حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

                          دراما رمضان التلفزيونية لعام 2012

أيقونة التمرد.. تحية كاريوكا

بقلم: ماهر زهدي

الحلقة ( 30 ) والأخيرة

لن أعود

لم تعبأ تحية كاريوكا بتقديم دور «نعيمة ألمظية» في فيلم «خلي بالك من زوزو» أمام سعاد حسني وحسين فهمي، وقبلت بكل جرأة أن تؤدي الدور وترقص على رغم وزنها الزائد، غير أن جمهورها قدرها ورفعتها الصحافة الفنية إلى عنان السماء، ونجح الفيلم ليكون الأول في تاريخ السينما المصرية الذي يستمر في دور العرض لمدة 52 أسبوعاً.

شاهدت تحية كاريوكا نفسها في فيلم «خلي بالك من زوزو» فشعرت بأن وزنها أصبح زائداً بشكل غير طبيعي، فبعدما كانت مثالاً للرشاقة وخفة الحركة، أصبحت قليلة الحركة، كبيرة الحجم والوزن، ما جعل المخرجين لا يفكرون فيها إلا عندما يحتاجون إلى شخصية بمواصفات تحية الجديدة، على رغم أن فنانات في مثل عمرها كانت ما زالت تُسند إليهن أدوار الحب وشخصيات رئيسة تكون محور الأعمال، مثل مديحة يسري، ليلى فوزي، سامية جمال، مريم فخر الدين، وغيرهن. لكن بسبب وزن تحية الزائد تم حصرها في نوعية واحدة من الأدوار، سواء «الأم» أو «الراقصة المعتزلة» مثلما فعل معها حسن الإمام في فيلمه السابق «خلي بالك من زوزو» وفيلمه الجديد «السكرية».

إن كان وزن تحية الزائد وقف عقبة أمامها في تقديم أدوار متنوعة ومختلفة، فإنه لم يعقها من أن تعود إلى سابق عهدها في النشاط والقيام بدور وطني، فبمجرد أن اتخذ الرئيس أنور السادات قرار خوض معركة استرداد الأرض والكرامة المصرية، في 6 أكتوبر عام 1973، حرصت أن تكون كعادتها في طليعة المتطوعين، وانضمت إلى الهلال الأحمر، وساهمت في علاج الجرحى والمصابين، بل وعملت على جمع التبرعات للمجهود الحربي.

بانتصار مصر في معركة الكرامة والتحرير، بدأت مرحلة جديدة مع عصر الرئيس السادات، الذي راح ينتقد عهد سلفه الزعيم الراحل جمال عبد الناصر بقوة وعنف، ما انعكس على السينما بشكل واضح، وكأن هناك توجيهاً غير معلن، لإظهار مساوئ هذا العصر، حتى لو بلي عنق الحقيقة، فشاركت تحية في أفلام تؤكد على عصر مراكز القوى، عام 1975 في فيلم أنتجته الفنانة الشابة ماجدة الخطيب بعنوان «زائر الفجر»، للمخرج ممدوح شكري، وفي العام التالي قدمت فيلم «الكرنك» أمام سعاد حسني ونور الشريف وفريد شوقي، للمخرج علي بدرخان، بعده قرر الرئيس السادات تكريمها ومنحها جائزة في عيد الفن هي والفنان فريد شوقي، وتصادف أن صعدا معاً إلى منصة التكريم، فصافحها الرئيس وأثنى عليها وعلى تاريخها الوطني المشرف، ومشوارها النضالي والفني، ثم راح يذكرها بما قامت به معه قبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية:

= أهلا يا تحية… صحتك عاملة إيه؟

* الحمد لله يا ريس.

= فاكرة يا تحية لما خبتيني عند أخواتك في الإسماعيلية لما كنت هربان من السجن.

* انت لسه فاكر يا ريس! فعلاً فضلت تشتغل هناك فترة يمكن أكتر من سنة.

= طبعاً… دي أيام هايكتبها التاريخ عمري ما هانساها.

