إنها إحدى أهمّ المهن
السينمائية التي تُطلِق المرحلة الثانية في عملية تنفيذ مشروع سينمائي، وهي
المرحلة
المعروفة باسم العمليات الفنية. فبعد الأيام الطويلة من
التصوير، يأتي دور التوليف
الذي يُحدّد المعالم كلّها للصنيع البصري، مع أن بعض العاملين في هذا
المجال يصرّ
على أهمية التوليف أثناء التصوير. والمولّف/ المونتير لا يقلّ أهمية عن
المخرج،
لأنه يساهم في تشكيل رؤيته السينمائية في صناعة الفيلم، ويلعب
دوراً أساسياً في
تحويل أفكار المخرج إلى نسق سينمائي متكامل. لا شكّ في أن مهناً سينمائية
أخرى
تشارك في إبراز ملامح الفيلم، كالمصوّر السينمائي والمنتج مثلاً، لكن
المولّف يبقى
المفتاح المطلوب لبناء الهيكل النهائي للصُوَر/ المَشَاهد
المتتالية، أي للفيلم.
أكّد إيرفي شنايد، المولّف الذي عمل مع المخرج الفرنسي جان ـ بيار جوني،
مراراً
أن هناك صعوبة كبيرة في التحدّث عن التوليف/ المونتاج «لأنه
غير مرئي»، مشيراً في
الوقت نفسه إلى أن المرء قادرٌ على مشاهدة عمل مدير التصوير ومصمّم الأزياء
ومهندس
الديكور و«لعبة الممثلين» بشكل ما، لكن المونتاج، ، يبقى عملاً غامضاً
جداً، تماماً
كإخراج المَشَاهد. في الواقع، يقتضي عمل المولّف اختيار «المادة المصوَّرة
الخام»
(Rushes)
وجمعها لبناء «متتالية مشهدية» (المتتالية: سلسلة من اللقطات تمثّل
جانباً
من القصّة السينمائية) للحصول على المشهد. انطلاقاً من هنا، يفرز المولِّف
والمخرج
ما «يصلح» وما لا «يصلح»، بإقصاء الحشو والتكرار، وبالاشتغال على الإيقاع.
بالنسبة
إلى شنايد، يكتب المولّف «قسماً لامرئياً (من الفيلم) يجب أن يكون لديه صدى
لدى
المشاهدين متعلّق بالحواس». آلان كورنو يسمّيه «الكتابة
الثانية» (باعتبار أن
الكتابة الأولى هي السيناريو)، إذ يتعلّق الأمر بإعادة خلق فيلم انطلاقاً
مما تمّ
تصويره. جولييت ولفلينغ، مولّفة أفلام جاك أوديار، لاحظت أن السيناريو مليء
بأسئلة
لا يتمّ طرحها: «ما ينقص عند قراءة نص، تعيد المخيّلة بناءه.
لكن، عندما نُشاهد
صُوَراً مُصابة بنقص في التفسير، فإننا لا نفهم شيئاً». يقتضي عمل المولّف
ملء
النواقص إذاً، وجعل الصوَر مفهومة. بالنسبة إلى تيلما شونمايكر، التي ولّفت
الأفلام
كلّها لمارتن سكورسيزي بدءاً من «الثور الهائج» (1980)، فإن المولّف يأخذ
عمل أحدهم
ويُعالجه «كخزفيّ يُعطي شكلاً للفخّار»، ورأت أن المونتاج
يؤثّر على هيكلية الفيلم
وإيقاعه وطريقة تطوّر الشخصيات.
