تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

يطوف المهرجانات ولكنه مازال ممنوعاً من العرض في سورية

فيلم 'الليل الطويل': تراجيديا الحياة والموت في السجن السياسي السوري!

محمد منصور

ازداد الاهتمام في الدراما السورية في الآونة الأخيرة، بفتح ملف الاعتقال السياسي الذي يمثل اليوم صفحة مؤلمة من صفحات الحياة الاجتماعية السورية، إذ لم تزل آثارها ومضاعفاتها تضرب عميقاً في ذاكرة وحياة شرائح واسعة وعبر أكثر من جيل.. وبعد المسلسل السوري (رياح الخماسين) الذي تابعناه في موسم رمضان عام 2008 للكاتب أسامة إبراهيم والمخرج هشام شربتجي.. والذي تناول قصة خروج معتقل سياسي من السجن بعد خمسة عشر عاماً، والمعاناة التي يواجهها من أجل التأقلم مع حياة تبدلت قيمها، واختلفت معاييرها... يأتي فيلم (الليل الطويل) للمخرج هيثم حقي كاتباً وحاتم علي مخرجاً، ليعيد طرح القضية ذاتها، بتركيز درامي أكبر، يختلف بطبيعة الحال عما يتطلبه المسلسل التلفزيوني الثلاثيني الحلقات، من عملية مط وحشو وتطويل، صار جزءاً من لغة الدراما التلفزيونية مع الأسف، مهما بلغت قوة العمل فنياً أو موضوعياً.

دراما اليوم الواحد!

دراما (الليل الطويل) تنطلق من داخل السجن السياسي... لنتابع أربعة مساجين سياسيين، لا نعرف كثيراً عن ماضيهم أو مشكلة اعتقالهم، لكننا نعيش معهم ومنذ اللحظات الأولى آثار الزمن البطيء الذي مر... آثار القهر والانتظار وموت الزمن والعزلة الروحية عن حياة باتت خارج أسوار بعيدة... حياة غادروها قبل عشرين عاماً، ليعيشوا رهائن سلطة لم تحترم في توقفيهم بلا محاكمة أي عرف أو قانون... سوى عرف كم الأفواه، وقانون تجريم المعارضة والاختلاف في الرأي!

أحداث الفيلم كلها تجري في يوم واحد فقط... يوم يشكل حداً فاصلاً في حياة هؤلاء الذين يخرجون من ليل إلى ليل آخر، في زمن هو الليل الذي لا تشرق له شمس ولا يبزغ له فجر... رغم ما تشيعه أجواء عملية الإفراج عن ثلاثة من المعتقلين الأربعة من حيوية طارئة، نلمس فيها أشواقهم وخوفهم وقلقهم، وحبهم الخفي للحياة التي منعت نسائمها عنهم... إلا أنه خلف هذه الدراما الإنسانية المؤثرة، المنسوجة من تفاصيل مشبعة بتراجيديا يعرفها الكثير من السوريين جيداً، ثمة دراما أخرى تدور بالتوازي في نفس الحيز الزمني الضيق... وفي الوسط العائلي لبطل الفيلم الرئيسي كريم (خالد تاجا)، حيث نتابع هنا ردود أفعال أبنائه الأربعة: (نضال، عروبة، ثائر، كفاح) فغياب الأب كل هذه السنوات... خلق في حياة هؤلاء واقعاً جديداً، تحولت فيه صدمة الذهول والاشتياق التي أشاعها سماع خبر الإفراج عنه، إلى ورطة فيها الكثير من التشنجات والصراعات الحياتية والقيمية... التي تبدأ من مشكلة زواج ابنته الصغرى (عروبة) من ابن صديقه الذي فرقت بينهما السلطة، وجعلت من أحدهما سجيناً سياسياً أكل الزمن عمره، ومن الآخر مسؤولا متنفذاً تبدو عليه آثار الانتهازية... ولا تنتهي عند تفاصيل صغيرة كقضية إعادة غرفة نوم الأب إلى ما كانت عليه قبل الاستيلاء على بيته من قبل الابن الأكبر... الذي استطاع بدوره أن يجد مكانا جيداً له في مهنة المحاماة بفضل تنازلاته السياسية على حساب موقف أبيه المعارض!

الماضي يحاكم الحاضر!

تقاطعات درامية حادة، تجعل من خبر خروج الأب أشبه بمحاكمة قاسية لمسار الأبناء... لتنازلاتهم وزلاتهم وحتى خياراتهم المشروعة... فهل كان على ابنته (عروبة) ألا تتزوج ممن أحبته لمجرد أن والده يختلف مع والدها سياسياَ، ويزج به في السجن.. وهل كان هذا (الزواج) خيانة لمبادئ الأب، في الوقت الذي اعتبرته الابنة قصة حب لا علاقة لها بالسياسة؟! أم أن الزواج كان من ابن صديق خان صديقه وتخلى عن مبادئه كي يظل دائماً مع الجهة الغالبة؟! سؤال تتصارع فيه عداوات سلطة مع خيارات حياة وقسوة واقع انتهازي يفرض قيمه على الجميع... إما كي يستفيدوا أو كي يعيشوا على الأقل... وفي النهاية تنتصر خيارات الحياة، على غياب الأب بكل قيمه وقناعاته خلف قضبان سجن جرده حتى من سلطته على أبنائه!

