن تمتلئ، لأنني، عندئذ، سأعود». هذا الشرط المحبب الذي ينتهك
براءة
الطفولة، اضطرت إليه الأم كي تجبر طفلتيها على التصرف بتهذيب.
والواقع أن الطفلتين
تصدقان خدعة الأم، وتجتهدان في كسب رضا العمة الفظة للحصول على النقود،
وحتى
الشقيقة الصغيرة تجد نفسها محرومة من حنان الأبوين، فتتأقلم مع هذا الوضع،
إذ تجد
الملاذ الآمن لدى شقيقتها الكبرى المحرومة من الحنان بدورها،
لكنها تسعى إلى رعاية
شقيقتها الصغرى فتغدق عليها حناناً تفتقده. وبغرض كسب المزيد من القطع
النقدية لملء
الحصالة، يضطران إلى الاعتماد على نفسيهما عبر اصطياد نوع من الحشرات
وشيّها
وبيعها. ولعل احد أجمل مشاهد الفيلم وأقساها هو حين تمتلئ
حصالة النقود، فتحمل
الشقيقتان الحصالة بسعادة وتذهبان، بحسب الشرط، إلى محطة الحافلات في
انتظار الأم
التي ينبغي أن تعود بعدما امتلأت الحصالة. لكن الأم لا تعود، بل ترسل،
بدلاً من
ذلك، رسالة إلى العمة المستاءة كي ترسل الشقيقتين إلى منزل
جديهما في الريف. وفي
هذا المكان الجديد أيضاً تتأقلم الفتاتان مع الظروف غير المألوفة، وتتغلبان
على
المصاعب الصغيرة التي تعترضهما.
الفتاتان الصغيرتان اللتان تختبران واقعاً غامضاً يفوق مستوى تفكيريهما، إذ
تشعران بالحرمان والفقد، دون إدراكهما سبب هذا الامتحان المضني
قياساً إلى سنواتهما
الغضة، تنجحان في بناء مملكة صغيرة للسعادة تعينهما على مواجهة هذه الظروف
الطارئة،
فتبدي الشقيقة الكبرى تعاطفاً تجاه شقيقتها الصغرى، وتبني معها علاقة مودة
تدفع
الصغيرة إلى اكتساب مهارات معينة، وخوض حوار بريء، بل تشعر
بالأمان ضمن ظرف لا يشجع
على ذلك. الشقيقتان معاً تنجحان في تسجيل جزء كبير من نجاح الفيلم من خلال
أدائهما
العفوي التلقائي الذي لا يمكن أن يكون مدرجاً ضمن السيناريو. بل إن الكثير
من
الحوارات والحركات وردود الأفعال تأتي بصورة محببة، ومفاجئة
ليس فقط للمشاهد بل
للمخرجة كذلك، التي عجزت عن تلقين الطفلتين غير المحترفتين كل ما تريده،
فتركت لهما
حرية الحركة والكلام، فتمكنت الطفلتان من تقديم دراما إنسانية شفافة،
ومؤثرة. تقول
المخرجة «أردت سبر العلاقة بين الشقيقتين، وأن أبرز نضج جين
على رغم صغر سنها».
وتوضح بأنها أعدت لبطلتيها الصغيرتين سيناريوات خاصة، وسعت إلى تلقينهما
مفردات
معينة في الحوار، فتقول: لقد تمكنت من معرفة سطور الحوار التي تستطيع
الفتاتان
النطق بها في مشاهد معينة. لذلك كنت ألقنهما السطور القليلة
الرئيسة وأترك لهما
حرية الارتجال في ذكر باقي الحوار كفتاتين صغيرتين من دون أي تدخل من
جانبي، لاسيما
أن الأطفال يتمتعون دائماً برهافة الحس، إذ يستطيعون اكتشاف الكثير من
الأمور من
دون أي تلقين أو توجيه».
رصد للحيرة والحنان
ويبدو أن المخرجة كانت محقة تماماً في هذا التصور، إذ تركت الطفلتين
تعبثان،
وتتحركان بلا ضوابط أمام عدستها التي سجلت مشاهد ولقطات تفوق
بكثير، في رمزيتها
وجماليتها، تلك المشاهد واللقطات المفصلة وفق تقاليد ومعايير أكاديمية
صارمة، تفسد،
غالباً، المرونة والحيوية والإيقاع السلس الذي ميز هذا الفيلم.
وعلى رغم أن موضوع الطفولة هو من أكثر المواضيع تعقيداً، إلا أن هذا
الفيلم،
الذي اعتبر من أفضل الأفلام التي عالجت هذا الموضوع، ينأى عن
ذلك التعقيد، ويبتعد
من كل ما يعيق سلاسة لغته السينمائية. فكل ما فعلته المخرجة هو أنها
استطاعت أن
ترصد الحيرة والحنان في عيني طفلتين ترقبان المجهول، ولا تفعلان شيئاً سوى
تزجية
الوقت باللعب والمرح، وانتظار عودة الأم الغائبة دون سبب مقنع
لهما، وفي هذا
الانتظار ثمة مساحة واسعة من البراءة والانكسار والتألق وجدت طريقها إلى
الشاشة،
فجاء الفيلم معبراً، وحافلاً بلوحات إنسانية شديدة الإيحاء رسمتها، بلا
قصد، أفعال
وتصرفات طفلتين موهوبتين بدتا وكأنهما تمضيان أوقاتاً مسلية حيناً، موجعة
أحياناً
دون أن تشعرا أن ثمة كاميرا فضولية تسجل هذه المرح الطفولي
العذب، ولعل هذا ما يميز
الفيلم الذي ابتعد من التكلف والصنعة والاختلاق، ليقترب من روح الطفولة
بعفوية
بالغة، دون أي افتعال.
الحياة اللندنية في
20/11/2009 |