تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

"ساحة العقاب" بين الدراما والواقعية التسجيلية

 أمير العمري - لندن

أسعدني كثيرا أن أكتشف حديثا صدور نسخة جيدة رقمية (DVD) من فيلم "ساحة العقاب" The Punishment Park للمخرج البريطاني الأسطوري بيتر واتكنز.

والمدهش أنني بعد أن شاهدت الفيلم، الذي أنتج عام 1971 وكان من أهم التجارب "الثورية"- شكلا ومضمونا- في عصره، اكتشفت أنه لا يزال صالحا للمشاهدة والتأمل والاستفادة وتعلم الدروس أيضا بسبب مستواه الفني المتقدم كثيرا حتى بمقاييس عصرنا الحالي، وتأثيره الهائل المدهش، بل إن مشاهدته اليوم تمنحه معنى أكثر عمقا لأنه سيبدو لمن يشاهده كما لو كان نبوءة بما وقع بعد أكثر من ثلاثين عاما من عرضه الأول، في "أبو غريب" وجوانتانامو بل وداخل الولايات المتحد نفسها.

"ساحة العقاب" فيلم ثوري من حيث الشكل، لأنه يلغي تماما المسافة بين التسجيلي والروائي، وهو يستخدم أسلوب "سينما الحقيقة"، ولغة الفيلم الذي لا يسعى إلى "محاكاة" الواقع بل تجسيد "رؤية" لواقع جديد متخيل ينبني على واقع قائم بالفعل. إنه دون أدنى شك، أحد النماذج البارزة للسينما الثالثة التي تنفي السينما الأولى، أي سينما التسلية القائمة على الإبهار والحبكة، كما تتجاوز السينما الثانية أي سينما التعبير الذاتي.

ترتبط الخلفية السياسية والاجتماعية لفيلم "ساحة العقاب" بزمن حرب فيتنام، وتنامي الحركة المناهضة للحرب في أوساط الشباب الأمريكي داخل الولايات المتحدة، وظهور حركات التمرد على "المؤسسة" القمعية، وبهذا المعنى يعد الفيلم استمرارا على صعيد آخر، لفيلم مثل "إذا" If البريطاني لليندساي أندرسون الذي ظهر عام 1969 وهو أحد أبرز الأفلام التي تنتقد بقسوة شديدة "المؤسسة" السائدة في المجتمع الغربي، وليس السلطة فقط، فالمؤسسة تشمل السلطة السياسية والدينية والتعليمية والإعلامية وكل ما يتحكم في تشكيل البشر في مجتمع من المجتمعات ويصوغه فكريا ونفسيا بشكل قسري.

يقدم بيتر واتكنز في "ساحة العقاب" رؤية مستقبلية، تدور في المستقبل القريب، لأمريكا المعاصرة. ولكنها رؤية نشاهدها على صعيد الواقعية التسجيلية كما لو كانت حقيقة راسخة. ويمكن القول إنه نوع من "الفانتازيا السياسية" بهذا المعنى.

أسلوب الفيلم هو أسلوب "الجريدة السينمائية" أو الفيلم الوثائقي. وقد صور الفيلم خلال ثلاثة أسابيع بكاميرا محمولة من مقاس 16 مم قبل تكبيره إلى 35 فيما بعد، ويستخدم المخرج أيضا طريقة كتابة العناوين التوضيحية على الشاشة بما في ذلك أسماء الأشخاص الذين يظهرون في الفيلم للإيحاء بأنهم أشخاص حقيقيون يمثلون أنفسهم، كما يجري المقابلات المباشرة من وراء الكاميرا، ويدير التصوير في المواقع الطبيعية المباشرة بدون أي ديكورات أو تعديلات في طبيعة المكان نفسه، وباستخدام ممثلين من غير المحترفين، مع إتاحة هامش كبير لهم للارتجال والتعبير الشخصي المباشر حسب فهمهم للدور.

يدور الفيلم بأسره في منطقة صحراوية بها بعض التلال في كاليفورنيا. والسرد في الفيلم يقوم على التداخل بين حدثين يقعان في وقت واحد: الأول هو حدث المحاكمة، والثاني العقاب.

