تعرف على صاحب "سينماتك"  وعلى كل ما كتبه في السينما

Our Logo

  حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقعسجل الزوار 

كوميديا الموقف.. التى بلا كوميديا ولا موقف

أخذنا من «السيتكوم».. الاسم فقط ولم نقدم منه شيئا!

أحمد يوسف

فى مسرحية "تخاريف" للينين الرملى ومحمد صبحى نمرة كوميدية شديدة السخرية والمرارة، عن شخصية تدعى "سئيل"، وهو النطق العامى فى مصر لكلمة "ثقيل" بمعنى المبالغ فى ثقل الظل والرذالة، لقد فرض هذا السئيل نفسه زعيما يخطب فى الجماهير، ويضع مايتصور أنه الفلسفة لسياساته، وكانت هذه الفلسفة دائما عبارة عن الصفحات الأولى من كتب لم يقم أبدا باستكمال قراءتها، وهو ينتقى منها سطرا من هنا وسطرا من هناك لكى يضع "نظاما" هو أقرب إلى الفوضى الشاملة، لكنه يناسب احتياجات سئيل وحده، وبعد ذلك فلتذهب الجماهير التى يزعم زعامتها إلى الجحيم! 

إن وجدت تشابها بين هذا السئيل وبعض الزعماء المزيفين (خاصة الجدد منهم) فذلك ليس محض مصادفة، إذ يتصور الواحد منهم نفسه مدرسا فى فصل دراسي، يجلس أمامه التلاميذ بينما يقف شارحا بعض العبارات الغامضة على طريقة الاستهداف الجغرافى للفقر، أو مدافعا عن تركز الثروة والسلطة بحجة أن "الملآن سوف يصب يوما على الفاضي"، ويتصور أن تلك هى السياسة!! للأسف أصبح هذا هو المنهج السائد فى معظم نواحى حياتنا، تكاد لا تعرف أحيانا ماهى المؤهلات أو المواهب التى جعلت إنسانا بلا موهبة من أى نوع يتربع على قمة سلطة ما، أو ماالذى يتيح له أن يصبح صحفيا مثلا أو مذيعا أو ممثلا أو مؤلفا أو مخرجا، وذلك لأننا فقدنا "المسطرة" التى نقيس بها فى هذا المجال أو ذاك، وأصبحنا نأخذ من الأمور قشورها دون جوهرها فى كل شيء، وسوف أضرب لك هنا مثلا بما يطلقون عليه "السيتكوم" أو "كوميديا الموقف". 

منذ سنوات قليلة كنت إذا فكرت أن تتحدث عن هذا النمط الفنى من الدراما التليفزيونية لوجدت استهجانا كأنك تتحدث عن كائن خرافي، فالمسلسلات بشكلها السائد لدينا منذ نصف قرن هى التى يعرفها معظم المنتجين والمؤلفين والممثلين والمخرجين، وفجأة ومع ظهور حلقات كوميديا الموقف الأمريكية على شاشات بعض القنوات الفضائية اندفع الجميع لعمل "تقليد" لهذا النمط، ولكن على طريقة "سئيل" الذى لم يقرأ من الكتاب إلا بضع صفحات، لقد فهمنا منه أنه أرخص فى تكاليفه من المسلسلات، فهو لا يحتاج (من وجهة نظرنا الضيقة جدا) إلا إلى ديكورات قليلة، وعدد محدود من الممثلين، نتعامل معهم بطريقة المسرح المرتجل فى الموالد، فلتعطهم "موقفا" ما واترك كلا منهم يرتع ويلعب كما يحلو له، ولأنها "كوميديا" فإن على هذا الممثل أو تلك الممثلة المبالغة فى الحركات لدرجة "الفرسكة"، لا يكاد أن ينقصهم إلا ارتداء ملابس المهرجين حتى تشعر أنك فى سيرك بالمعنى الكامل للكلمة. 

