مع السمعة العالية التي نالها برنامج «نادي السينما»، الذي تقدمه د. درية
شرف الدين، طيلة سنوات مضت، فإن انطلاقته المتجددة على قناة دريم، بدت
كأنها أبعد من مجرد محاولة وصولٍ أوسع، لدائرة جديدة من المشاهدين، فضلاً
عن التأكيد على أهمية حضور السينما على شاشة التلفزيون، أو قدرة التلفزيون
على القيام بما باتت تعجز عنه السينما ذاتها، من ناحية العرض والوصول إلى
المشاهد، حيثما كان.
لن يتوانى الناقد علي أبو شادي عن قول ذلك، أكثر من مرة، خلال تلك الحلقة
الاستثنائية بحق، التي شاءت الاحتفاء بمن عبروا في أوكتوبر، فقدّمت رباعية
سينمائية تسجيلية مصرية فذة، تمثلت بأفلام: «أبطال من مصر» للمخرج أحمد
راشد، و«صائد الدبابات» للمخرج خيري بشارة، و«مسافر إلى الشمال مسافر إلى
الجنوب» للمخرج سمير عوف، و«جيوش الشمس» للمخرج شادي عبد السلام.
منذ زمن طويل، ما عاد من الممكن لصالات العرض السينمائي أن تحتفي بهذه
الأفلام، أو ما يماثلها، ويشابهها من أفلام نادرة.. وصار من المتعذر مشاهدة
هذه الأفلام خارج إطار النشاطات الثقافية المحدودة، أو الاستعادات
السينمائية، التي غالباً ما اعتدنا اقتصارها على عدد قليل من الجمهور، في
مناسبات متفرقة، وبأمكنة لم تعتد الحضور الجماهيري الواسع، بعد، كقصور
الثقافة، أو المراكز والنوادي الثقافية..
يعترف علي أبو شادي، وهو رجل السينما القوي في مصر، بأهمية التلفزيون
لإعادة تقديم نماذج هذه السينما المحترمة، وعرضها على الدوائر الأوسع من
الجمهور، وإحيائها من غفوتها، ومن سباتها، ومن انحباسها في العلب والأدراج،
وعلى أرفف المستودعات، تماماً بما لا يُقارن ولا يقاس مع ما يمكن لصالات
السينما فعله، خاصة إزاء نسق هام جداً من السينما هو السينما التسجيلية
والوثائقية.
جردة حسابية بسيطة، سريعة وربما مرتجلة، تكشف أن عرضاً لهذه الأفلام
السينمائية، خلال برنامج تلفزيوني، يمكن أن يوصلها إلى جمهور يفوق كماً كل
ما أمكن الوصول إليه، طيلة سنوات مضت، حتى وأن قاربت الأربعين سنة..!
في برنامج مثل «نادي السينما»، وفي حلقة مثل التي تمّ بثها مساء الخميس،
الأول من تشرين الأول/ أوكتوبر، وأُعيدت مساء الجمعة، متوافقة مع اقتراب
ذكرى حرب تشرين/ أوكتوبر، ومع حضور هذه النخبة من الأفلام التسجيلية
المتميزة، كان الأمر يفيض عن مجرد الاحتفاء بعودة ذكرى حرب أوكتوبر، ويروم
التطلع للاحتفاء بالذاكرة المصرية ذاتها؛ ذاكرة الناس البسطاء الذين صنعوا
بطولات، وقدموا تضحيات، وهم لا يدَّعون سوى أنهم يقومون بواجبهم!
فقط في مثل هذه الأفلام سنستعيد ذاكرة البلد، الذاكرة التي يبدو كأنها
غُيّبت، أو غابت، تحت وقع الحياة وتسارعها، وتتالي الأيام والسنون، والركض
اللاهث وراء رغيف الخبز، ونقطة الماء، والانغماس في تلبية شؤون مقتضيات
الحياة اليومية، بالموازاة مع حذف السياسة من الوقائع اليومية للناس،
وطردهم من شوارع الفعل العام، وجعلهم ينكفئون على أنفسهم، سعياً للنجاة..
في مثل هذه الأفلام، التي تقدم أناسها/ أبطالها من لحم ودم، بصدق وعفوية،
وبعمق نابع من أصالة وطيبة وبساطة، ننفض الغبار على ما علا ذاكرتنا،
ونستعيد ألق تلك الأيام التي مضت، وتوارت في ثنايا زمان يلوح لنا من
البعيد.