هناك أولا مجموعتان من المعتقلين بسبب سلوكهم الاجتماعي المتمرد ضد المؤسسة وتعتبره السلطات سلوكا "معاديا"، وهو أساسا سلوك يرفض الحرب (في إشارة واضحة للرافضين لحرب فيتنام في الستينيات في عصر الرئيس نيكسون)، أو يحتج على توحش مؤسسات الاستغلال والترويج للـ"السلعة" إذا جاز التعبير، أي الاستهلاك على حساب القيمة، والخضوع لمؤسسة الجيش والمؤسسة التعليمية السائدة التي تخدم مؤسسة السلطة في النهاية بإعدادها رجالا يطيعون دون مناقشة.

المجموعة الأولى تواجه المحاكمة وتحاول عبثا الدفاع عن نفسها، والمجموعة الثانية تتلقى العقاب مع وعد غامض بالحرية.

هؤلاء المعتقلين هم من الشباب، من الطلاب، ومن المثقفين، والفنانين المتمردين خصوصا المغنين الذين ينشدون التعبير بأشكال جديدة، وتضم المجموعتان أفرادا من الطبقات الدنيا في المجتمع والوسطى، من السود والبيض، ومن الرجال والنساء.

السلطات ترسل هؤلاء جميعا إلى منطقة صحراوية شديدة الحرارة تدعى "ساحة العقاب الوطني"، حيث توجد هناك خيام تجري داخلها محاكمة الشباب من طرف "لجنة شعبية" من بين أفرادها عضو في الكونجرس، وأستاذ في علم الاجتماع، ومحام، وعامل في مصانع السيارات، مدير شركة، ويجلس هؤلاء فوق منصة يواجهون المتمردين الذين تجري محاكمتهم وتوجه إليهم شتى الاتهامات في جو شديد التوتر والعصبية دون أن يسمح لهم بالدفاع بطريقة قانونية، بل وتصل الإهانات التي توجه إليهم حد توجيه أبشع الشتائم إليهم، وإطلاق أبشع الأوصاف عليهم.

نتيجة المحاكمة المحددة سلفا: فكل واحد من "المتهمين" بدون تهمة محددة في الواقع، يتعين عليه أن يختار (في سخرية واضحة من فكرة حرية الاختيار) بين أن يقضي نحو عشرين عاما في السجن الانفرادي، أو ثلاث ليل وأربعة أيام في الصحراء، حيث يتعين عليه في هذه الحالة السير لمسافة 80 كيلومترا للوصول إلى نصب تذكاري مرفوع فوقه العلم الأمريكي، وعدم الاختفاء طيلة تلك الرحلة الجهنمية عن عيون الحراس الذين سيتابعونه طوال الوقت. يختار الجميع بالطبع الاختيار الثاني، ويقال لهم إن مياه الشرب غير متوفرة إلى أن يصلوا منتصف الطريق، وبعدها سيعثرون على عين للمياه النقية، كما يقال لهم إن جنود الحرس الوطني والشرطة الذين سيتولون مراقبتهم طوال السير، هم في مرحلة تدريب ومحظور عليهم اللجوء للعنف.

أما ما يحدث بعد ذلك فهو أكثر قسوة وعنفا من كل ما يمكن تخيله. بعد مسيرة مجهدة في الصحراء الحارة، يختلف الجميع فيقسمون أنفسهم إلى ثلاثة أقسام: الأول يضم الذين ينشدون الهرب، والثاني للذين يستسلمون لما يأتي بعد أن فقدوا كل أمل، والثالث لأولئك الذين يصرون على ضرورة الوصول إلى الهدف.

الحرارة الشديدة تنهك الجميع، يسقط البعض عاجزا محطما جراء العطش الشديد، ويبدو البعض الآخر مستسلما للحلم الموعود بالحرية في نهاية تلك الرحلة الجهنمية في قيظ الصحراء، وعندما يقطعون نصف المسافة لا يعثرون على المياه الموعودة، ثم يبدأ الحراس في التنكيل بكل من ينحرف عن الطريق المرسوم، ويقتل البعض، ويشتبك البعض الآخر منهم مع الحراس، ويواجهون مصيرهم، وعندما يتمكن بعض أفراد المجموعة الثالثة من الوصول في النهاية إلى الهدف يكون الموت في انتظارهم جميعا.

إنها صورة "متخيلة" لأمريكا المستقبل بعد أن تتحول إلى دولة فاشية، تعتمد فيها السلطة على العنف، وتؤمن بالسيطرة التامة على الأفكار والمفاهيم، وتلغي فكرة الحرية الشخصية، ويتحول الجميع فيها إلى أدوات للحفاظ على الدولة التي تصبح أهم من كل الأفراد.