أرجو أن تتأمل على سبيل المثال لا الحصر حلقات "راجل وست ستات" أو "تامر وشوقية" أو "العيادة" أو"بيت العيلة" أى "سيتكوم" مصرى آخر، ولتسأل نفسك بعدها: هل رأيت مرة واحدة فى حياتك من يتحدث أو يتصرف فى الحياة "اليومية" و"العادية" بهذا الشكل الذى يتحدث ويتصرف به الممثلون، الذين لا يجدون فيما يبدو نصا كتبه مؤلف، أو مخرجا يدير العمل، فأصبحت مسئوليتهم الوحيدة هى "إضحاكنا" بالمعنى البدائى للكلمة، ممثل يصفع آخر على وجهه، وممثلة "تطجن" فى الكلام فى سوقية بينما أخرى تصطنع الرقة الركيكة، ويطيح الجميع بأيديهم وأحيانا بأرجلهم ويتحركون فى هستيرية، ولتبحث بعد ذلك عن الكوميديا أو الموقف فلن تجد لهما أثرا. 

لقد وضعت كلمتى "اليومية" و"العادية" فى الفقرة السابقة بين أقواس لأنهما جوهر أى كوميديا موقف، فى الوقت الذى لا يلتفت له صناع مثل هذا النمط عندنا. الغريب أننا عرفنا كوميديا الموقف فى الإذاعة منذ أكثر من نصف قرن مع "عائلة مرزوق أفندي"، ثم فى التليفزيون مع "عادات وتقاليد" فى الستينيات، ثم "القاهرة والناس" فى السبعينيات، وبعدهما فى "عائلة ونيس" بأجزائه التى ماتزال تتوالى بنجاح، وكان عماد هذا النجاح فى كل هذه الأمثلة هو أنها فهمت جيدا جوهر كوميديا الموقف منذ نشأتها فى الراديو الأمريكى ثم فى التليفزيون، ومنها انتقلت إلى كل بلاد العالم، هذا الجوهر هو: مجموعة من الشخصيات الدرامية المرسومة جيدا (وليس مجرد خطوط خشنة غليظة كما يحدث عندنا)، وهذه الشخصيات ترتبط بعلاقة ما، أسرة أو صداقة أو عمل أو سكن، وعندما ينشأ "موقف" ما فإن لكل من هذه الشخصيات رد فعلها، الذى قد يتلاقى أو يتنافر مع ردود أفعال الشخصيات الأخري، ومن ذلك تتوالد المفارقات وتتصاعد إلى ذروة، لكى تجد حلها فى نهاية الحلقة. 

قد يقول قائل: طيب، أليس هذا هو مانراه فى كوميديا الموقف عندنا؟ والإجابة تبدأ من رسم الشخصيات، التى "يجب" أن يرى فيها المتفرج نفسه بشكل ما، لذلك فإنه يتوحد معها، ويحافظ على الارتباط بها كل أسبوع لكى يتابع معها "مواقف" تحدث له مثلها فى حياته، وأرجو أن يسأل القارئ نفسه: فى أى شخصية من تلك التى نراها على شاشاتنا يمكن له أن يتوحد؟ وأى موقف رآه قد سبق له أن عاشه هو شخصيا فى الحياة؟ وهذا فى الحقيقة هو سر نجاح مسلسلات كوميديا الموقف الأمريكية والبريطانية بالمقارنة مع مسلسلاتنا، إنهم ببساطة يعرفون من هو الجمهور المستهدف، ويرسمون الشخصيات بدقة ورقة لكى يشعر المتفرج أنها تمثله وليس تمثل عليه، ومن بين الملامح المهمة فى هذا السياق الطبقة التى تنتمى إليها الشخصيات، والعمل الذى تمتهنه، والعلاقة التى تربط بينها وبعضها البعض، وربما الأهم هو الشريحة العُمْرية لأبطال العمل. 