وهكذا يبدو حدث خروج الأب أشبه بمرآة فاحصة، يرى فيها الجميع صور ومسارات حياتهم من جديد، يضعهم في مواجهة ماض يخرج دفعة واحدة من السجن ليحاكم الحاضر، حيث تتصارع الشخصيات الملوثة بتهمة الانتهازية مع شخصيات تبدو ذات طابع مثالي... لكن في النهاية تبدو الحقيقة المرة أن المثالية كانت نسبية، وأن المبادئ التي ناضل كريم ورفاقه من أجلها نسيها الكثيرون كما نسوا قضية هؤلاء في الأساس، فانسحب كل شيء وتضاءل حضوره ليغدو جزءا من دراما عائلية لا أكثر في ظل موات الرأي العام، حيث لا صحافة تنشغل بالحدث، ولا أحزاب، ولا برلمان!

الملف مازال مفتوحاً!

وإذا كان نص (الليل الطويل) قد أغفل متابعة ورسم خصوصيات باقي المعتقلين السياسيين (ماجد) و(كمال) وبدرجة أقل (حسن) الذي قدمه كمسرحي يتابع موت المسرح السوري خارج السجن عبر أخبار وكتابات الصحف، وندخل عبره إلى حالة الانتظار التي تعيشها أسرته الصغيرة والمطحونة في بيته الفقير؛ فإن الفيلم لم يغفل تقديم هؤلاء في إطار حالة عامة تندرج تحت مسمى (السجن السياسي)، وفي إطار حالة خاصة هي لحظات التأهب للخروج إلى الحياة من جديد، كما أنه نجح في متابعة تفاصيل مؤثرة في عملية الإفراج عنهم، منها حالة المساومة التي يخضع لها كمال (سليم صبري) حين يطلب منه التوقيع على تعهد أو اعتذار أو ما شابه... وحين يكرر رفضه، يرمى لبضع ساعات في عتمة التوقيف لاختبار مدى مناعته قبل أن يطلق سراحه لاحقاً، وتبدو السلطة هنا وكأنها مصرة حتى اللحظة الأخيرة على هزيمة خصومها وعلى اجتثاث كل أشكال المعارضة والممانعة في نفوس هؤلاء... فضلا عن تفاصيل حياتية ملتقطة بمهارة لعل أبرزها التفاتة السجناء الثلاثة نحو الشارع حين تفتح نافذة الفرع، أو حالة الركض العامرة بالحياة التي تفجر مشاعر ماجد (حسن عويتي) أو تقلبات الزمن من حول هؤلاء... ويجب أن نلاحظ هنا أن الفيلم قدم الزمن في حالتين:

- الأولى: هي الانبهار بمظاهر التطور الاستهلاكي الحديث والتي تتجسد في لحظة ذهول كريم وهو يشاهد سيارة الإعلانات المتجولة!

- الثانية: حالة الاستمتاع بأشياء عفا عليها الزمن، والتعامل معها ببهجة تبدو لنا اليوم وكأنها صارت مستغربة... كما نرى في لحظات ضحك ماجد على إحدى مسرحيات عادل إمام القديمة، وهو يشاهدها في البولمان وكأنه يراها لأول مرة!

وهكذا فالزمن تجاوز هؤلاء بقديمه وجديده، لأن السجن يعني أكثر ما يعني: الزمن الذي توقف... ولهذا يبدو موت كريم في قريته هو تكريس رمزي لهذه المقولة... صحيح أن هذا الموت (مفتعل) ومصنوع فنياً... لكنه يبدو مقبولا في سياقه الرمزي أكثر مما هو كدلالة واقعية على نهاية حياة!

يبدأ الفيلم بحلم يراود الفنان المسرحي المعتقل، وهو عبارة عن مقطع من مشهد العاصفة في رائعة (الملك لير) لشكسبير، وينتهي بمقطع آخر من عاصفة (الملك لير) ذاتها، فيما الفنان المسرحي الذي استثني من عملية الإفراج (دلالة على أن السلطة لم تغلق ملف الاعتقال السياسي بعد) أضحى وحيداً يقاوم عاصفة الجنون... في أبلغ دلالة على استمرار هذه المأساة، ووقعها المدمرعلى مصير شرائح واسعة عاشت واختبرت تداعيات ظاهرة الاعتقال الطويل وماتزال!

سينما بخبرة تلفزيونية!

نجح المخرج حاتم علي في التعامل مع نص هيثم حقي بكثير من الاستيعاب لمساراته وأفكاره، وللحالة الدرامية والإنسانية التي يريد طرحها... ولا بد من القول أن السيناريو في الأساس اختار مساراً سردياً بسيطاً جعله في أحيان كثيرة أقرب إلى بنية الكتابة التلفزيونية التي تعنى بشرح الموضوع جيداً، ولا تترك مساحة واسعة للتأويل وطرح تساؤلات تأملية... فعمارة السيناريو كفيلم- تبدو أحادية المستوى إن على صعيد الزمن، أو على صعيد بناء الحدث ورصد تداعياته... ومن هنا عمل حاتم علي على تقديم صورة تنسجم تماماً مع بنية النص أولاً... ومع مرجعيته التلفزيونية كمخرج دخل السينما من باب خبرته التلفزيونية، ولم يدرسها أكاديمياً وفق أصول ومرجعيات خاصة بالفن السابع.