هدف اللعبة صنع عمل لا يُرى، وسرد حكاية
بالطريقة الأسهل والأكثر رزانة، كي يهتمّ المشاهدون بالمشاعر والانفعالات،
لا
بالحِيَل البصرية. إيرفي دو لوز، الذي عمل مع سينمائيين مختلفين كموريس
بيالا وآلان
ريني ورومان بولانسكي، طالب قبل كل شيء بألا يكون للمولّف
أسلوب، بل أن يكون هو في
خدمة الأفلام: «تقريباً كطبيب نفسي جيّد، يتوصّل إلى استنباط الأفضل في كل
واحد»،
مضيفاً أن على «المولّف الجيّد ألاّ يبرز (كالنجوم مثلاً)». الجميع متفّقون
على هذه
النقطة: إيرفي شنايد يحاول أن يكون «متقلّباً» كي يفهم المخرجَ ويذهب
باتجاهه: «يجب
أن يكون المرء مرناً وفضوليّاً وحسّاساً؛ أن يكون لديه في كل مرّة نظرة
باردة على
المواد التي تصله». نويل بواسّون، المولّفة العاملة مع جان ـ
جاك آنو، تستعيد قولاً
لكينجي ميزوغوشي: «يجب غسل العينين بعد كل نظرة». بالنسبة إليها، ينبغي على
المرء «أن يضع نفسه دائماً في موضع المساءلة، كما
لو أنه في موقع المُشاهد الساذج
والبريء. يجب أن يضع نفسه في حالة انفصال بحسب أسلوب الـ«زين» (طريقة
تأملية لدى
شعوب آسيويين)». في الإطار نفسه، يُستَنتَج أنه «لا يوجد أبداً فيلمان
متماثلان»
كما كتب جيرار دولورم في تحقيقه حول هذا الموضوع، المنشور في المجلة
الفرنسية
المتخصّصة «بروميير» (آب 2009)، مضيفاً أن «لكل واحد من الفيلمين ميزاته
وخصوصياته». ونقل عن إيرفي دو لوز تذكّره فيلم «لا تقله لأحد»
(2006) لغييوم كانين
الذي صُوِّر كلّه بآلتي كاميرا: «كل لقطة كانت مختلفة، لأن آلتي الكاميرا
كانتا
تتحرّكان طوال الوقت، وبشكل مختلف. يجب إذاً العثور مجدّداً على شيء خاص في
كل
مشهد، شرط أن يكون، في الوقت نفسه، منخرطاً في الاستمرارية».
جولييت ويلفلينغ تصرّ
على مفهوم التبادل، الذي تعتبره ضمانة التعاون الجيّد: «يكتب المخرج غالباً
السيناريو، ويبحث عن تمويل ويُصوّر، وعندما يصل إلى مرحلة المونتاج، يكون
منهكاً
قليلاً. (لذا، عليه أن) يعتمد على العين الجديدة لمن يستطيع أن
يقطِّع مخطَّطاً إذا
وجده ضرورياً، من دون أن يهتمّ بمعرفة ما إذا كان هذا المخطّط كلّف مالاً
كثيراً
لتصويره». تيلما شونمايكر تشرح علاقتها الاستثنائية والرائعة بمارتن
سكورسيزي بأنها
مبنية على الثقة القائمة بينهما: «يعرف أني موجودة لدعمه ومساعدته، لا
لمواجهته».
تذكّرت صراعات عاشها سكورسيزي مع مولِّفين آخرين عندما كان يعمل في
هوليوود، حيث لا
يملك المخرجون قدرة التحكّم بـ «النسخة النهائية»
(The Final Cut)
لأفلامهم. إيرفي
شنايد أكّد أهمية العلاقات الإنسانية والحاجة إلى أن يكون
المرء ديبلوماسياً: «يجب
أن يُدرك المرء أن هناك أوقاتاً يستطيع أن يقول فيها أشياء معينة، وأخرى
يُفضَّل
قولها بطريقة مختلفة».
مفردات متناقضة
بين كمية الأشرطة الخام الملتقطة
أثناء التصوير والنسخة النهائية التي يجب على المولّف تقديمها، هناك حدّ
أدنى من
المقياس يبلغ عشرة على واحد. بمعنى آخر، من أجل فيلم مدّته تسعين دقيقة،
هناك خمس
عشرة ساعة كحدّ أدنى من «المواد المصوَّرة الخام». لهذا السبب،
فإن تعبير «توليف»
Monter/ To Edit
مرادف لـ «قطع»
Couper/ To Cut.