سوف أتوقف معك هنا قليلا لأضرب لك بعض الأمثلة على كوميديات موقف شهيرة وكيف تقوم بتحديد معالمها الأساسية لكى تتوجه إلى قطاع محدد من الجمهور، وأرجو أن ننتبه هنا إلى أن صناعات التسلية الراسخة لا تقدم سلعها أبدا إلى جمهور هلامى كما نفعل فى أغلب الأحوال. إن مسلسل "الأصدقاء" أو "فريندز" على سبيل المثال يقدم شخصيات من الطبقة المتوسطة، هم جميعا بين العشرينيات والثلاثينيات، فى هذه السن الحرجة التى يقف فيها المرء بين جموح الشباب ودخول مرحلة تحمل المسئوليات، ليتساءل عما أنجز فى حياته وإذا ماكان قد حقق بالفعل علاقات ناجحة. بينما يأتى مسلسل "ساينفيلد" ليسخر من معنى النجاح بالمقاييس البرجوازية فى مدينة تبتلع الناس مثل نيويورك، بل إن السخرية تمتد أيضا إلى الاهتمامات التى يغرق فيها البشر، مثل أنواع الطعام أو الملابس، أو حتى التعبيرات اللغوية المتداولة، لكن يغيب عن هذه الاهتمامات جميعا أى "معني" حقيقى يحقق للإنسان ذاتيته، لذلك ليس غريبا أن يغرق الحوار هنا فى حالة عبثية كاملة تذكرك كثيرا بمسرح العبث واللامعقول. 

فى "الأصدقاء" و"ساينفيلد" مكان واحد يكاد أن يجمع الشخصيات بالصدفة، لكن المكان يصبح هو بيت العائلة كما فى "الجميع يحبون ريموند" أو "ملك حى كوينز"، وفى كل التفاصيل لرسم الشخصيات والعلاقات بينها تستطيع أن تتعرف على أسرة أمريكية عادية تعيش حياتها اليومية، بل ربما يصبح هذا المسلسل أو ذاك فى يوم ما مرجعا لعلماء الاجتماع ليعرفوا حقيقة الأسر الأمريكية فى زمن صنع المسلسل، فأنت تستطيع مثلا أن تدرك من هذه المسلسلات أن المجتمع الأمريكى يعامل كبار السن داخل الأسرة بنوع من الازدراء، وأن هناك دائما فجوة كبيرة تفصل بين الأجيال، وأن العلاقات الأسرية تتحكم فيها العوامل الاقتصادية أكثر من العوامل الوجدانية. وعلى الجانب الآخر سوف تجد "عائلة كوسبي" نموذجا لأسرة زنجية تحاول البقاء فى الشريحة المستورة من الطبقة المتوسطة فى الوقت الذى يصر رب الأسرة على الحفاظ على كل تقاليد الأسرة المتماسكة حتى بعد أن يكبر الأطفال ويسعوا للاستقلال بحياتهم. 