ولا بد من القول إن خبرة حاتم علي التلفزيونية قد طغت على جماليات الفيلم التي يمكن القول إنها جسدت شرف السعي نحو مقاربة عوالم سينمائية، لكنها لم تصنع فيلماً سينمائياً في لغته ورؤيته... (مشهد العاصفة- الحلم الافتتاحي خير مثال على محدودية الرؤية والأداء) فالكادر السينمائي المركب من جمالية العمق والبعد الثالث وحيوية التنقل بين أبعاد المشهد... يبدو غائباً في بنية التفكير ببناء الصورة والحل المشهدي... وحتى في اللقطات التي سعت لتقديم حلول فنية تعكس عمق الكادر السينمائي (مشاهد بيت نضال) بدا التشكيل الحركي في العمق غير مشبع جمالياً، وغير قادر على تحقيق صلة عضوية مع المستويات الأخرى... بل هو مجرد تفصيل مرتجل على هامش ما يحدث في مقدمة الصورة التي بقيت الاهتمام الأساسي لحاتم علي انطلاقاً من حس تصويري لا يهتم كثيراً بالإيحاء البصري والتشكيلي للكادر السينمائي... أما الإضاءة التي تضفي حالة تأملية في رؤية المكان وتذوق جمالياته ورسم دلالاته التعبيرية... فتبدو بدورها غائبة أيضاً في عمل مدير التصوير التونسي محمد المغراوي باستثناء بعض جماليات التصوير تحت المطر... ليكون البديل على العموم صورة تسعى لخدمة دراما العمل ما أمكن، إنما من دون أن تحيلنا إلى مرجعيات سينمائية مشغولة بخبرة حقيقية، تعي الفرق بين السينما والتلفزيون... مهما قيل عن أن التلفزيون لا لغة خاصة له بل هو يستخدم لغة السينما كما ظل هيثم حقي يردد لسنوات.

فيلم يحترم قضيته!

لقد خلق التلفزيون كوعاء عرض، وكآلية وتقاليد إنتاج، وكنمط كتابة وتلقي، لغة خاصة به... قد تتشابه في الظاهر مع أبجديات اللغة السينمائية، لكن الواقع العملي أثبت على الدوام أن التشابه مع السينما، ليس هو السينما ذاتها... وأن السينما الجيدة على الأقل- احتفظت لنفسها بهالة مختلفة كل الاختلاف عن السقف الذي وضعه الواقع العملي للتلفزيون... وأعتقد أن عمل حاتم علي في (الليل الطويل) هو خير مثال على هذه الحقيقة... فنحن في النهاية أمام عمل جيد ومشغول بجدية وإتقان ومحاولة لرفع سقف لغة التلفزيون جمالياً وإنتاجياً.. لكن نسبته إلى السينما، مسألة تحتاج للكثير من الدراسة والنزاهة والبعد عن الادعاء والصراخ... وأعتقد أن الجوائز التي نالها الفيلم في مهرجانات صغيرة ومحدودة الشهرة، تنبع من احترام قضية ملف الاعتقال السياسي التي يطرحها الفيلم بكثير من الصدق والانحياز الخفي لآلام مئات المعتقلين في الوقت الذي مازال الملف مفتوحاً وتداعياته قائمة، والسلطة التي كانت طرفاً فيه مسيطرة رقابياً على شكل التعاطي الفني معه... وهذا أمر يشيع الكثير من التعاطف مع صناعة فيلم من هذا النوع... ناهيك عن السعي لرفع سقف الأداء التمثيلي من خلال اختيار نجوم معروفين لأدوار تبدو أقل من قدراتهم... وهو أمر جيد في المحصلة لأنه صنع مستوى متميزاً لدى كثير من ممثلي الفيلم وفي مقدمتهم بالطبع خالد تاجا إلى جانب حسن عويتي ونجاح سفكوني وباسل خياط!

إن فيلم (الليل الطويل) خارج بهرجة الجوائز والمهرجانات ولغة التباهي والتفاخر الشديد، يمكن أن يكون إضافة مهمة لدراما السجن السياسي التي تسعى الدراما السورية لمقاربتها بجرأة في السنوات الأخيرة... وهو عمل محترم بلاشك، مكتوب بصدق والتزام إنساني رفيع... لكن على صعيد الشكل، يطرح الفيلم بقوة أسئلة حول مسيرة حاتم علي مع السينما... القائمة على جرأة خوض التجربة تلو الأخرى، من دون أي تقدير لخصوصية السينما، ومن دون تقديم أي إضافة حقيقية تجعلنا نرى فرقاً كبيراً وملموساً بين حاتم علي التلفزيوني والسينمائي!

القدس العربي في

08/11/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)