في «أبطال من مصر» الفيلم المُنتج عام 1974، والذي لا تزيد مدته عن 15
دقيقة، نستعيد رؤية بعض من تفاصيل صورة البطل المصري الحقيقي، من حكاية
المقاتل «إسماعيل»، إلى قصة الشهيد «فتحي عبادة». وننتقل مع الفيلم من
الجبهة حيث المقاتل يتأهب لجولة أخرى مع العدو المحتل، منحنياً أما ذكرى
زملاء السلاح الذين قضوا قبله.. إلى القرية المصرية، حيث عائلة الشهيد؛
والده ووالدته، وأخوته.. وستكون مذهلة تلك الصورة التي تظهر فيها الأم
المصرية، والدة الشهيد الذي مضى، والتي لن تتوانى عن إرسال أبنائها واحداً
تلو الآخر، فيما هي تقوم بشؤون بيتها، دون أن تنتبه أيّ أمر عظيم تصنع!..
«صائد الدبابات» الفيلم المنتج عام 1974، والذي لا تزيد مدته عن 15 دقيقة،
يسلط الضوء على المقاتل المصري «عبد العاطي»، الذي اشتهر بأنه من اصطاد
أكبر عدد من الدبابات الإسرائيلية. فتيان مصريون، من طينة التراب الممزوج
بسمرة النيل، وطيبته، صنعوا ما يليق بالأبطال القادمين من الملاحم
والروايات وخيالات القصص، دون أن يقولوا ذلك. جاؤوا من مزارعهم وحقولهم، من
قراهم ونجوعهم ليصدوا النكسة عن وطنهم، ويستعيدوا مجداً يستحقونه.
«مسافر إلى الشمال مسافر إلى الجنوب»، المنتج عام 1974، والذي لا تزيد مدته
عن 13 دقيقة، يتناول بذكاء ثنائية عميقة الدلالة.. المهندس فاروق، هو مهندس
مقاتل، يسافر إلى الشمال، حيث الجبهة، وحيث يتولى الإشراف على الأعمال
الهندسية اللازمة للعبور.. سنراه مشرفاً على تفاصيل بناء الجسور التي كانت
ممراً إلى العبور التاريخي، فيما المهندس أحمد، هو مهندس عامل، يسافر إلى
الجنوب، حيث ينبغي له أن يشرف بدوره، ومن ناحيته، على الأعمال الهندسية
اللازمة لاستنقاذ الآثار المصرية القديمة، من المياه الغامرة.
مهندسان مصريان، ما هما إلا نموذج لشباب مصر، أحدهما يعمل على بناء ما يؤسس
للمستقبل، المساهمة بصدّ العدوان، وردع المعتدي، وتحرير الأرض.. والآخر
يعمل لاستنقاذ الماضي الذي يرسم صورة مصر وحضارتها.
أما فيلم «جيوش الشمس»، المنتج عام 1975، والذي تبلغ مدته 36 دقيقة، فهو
محاولة فنية بارعة للمزاوجة بين جيوش الشمس التي عرفتها مصر القديمة،
بحضارتها المميزة، وجيوش الشمس الحديثة التي ترسلها مصر الحديثة للتخلص من
غبار النكسة، وتسطير ملحمة العبور..
نباهة في التقاط ذاك الخيط المشيمي الواصل ما بين عمق التاريخ، وأفق
المستقبل.. احتفاء بمصر والمصريين، الذي كان من قدرهم أن يأخذوا هذه
المكانة الهامة، كما في الجغرافيا كذلك في التاريخ، حتى وأن كلفهم هذا
شلالات من التضحيات، دماً نازفاً، وعرقاً متصبباً، ونحتاً لأهم معالم
الحضارة الإنسانية.
رباعية سينمائية، كان يمكن لها أن تبقى غافية، متعذرة الوصول إلى أجيال
اليوم، التي بات الكثيرون من أبنائها لا يعرفون، أو لا ينتبهون، إلى أن من
تلك القرى والنجوع، ومن طين الترع، خرج الفلاح المصري ذات وقت، فحفر أحلامه
على أقسى حجارة، ونثرها على أرق رمال..
اليوم، وعلى الرغم من مرور قرابة 35 عاماً على تحقيق هذه الأفلام، على أيدي
نخبة من السينمائيين المصريين (أحمد راشد، وخيري بشارة، وسمير عوف، وشادي
عبد السلام)، لا بد من الانتباه إلى مستواها الفني المتميز، وقدرتها على
تمثل أبرز مناهج الفيلم التسجيلي، ومدارسه، وعلى الصياغة الفنية التي تمزج
بين قوة التعبير، للصورة والصوت والموسيقى واللون، والانسيابية في الوصول
إلى قلب المشاهد وعقله.
سينما راقية، ما كان للجيل الشاب أن يراها اليوم، لولا أن توفّر برنامج
تلفزيوني يستحق التحية والاحترام، تماماً كما فعلت د. درية شرف الدين في
برنامجها «نادي السينما».
المستقبل اللبنانية في
18/10/2009 |