تيلما شونمايكر تطالب كلّياً بهذه
المقاربة: «يتعلّق الأمر بتقليل كمية كبيرة من «التمتير»
(القياس بالمتر)
وتقطيرها»، مضيفة أنه «يُمكن لسكورسيزي أن يحتفظ بخمس لقطات مختلفة عن شخص
يتلو
حواراً، أو يأخذ جزءاً من لقطة وجزءاً من لقطة أخرى. فيما بعد،
عليّ أنا أن أجمع
هذه الأجزاء وأرتّبها في نسق واحد». نويل بواسّون لديها تصوّرٌ مختلف، إذ
أمام
مفردة «توليف» (Monter)،
التي ترى أنها تعني انتقاءً أو اختياراً، تفضّل مفردة «لصق»
(Coller)
التي تتضمّن الجمع: «إذا لم نأخذ إلاّ اللحظات القوية في أوبرا،
فإننا نضجر مباشرة». واعتبر إيرفي دو لوز أن المونتاج الرقمي ألغى مقولة
القطع،
فعلى شاشة الكمبيوتر «هناك شعور بجمع اللقطات».
إلى ذلك، تُطرح مسألة أخرى: إذا
شَعَر مولِّف أنه ينقصه مخطّط أو لقطة، فإنه يستطيع دائماً أن يطلب تصويره،
شرط أن
يحصل عليها باكراً بالقدر الكافي. إيرفي دو لوز كان حاضراً أثناء تصوير
الفيلم
الأخير لبولانسكي «الشبح» لهذا السبب: «إذا احتاجت متتالية
مشهدية إلى إضافات ما
حول موضوع معيّن، أستطيع أن أحدّد هذه الإضافات في اللحظة نفسها. يُستحسن
فعل هذا
دائماً عندما يكون الأمر ممكناً، قبل أن يتمّ تحطيم الديكور». إيرفي شنايد
منتم
بدوره إلى «مدرسة» التوليف منذ بداية التصوير: «أثناء العمل في
«يوم أحد طويل
للخطوبة»، كان هناك باص مختصّ بالماكياج والكوافير تمّ نقله إلى صالة
المونتاج.
ظُهرَ كل يوم، كان جان ـ بيار جوني يتناول
طعام الغذاء في الصالة نفسها ويُشاهد ما
الذي فعلته. سمح هذا باتّخاذ قرارات سريعة. هل لدينا مواد
كافية لهذا المشهد الضخم
من المعارك؟ إذا نعم، فلا حاجة إلى عودة مئتي ممثل صامت في اليوم التالي».
وهذا ما
وافقت عليه جولييت ويلفلينغ، مولّفة «نبي» (2009) لجاك أوديار، الذي تمّ
تصويره في
أربعة أشهر في ديكور واحد: «إنه حظ كبير، لأنه عندما أدرك ما ينقصه، استطاع
أوديار
والمشاركون في كتابة السيناريو إعادة كتابة مشاهد عدّة وتصويرها، مستفيدين
من واقع
أن الممثلين لا يزالون موجودين، وأن الديكورات لا تزال حاضرة». ذلك أن
الأمر يُصبح
أكثر تعقيداً عند مرور أشهر عدّة على الانتهاء من التصوير، أي
عندما «تتبدّل أحوال
الممثلين إزاء الفيلم، ولا يعودون لابسين أدوارهم». أما المدرسة الأخرى، أي
التوليف
بعد التصوير، فهي أكثر توفيراً، لكنها أكثر عرضة للخطر أيضاً، لأنه لا يوجد
استدراكات ممكنة. الفائدة كامنة في أن الأمر المُكرِه يقوّي
الخلق الإبداعي، ويؤدّي
إلى العثور على أفكار لم يُعثر عليها سابقاً.
