كان على مجموعة النقاد الذين تمت دعوتهم للمشاركة في ندوة ضمن مهرجان وهران
السينمائي أن يمعنوا التفكير كي يستوعبوا موضوع الندوة التي يجب عليهم أن
يدلوا بدلوهم فيها والتي أعلن عنها تحت عنوان “السينما العربية بين الرؤى
الكلاسيكية والرؤى الحديثة”، فالعنوان، في قراءته الأولى، يغري بالخوض في
مجال نظري مهم وضروري، خاصة وأن السينما العربية تفتقر إلى الدراسات
النظرية حولها حيث إن النقاد السينمائيين العرب ونتيجة لظروف المهنة،
يهتمون بنقد الأفلام أكثر مما يهتمون بالبحث النظري، لكن العنوان، لدى
التفكر في فحواه المبهم الشديد العمومية يدخل الباحث في دهاليز يصعب التكهن
بمساراتها ونتائجها.
هذا التخبط في دهاليز العنوان كان واقع الحال في الندوة التي كان مخططا لها
أن تعقد على مدى يومين بمشاركة ثمانية من النقاد أو الباحثين السينمائيين
العرب الذين كان عليهم أن يتداولوا في الموضوع في يومين متتاليين على مدى
جلستين نهاريتين تستمر كل منهما ثلاث أو أربع ساعات. لكن الأمور لم تسر كما
خطط لها حيث تم جمع الجلستين في جلسة واحدة تستمر نحو ثلاث ساعات، وسبب ذلك
رغبة وزير الثقافة في حضور الندوة ولقاء المدعوين وتكريمهم بعدها في وليمة
غداء. افتتحت الندوة بكلمة ترحيبية ألقاها رئيس المهرجان وأعطى بعدها
الكلمة للوزير وهو مثقف وأديب وباحث معروف قبل أن يكون وزيرا. كشف وزير
الثقافة في كلمته، والحق يقال، عن دراية جيدة بأحوال السينما العربية
المعاصرة وقضاياها المختلفة فنا وإنتاجا وتوزيعا، وهذا أمر يحسب لصالح وزير
ثقافة عربي كشف عن تميزه عن غيره من وزراء الثقافة العرب بحسن وتنوع
ثقافته، خاصة في مجال الثقافة السينمائية، لكن الوزير أطال الحديث الذي
حاول من خلاله أن يمر على كل ما يمكنه من قضايا سينمائية بسرعة أحيانا
وباستفاضة أحيانا أخرى، الأمر الذي استغرق ما يقرب من ثلث الزمن المحدد
للندوة التي يفترض أن يتحدث فيها ثمانية باحثين قبل أن يفتحوا باب الحوار
مع الحاضرين، دون أن يتاح لهم، بطبيعة الحال، الوقت الكافي لعرض أفكارهم
المتعلقة بموضوع أو عنوان الندوة.
بغض النظر عن الندوة وما جرى فيها، فإنه لمن المفيد التفكر في موضوع
الندوة، وتحديدا فيما يخص تعبير “الرؤى الكلاسيكية”. ظهر مصطلح الكلاسيكية
لأول مرة في القرن الثاني ميلادي، لكنه تبلور في صيغ محددة منذ أواسط القرن
الخامس عشر ميلادي عبر مجموعة أعمال إبداعية مسرحية وشعرية، وصفت
بالكلاسيكية الجديدة، استندت إلى أفكار أرسطو خاصة في كتابيه “فن الشعر”
و”فن الخطابة”، تأثرت بالأدب اليوناني القديم وتميزت بالبحث عن بنية منطقية
تتجاور فيها المهارة الحرفية أو الصنعة، مع الإلهام والموهبة، وتهدف إلى
الجمع بين المتعة والمعرفة، مع التركيز في القيمة الأخلاقية للعمل الأدبي.
مع مرور الزمن، ظهرت مدارس أدبية مختلفة تمردت على تقاليد المدرسة
الكلاسيكية، لكن مصطلح الكلاسيكية ظل شائعا وبات يطلق في مجالات الإنتاج
الإبداعي المتعددة مثل الأدب والفن التشكيلي والموسيقى، من دون أن يكون لها
سمة أو تابعية للمدرسة الكلاسيكية، حيث إن تعبير “الكلاسيكي” تخلص تدريجيا
من أصله وأصبح يحيل إلى مجرد القديم الراسخ بفعل التمتع بصفات ميزته وأسبغت
عليه شرعية تاريخية.
هكذا صار بالإمكان أن نطلق صفة الأعمال الكلاسيكية على أفلام سينمائية
عالمية صارت توصف بكلاسيكيات السينما، عل الرغم من أن السينما فن حديث
العهد بالمقارنة مع باقي الفنون والآداب الموغلة في القدم. كلاسيكيات
السينما العالمية هي الأفلام التي صنعها مخرجون كبار وأسست لفن السينما،
وتجمع بعضها ضمن مدارس سينمائية متميزة أسلوبيا، وكان لها، وما يزال، تأثير
كبير على تطور فن السينما اللاحق حتى يومنا هذا.
يعتبر بعض الباحثين في تاريخ الأدب العربي أن صفة الكلاسيكية في مجال
الإبداع العربي لا تنطبق إلا على الشعر، فإذا كان الأمر كذلك مع وجود تراث
أدبي عربي سردي وتراث فني لا نستطيع وصفه بالكلاسيكي، فكيف يصح إذن أن نطلق
هذه الصفة على أفلام سينمائية عربية ، خاصة مع تعذر العثور على أفلام عربية
مميزة ذات قيمة راسخة وتتمتع بقدرة تأثير خاصة على تطور السينما العربية
اللاحق، أو تسمح بتشكيل مدرسة سينمائية يقتدى بها؟
على كل حال، يظل هذا موضوعا للنقاش، وكان يمكن أن يحصل النقاش ضمن الندوة،
لكنه لم يحصل، وذلك على الرغم من أن من دعي إلى عقد ندوة “السينما العربية
بين الرؤى الكلاسيكية والرؤى الحديثة” واختار لها موضوعها، وعلى الرغم من
غموضه، انطلق، من دون شك، من نوايا طيبة، لكن الندوة التي اختصرت زمنيا
بحيث لم يترك فيها مجال للاجتهاد، ظلت مجرد فعالية احتفالية شكلية موازية
لمهرجان تعرض فيه الأفلام ويراد له أن يكتسب قيمة ثقافية فكرية إضافية. وما
جرى في هذه الندوة ينطبق على العديد من الندوات السينمائية التي سبق لي
التورط في قبول الدعوة للمشاركة فيها.
الخليج الإماراتية في
15/08/2009 |