ولاشك أن أسلوب ولغة بيتر واتكنز السينمائية هي التي تضفي على هذا الفيلم جماله ورونقه وقوته الشديدة وتجعله عملا معاصرا بكل معنى الكلمة، أي عملا قابلا للحياة والتأثير المستمر.

 إنه يستخدم أسلوب الجريدة السينمائية في الانتقال بين المحاكمة وبين العقاب، بين مجموعة الشباب التي تدافع عن نفسها أمام ممثلين عن المؤسسة السائدة، والمجموعة الأخرى التي تواجه كل أشكال القمع في الطريق نحو "الوهم". ويستخدم المخرج طريقة كتابة أسماء الشخصيات ويحدد صفاتهم ووظائفهم عند ظهورهم الأول على الشاشة، تجسيدا لطابع الجريدة السينمائية (الوثائقية)، كما يستخدم الكاميرا الحرة التي تهتز فيهتز معها المنظور، وهي تتابع مشاهد العراك والاشتباكات التي تقع في الطريق بين الحراس ومجموعات الشباب.

ويعتمد الفيلم على الإيقاع السريع اللاهث المرهق، وعلى أحجام الصور التي تحصر الشخصيات إما في لقطات قريبة (كلوز أب) في مشاهد المحاكمة لكي يوصل الشعور بالاختناق إلى المتفرج، أو لقطات بعيدة تجعل الشخصيات تبدو ضائعة وسط رمال الصحراء.

ولا يلجأ واتكنز إلى استخدام ممثلين محترفين، بل شخصيات حقيقية تؤدي أدوارها في الحياة على كلا الجانبين، ويترك لها حرية ارتجال الحوار المناسب بل ويعتمد أيضا على طريقة "الاستفزاز" سواء من خلال الموقف المشحون الذي يصنعه في ذلك المكان الموحش المنعزل القاسي بوطأته الشديدة على المشاركين في الفيلم، أو من خلال الحوار المتبادل بين شخصيات متناقضة بالضرورة في انتماءاتها الاجتماعية ومواقفها الفكرية. ويصل الحوار المرتجل في الفيلم إلى درجة السباب المباشر وصدور هتافات من نوعية "اقتلوا هذا الخنزير.. إنه يجب أن يقتل"!

إنها صورة "متخيلة" لأمريكا التي تتخلى عن قيمها تحت ضغظ تضخم شعورها بالخطر الخارجي بل والداخلي أيضا، وكيف يمكن أن تتحول إلى دولة تقمع الحريات، وتلغي قناعات كان الجميع يتصورون انها أصبحت راسخة.. أليس هذا، على نحو ما، هو ما وقع بعد 11 سبتمبر، وهو ما يجعل "ساحة العقاب" فيلما من الحاضر أيضا وليس فقط من "التراث"؟

بيتر واتكنز ترك بريطانيا منذ سنوات طويلة بعد أن أخرج عددا من الأفلام لعل أشهرها فيلم "لعبة الحرب" The War Game الذي هز المجتمع هزا في الستينيات، وكان مصورا بطريقته المفضلة، أي في إطار الإيهام بأن ما نشاهده حقيقيا تماما، أي باستخدام أسلوب الفيلم التسجيلي. وكان الفيلم يتخيل بريطانيا في أعقاب تعرضها لضربة نووية، وقد شلت فيها الحياة، ويظهر فيه ضحايا مدنيون ومسؤولون مدنيون وعسكريون في حالة هلع وعجز مطلق. وقد اضطر تليفزيون بي بي سي لوقف بث هذا الفيلم بسبب ما سببه من فزع في الأوساط الشعبية وغضب في الأوساط الرسمية.

أما "حديقة العقاب" فقد واجه واتكنز بسببه هجوما شديدا من جانب وسائل الإعلام الأمريكية، وتساءل البعض عن "أخلاقية" هذا النوع من السينما التي رأوا أنها "تزيف" الواقع، وتوحي بغير الحقيقة، بل وتساءل بعضهم عن مشروعية أن يأتي هذا الأجنبي إلى أمريكا لكي يوجه لها مثل هذا النقد العنيف المتطرف. وكانت النتيجة أن منع واتكنز من العمل في أمريكا بعد أن أصبح مصنفا كمخرج مثير للمشاكل!

الجزيرة الوثائقية في

15/10/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)