عن الصوت أيضاً
إيرفي دو لوز،
الذي كان مولّفاً للصوت قبل أن يعمل في توليف الصوَر، لا يفهم العمل من دون
الصوت:
«إنه
عنصر حكائي لا يُمكن تفاديه». يذكر كمثل سيناريوهات بولانسكي، المليئة
بالأصوات التي تُحدِث تأثيراً درامياً: «نستطيع أن نعاين بصرياً بشكل أفضل
مع
الصوت». يُضيف أن هذا التصوّر متداول بشكل قليل جداً للأسف في
فرنسا، وريثة تقليد
مسرحي: «إنه البلد الوحيد في العالم الذي انتقل من السينما الصامتة إلى
السينما
الناطقة، في حين أن الآخرين يصنعون سينما صوتية». تيلما شونمايكر كانت هي
أيضاً
مولّفة صوت، لذا فهي تولي الصوت أهمية قصوى، وأكثر من ذلك
عندما يتعلّق الأمر
بالموسيقى: أي نوع من الموسيقى يُستَخدَم، أين نضعه، كيف نولّفه مع السياق
السردي،
متى نرفع قوته/ مداه ومتى نخفضهما، متى نستعين بالصوت؟ بخصوص هذه النقطة
الأخيرة،
ذكرت «لقية» جوهرية اكتُشفت أثناء «الثور الهائج» لسكورسيزي:
«تعاملنا مع مولّف
صوتي ماهر يُدعى فرانك وارنر. أثناء إحدى المتتاليات المشهدية الأخيرة
للملاكمة،
انتزع فجأة الصوت كلّه. لم نعد نسمع إلاّ تنفّس الملاكِمَين الاثنين. كانت
النتيجة
مدهشة. منذ ذلك الحين، بتنا نستخدم الصمت كثيراً في أفلامنا».
نويل بواسّون ذكّرت
أن الصوت المباشر يكون، أحياناً، أثمن من الصورة. جان ـ بول رابنو نبّهها
إلى أنه
يريد أن يجعل من «سيرانو دو بيرجوراك» (1990) «أوبرا شفهية». قالت: «أولّف
الأصوات
بحسب الإيقاع الاسكندريّ (البحر الاسكندري: بحر شعري مؤلَّف من
اثني عشر مقطعاً
صوتياً). الخطوات، الصدمات، الزمن، التنفّس، كل شيء تمّ الاشتغال عليه بحسب
إيقاع
الاثنتي عشرة قدماً. إذا لم تتطابق الصوَر، أبتكر لقطة أو مشهداً، وأضيف
نظرة أو
لقطة موَاجِهة، للبقاء في درجة السرعة هذه». بالنسبة إلى إيرفي
شنايد، في الأحوال
كلّها، «الصورة توجّه، وعلى الموسيقى أن تتكيّف مع الفيلم».
أخيراً، يرغب
المولّفون في الحفاظ على علاقات دائمة مع المخرجين: عندما يعرفون بعضهم
بعضاً، فإن
كل شيء يسير بشكل سليم وسريع. تيلما شونمايكر نموذج «متطرّف»
للوفاء، لأنها لا تعمل
مع أحد آخر تقريباً غير مارتن سكورسيزي. إيرفي شنايد ولّف الأفلام كلّها
لجوني. لا
يتخيّل الرجلان أن يعمل أحدهما من دون الآخر، لكن المولّف يعمل أيضاً مع
جان ـ
فرنسوا ريشي وسيغفريد. ولنويل بواسّون عاداتها الخاصّة بها
(بدأت حياتها المهنية مع
جان ـ جاك آنو)، لكنها تحبّ أيضاً «أن تلتقي من تُقدِّر عمله، وأن تكتشفه
بهدوء
تام». إذا كان التعاون سيئاً، فإنه يستبعد كل رغبة في العمل مجدّداً.