وقد يكون مكان العمل هو الذى يجمع بين الشخصيات، مثل مسلسل "المستجدون" أو "سكرابس"، وهو هنا المستشفى الذى يعمل فيها أطباء وممرضون شبان فى بداية حياتهم، بينما يصطدمون بحقائق الحياة المريرة فى العمل والعاطفة على السواء. بينما فى مسلسل "بيكر" يكون المكان هو عيادة طبيب الحى والمطعم الذى يستريح فيه بين نوبات العمل، لكن المسلسل يبرع فى رسم شخصية البطل الطبيب الذى يعانى من الوحدة بسبب نزعته الكلبية الساخرة من كل شيء. إن المكان يصبح هو الحانة فى مسلسل "تشيرز" أو "فى صحتك"، وهذا هو المثال الأكثر وضوحا للمعالجة الناضجة لكوميديا الموقف، فالمكان يسمح بأن يضم شخصيات شتي، لكن صناع المسلسل يؤكدون على رسم كل شخصية بأقصى قدر من الوضوح، حتى أنك تشعر كأنك تعرفها أو أنك قد قابلتها يوما، بل إنك تستطيع أن تتخيل ماذا تفعل هذه الشخصية أو تلك خارج هذه الحانة التى نراها فيها دائما، لذلك لم يكن غريبا أن تستقل بعض هذه الشخصيات بعد ذلك فى مسلسلها الخاص، مثل "فريجر" الطبيب النفسى الذى يعمل معالجا للمستمعين فى برنامج إذاعى على الهواء، وإذا كان "ساينفيلد" هجاء لاذعا لأصحاب الياقات الزرقاء من الكادحين على لقمة عيشهم، فإن "فريجر" يوجه هجاءه لأصحاب الياقات البيضاء من المتحذلقين الذين يحتمون بالمصطلحات الرنانة لكى يخفوا إخفاقهم فى إقامة علاقات إنسانية دافئة وحقيقية فى الحياة. لعلك قد لاحظت فى هذه الأمثلة جميعا أن "الشخصية" هى البداية، فلترسمها جيدا وبعد ذلك ضعها فى أى "موقف" وليس العكس كما يحدث عندنا. من جانب آخر فإن الكوميديا لا تعنى الهزل أو التهريج، بل إنها طبقة السكر الحلو التى تغطى الدواء الذى قد يكون مرا، أو بكلمات أخرى فإن الكوميديا لا يمكن أن تكون أبدا نقيضا للجدية، بل إنها المضمون الجاد وقد صيغ فى شكل ساخر. أستطيع أيضا أن أشير لك هنا على نحو عابر إلى كوميديات موقف غير تقليدية، مثل ""خذ بالك من لغتك" الذى يجمع شخصيات أوروبية مختلفة تريد أن تتعلم الإنجليزية على يد مدرس بريطانى شاب، وما ينتج عن ذلك من مفارقات خفيفة الظل بحق، أو "استعراض السبعينات" الذى يقدم (الآن) مجموعة من المراهقين فى سبعينيات القرن العشرين، ليمزج البارانويا والسخرية من تلك الفترة التى كانت مليئة بالآمال والطموحات التى لم يتحقق معظمها. بل تذهب كوميديا الموقف إلى عالم الخيال العلمى فى "الصخرة الثالثة بعد الشمس" (يقصدون الكرة الأرضية) حيث نرى مجموعة من الكائنات الفضائية التى تجسدت فى هيئة بشرية وأُرسِلت إلى الأرض لدراستها، وكيف تقع هذه الكائنات فى علاقات عاطفية مع أهل الأرض. ولا يغيب فن التحريك أيضا عن كوميديا الموقف، مثلما هو الحال فى "عائلة سيمسون" الذى يفترض أنه يدور فى لعصر الحجري، أو "بيفيز وباتهيد" المغرق فى جموحه إلى درجة أنه يكاد ألا يصلح إلا "للكبار فقط"!! 

ماذا فهمنا بعد ذلك كله من "السيتكوم" وماذا أخذنا منه؟ لقد أخذنا قشوره وتركنا جوهره، وكعادتنا نميل إلى الاستسهال البعيد تماما عن صناعة هذا النمط من الدراما. هناك مسرحية للكاتب الكوميدى نيل سايمون، تحولت فى عام 2001 إلى فيلم تليفزيوني، وتحمل عنوان "الضحك فى الطابق 23"، وتتناول فريق عمل مسلسل لكوميديا الموقف، إنها تتناول المعاناة التى يواجهونها كل أسبوع لصياغة حلقة من ست وعشرين دقيقة فقط، معاناة يشترك فيها الجميع، فلكل ممثل الشخصية التى يجسدها، وعليه أن يطورها مع الفريق فى "ورشة" عمل بالمعنى الحقيقى للكلمة، وعبر "بروفات" مضنية، هذا إذا نجحوا أولا فى العثور على موقف أو فكرة، وأرجو أن تقارن هذا بما نصنع، لتتأكد أن "سئيل" هو الذى يتحكم فى حياتنا، فى السياسة أو الفن على السواء! 

العربي المصرية في

15/09/2009

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2009)