ضحك فريد شوقي، وكان واقفاً إلى جوار تحية يتسلم جائزته، وأراد التدخل بخفة دمه المعهودة ليمزح مع الرئيس فسأله:

- على كدا كانوا بيدفعولك كويس يا ريس؟

= (ضاحكاً) طبعاً… أصلهم ناس كرما جداً والله يا فريد. وكلهم جدعان كدا زي تحية… صحيح يا تحية انت مش عايزة حاجة؟ فيه حد مزعلك… لك أي طلب؟ أطلبي أي حاجة.

* أشكرك يا ريس… هو بس فيه حاجة كنت عايزة أطلبها من سيادتك. مش ليا… لكن للفنانة الكبيرة زينات صدقي. زينات يا ريس كبرت وما بقتش تشتغل ومريضة وبتمر بظروف قاسية أوي. يا ريت يا ريس تأمر لها بمعاش تقدر تعيش منه.

= يتنفذ فوراً… ويصرف لها معاش استثنائي. لكن انت مش عايزة أي حاجة؟

* كتر خيرك يا ريس.                                         

على رغم إعجاب تحية بالرئيس السادات، ككل المصريين بعد حرب أكتوبر، إلا أنها كانت أول من عارضه أيضاً كمعظمهم بمجرد أن أفصح عن نيته في إبرام «معاهدة سلام» مع العدو الصهيوني، وذهلت وهي تراه يمد يده ليصافح السفاحين قتلة الأبرياء والأطفال، خصوصاً في مدرسة «بحر البقر الابتدائية» التابعة لمحافظة الشرقية، وكانت تحية أيضاً في طليعة الكتاب والمثقفين والفنانين الذين عارضوا فيها السادات على هذه الخطوة، ليظل الخلاف قائماً حتى مصرعه عام 1981.

في منتصف عام 1981، وعبر وجودها الدائم في النقابة ومتابعتها المستمرة لكل كبيرة وصغيرة، اكتشفت تحية بعض الاختلاسات المالية في حسابات نقابة الممثلين، فأبلغت النيابة عنها، ما أدى إلى استقالة نقيب الممثلين في ذلك الوقت الممثل زكريا سليمان وأصدر سعد الدين وهبة، رئيس اتحاد الفنانين، قراراً بأن تتولى تحية منصب نقيب الممثلين موقتاً إلى حين انتخاب نقيب جديد خلف النقيب المستقيل في إدارة شؤون النقابة.

دعت كاريوكا إلى اجتماع طارئ للجمعية العمومية للنقابة، التي وافقت على استقالة نقيب الممثلين ومعه جميع أعضاء النقابة، مع دعوة الأعضاء إلى انتخاب مجلس جديد للنقابة… ونجحت كاريوكا بمفردها في إدارة شؤون النقابة لمدة ثلاثة أشهر كاملة، قامت فيها بأدوار النقيب وكل أعضاء مجلس النقابة وأمين الصندوق والسكرتير العام معاً، وهي امرأة بلغت من العمر 66 عاماً!

أثناء ذلك، اكتشفت تحية مخالفات كثيرة وتلاعباً في جدول الأعضاء، إذ فتح مجلس النقابة المستقيل الباب أمام أدعياء الفن ليصبحوا أعضاء في نقابة الممثلين، فأصبح بواب العمارة وسايس الجراج وسائق التاكسي أعضاء فيها، وهم كانوا أصحاب أدوار «الكومبارس الصامت» في الأعمال الفنية، فدعت تحية إلى تنقية جداول القيد من أدعياء الفن، فناقشها الفنان حمدي غيث في أمر استبعاد بعض الأعضاء وأن هذا سيوحي بأنها تتخذ موقفاً من الكومبارس، وهم من تقوم على أكتافهم صناعة الأعمال الفنية:

* أنا مش ضد الكومبارس. بالعكس أنا في صفهم… وما تنساش أني بدأت حياتي كومبارس. وأنت كمان… وكل فنان مشهور بدأ حياته كومبارس.

= طيب تبقى إيه المشكلة؟

* المشكلة أن البهوات اللي كانوا ماسكين النقابة فتحوا الباب للبوابين والسواقين بتوعهم ودخلوهم النقابة… وهم ما لهومش علاقة بالتمثيل أصلاً. علشان كدا لازم ننقي كشوف القيد من الأشكال دي والأدعياء. الناس اللي ما لهومش صلة بالفن ولا التمثيل.