جولييت
ويلفلينغ، التي ولّفت الأفلام كلّها لأوديار، عرفت تجارب سيئة
مع مخرجين قليلي
الخبرة، لا يتحمّلون فكرة تقطيع صُورِهم/ مشاهدهم، علماً بأنهم يتصرّفون
بمنطق
سلطوي: «يخافون من قيام المولّفين باقتطاع أفلامهم. فجأة، كل ما نقترحه
يرفضونه».
إيرفي دو لوز يعمل مع بولانسكي منذ ثلاثين عاماً، ومع آلان ريني منذ أعوام
عدّة.
إنه فخور بكونه لفت مجدّداً انتباه
المخرجين الذين عمل معهم: «بشكل عام، عندما يسود
التفاهم جيّداً مع أحدهم أثناء العمل على فيلم، نحاول إعطاء
أقصى ما يُمكن. وإذا
كان هناك وفاق شخصي مضاف إلى الاتفاق الفني، فهذه تُعتبر علاوة». وذكر
حادثة جرت
أثناء غداء أقيم في منزل صديق لبولانسكي أثنى أمامه على مولّف أفلامه،
فأجابه
المخرج: «هل تعتقد أني أغلق على نفسي في غرفة لثماني ساعات
يومياً مع شخص لا
أحبّه؟».
السفير اللبنانية في
22/08/2009
«خـط
سـير» تلفزيـون
لبنـان: إلـى أيـن؟
نديم جرجورة
دأبت محطة «تلفزيون
لبنان»، منذ أعوام طويلة، على إعادة بثّ ما تبقّى لديها من برامج أنتجتها
سابقاً،
لملء فراغ مدقع في البرمجة الراهنة، الخالية من الإنتاج الجديد السليم
والجدّي إلى
حدّ كبير. أعيد بثّ بعض هذه البرامج مراراً وتكراراً، بينما لم ينل بعضها
الآخر شرف
الإطلالة مجدّداً على المشاهدين إلاّ نادراً. ثم إن أعمالاً
قديمة عُرضت في «أوقات
الذروة»، ما أتاح لها فرصة التواصل مع بقايا جمهور هذه المحطّة المترهّلة
كترهّل
البلد ومجتمعه، بينما تُركت برامج أخرى إلى منتصف الليل.
من هذه البرامج
الأخيرة، واحدٌ حمل عنوان «خطّ سير» (الترجمة الحرفية للعنوان الفرنسي:
Itineraire
الذي أُنتج مطلع السبعينيات الفائتة، والذي قدّمته مونيك سيبيل، والذي
شكّل محطّة
إنسانية عكست تفاصيل السيرة الذاتية والمهنية والحياتية لشخصيات فاعلة في
البلد
حينها، بعيداً عن الهمّ السياسي المباشر؛ أو لشخصيات عالمية اقتنص معدّوه
فرصة
وجودها في بيروت لإجراء حوار تلفزيوني معها. وعلى الرغم من
البهتان التقني للصورة،
جرّاء مرور الزمن على أشرطة التسجيل التي لم تعرف صيانة أو حماية من
الاندثار، إلاّ
أن جمال الأسود والأبيض منح المُشاهد المهتمّ متعة استعادة لحظات تاريخية
وأناس
لفظتهم الحرب اللبنانية أو منعطفات الحياة، بعدما أثروا المشهد
الإنساني برؤى
وأفكار وأنماط عيش. علماً أن حيوية البرنامج واستناده إلى لغة فرنسية
مبسّطة في
سردها العمق الفكري والتحليل الاجتماعي، ساهما في جعل الحلقات متنفّساً
هادئاً
للمشاهدين من ضغط الأعمال التلفزيونية الأخرى، في تلك الفترة
كما اليوم. ذلك أن
معدّي البرنامج ركّزوا على شخصيات امتلكت خطابها الثقافي الخاصّ، وأضاءت
جوانب
مختلفة من معاني الحياة والموت، واشتغلت في تحديد ملامح العيش وأنماط
العلاقات
والوعي والمعرفة والسلوك، وعاشت اختباراتها المنبثقة من عمق
وعيها المعرفي
والتزاماتها الثقافية والفكرية. وإذا بدت اللغة الفرنسية المستخدَمة في
الحوارات
متينة ومتماسكة ومعبّرة عن إدراك عميق لخصوصيتها وسياقها ومفرداتها، فإن
الترجمة
العربية لم تكن أقلّ أهمية وقيمة منها، على الرغم من هنات
بسيطة اعترتها، بين حين
وآخر. وهذا على نقيض ما يجري اليوم، في ظلّ تنامي ظاهرة التسطيح اللغوي في
البرامج
التلفزيونية واللغة المستخدَمة في الحياة اليومية، إذ إن الغالبية الساحقة
من
اللبنانيين لا تفقه شيئاً من اللغتين العربية والفرنسية معاً
(ناهيك عن الإنكليزية
أيضاً)، بل يطغى عليها جهلٌ واضحٌ في أصولهما وآلية نطقهما ومعاني
مفرداتهما. وهذا
جليّ في برامج تلفزيونية عدّة، تفتقد حُسن الترجمة لفقدان العاملين فيها
المعرفة
اللغوية السليمة.
نبش ذاكرة؟
لا أعرف مدى اهتمام الشباب اللبنانيين اليوم
باستعادة حقبة تاريخية مهمّة عرفتها بيروت في الفترة الفاصلة بين نكسة
العام 1967
واندلاع الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975، عبر برنامج كهذا، أو
بأشكال أخرى.
لا أعرف مدى رغبتهم في نبش بعض الذاكرة، للاطّلاع على معنى أن يكون
السياسيّ
اللبناني ممتلئاً ثقافة حيّة وفكراً إنسانياً خلاّقاً، يتيحان له مقاربة
العمل
السياسي اللبناني، وامتداداته العربية والدولية، بحكمة أكبر
ونضج أخلاقي أقوى؛ وعلى
صورة رجل الدين الناطق بلغة انفتاح جوهريّ، بعيداً عن ادّعاء إيماني،
والمثابر
حقيقةً على تطوير الأسس الطبيعية للعلاقات المختلفة بين الجميع، وغير
المختبئ في
جلباب الدين لممارسة نقيضه، لأنه يعيش إيمانه وقناعاته بحبّ
جذري للحياة ودينه
معاً. لكن البرنامج المذكور سلّط الضوء على تلك الحقبة، باستضافته شخصيات
ارتبط
بعضها بالغليان اللبناني حينها، إن لم يكن أحد أبرز مسبّبي هذا الغليان،
بمعناه
الثقافي السجالي الديموقراطي والمنفتح والموضوعي؛ وعرف بعضها
الآخر تجارب حياتية
جديرة بسردها على الشاشة الصغيرة. والحلقات الأخيرة التي أعيد بثّها في
الأيام
القليلة الفائتة قدّمت أسماء لامعة أدركها الموت قتلاً أو انتحاراً، ككمال
جنبلاط
وصبحي الصالح وداليدا وغيرهم.
تُحرِّض إعادة بثّ حلقات هذا البرنامج على طرح
مسألتين اثنتين: اهتمام المحطّة التلفزيونية بهذا النوع من البرامج
الغائبة،
حالياً، عن المشهد التلفزيوني اللبناني والعربي، لانهماك إدارات المحطّات
الفضائية
والأرضية بشتّى أنواع التجهيل الحياتي والثقافي والملل السياسي والأعمال
الدرامية
التي يفتقد معظمها مقوّمات الإبداع التلفزيوني الجدّي؛
والتنبّه إلى الغياب الآنيّ
القاتل للثقل الفكري/ الفلسفي/ الإنساني/ الأخلاقي، وهو ثقل حمله أناس
عملوا في
الحقل السياسي العام، مرتكزين على وعي ثقافي ومعرفي لا تُدركه الغالبية
الساحقة من
سياسيي هذه المرحلة اللبنانية البائسة.
السفير اللبنانية في
22/08/2009 |