جاء موعد الانتخابات ورفضت تحية كاريوكا ترشيح نفسها لمنصب النقيب، لتعطي الفرصة لمن هم أكثر قدرة منها على العمل والحركة لخدمة زملائها الفنانين، وضربت بذلك المثل في إنكار الذات… بعدما ضربت المثل في الدفاع عن حقوق الممثلين… والفنانين المصريين.

مع تقدمها في السن وزيادة وزنها بشكل ملحوظ، بدأت العلاقة الزوجية بينها وبين زوجها فايز حلاوة يشوبها الفتور، ولاحظت تغيراً كبيراً معها، فبحثت عن الأسباب واكتشفت ما كانت تعتبره ظناً، حتى تأكدت منه، ففاتحته في الأمر:

* فيه حاجة كنت عايزة أكلمك فيها.

= بعدين بعدين… مش وقته.

* دي حاجة تخصني أنا وأنت ولازم أكلمك فيها.

= والحاجة دي ما تستناش للصبح؟

* وليه؟ أنا مش شايفاك مشغول أنت قاعد بتتفرج على التليفزيون… يعني ما بتعملش حاجة مهمة.

= أنت هاتديني محاضرة. اتفضلي قولي اللي عندك.

* إيه حكاية البنت المذيعة دي… صحيح انت على علاقة بيها؟

= أنت جبتي الكلام دا منين؟

* مش مهم منين… المهم صحيح ولا لأ؟

= أنت بتحققي معايا ولا بتسأليني؟

* اعتبر اللي تعتبره.

= أنا ما حدش يحقق معايا. أنا حر أعمل اللي أعمله.

* لا مش حر. أنت متجوز وليا حقوق وما سمحش لحد يمس حقوقي.

= أنت لسه عندك حيل تسمحي ولا ما تسمحيش.

* آه… قول كدا بقى. انت بتقول إنها كبرت وعجزت ومش هاتقدر تعمل معايا حاجة.

= ولو ما كبرتيش هاتعملي إيه؟ أنا أهه باعترف قدامك أني بحبها وكمان هاتجوزها… وريني هاتعملي إيه؟

* هي البجاحة وصلت لحد كدا؟

= لا عندك. كلمة واحدة زيادة هارميك في الشارع.

* الشارع دا أنا اللي جبتك منه وعملتك فنان ومخرج.

= (صفعها) اخرسي.

* أنت بتضربني يا فايز؟

= وأقطع لسانك كمان.

* طلقني… أنا مش ممكن أعيش معاك لحظة واحدة بعد كدا.

= ياااه… دا يوم المنى.

* وإيه اللي غاصبك… ما تطلقني.

= كدهه… بسهولة.

* تقصد إيه؟

= نتحاسب وكل واحد ياخد حقه.

* انت ما لكش حقوق عندي… انت دخلت البيت دا من غير شنطة هدوم… وهاتخرج زي ما دخلت.

= هاهاها… ضحكتيني. بيت إيه اللي هأخرج منه. انت بتحلمي. دا بيتي… وإذا كنت سمحت لك تعيشي فيه الفترة اللي فاتت فدا من ذوقي وفضلي… لكن أنا ممكن أطردك منه دلوقت في الشارع.

* انت اتجننت… دا بيتي اللي عملته بعرقي وفلوسي… كل ركن فيه دفعت تمنه من دمي وراحتي وصحتي… انت اللي لازم تخرج للشارع.

= لا دأنت زودتيها أوي…

راح فايز حلاوة يوسع تحية كاريوكا ضرباً، صفعات وركلات، ثم طردها من بيتها ولم يمهلها حتى كي تأخذ حقيبة ملابسها، بل طردها بملابس النوم، فاضطرت إلى النزول من «سلم الخدم» كي لا يراها سكان العمارة. خرجت من الباب الخلفي واستوقفت سيارة أجرة، واتجهت فوراً إلى بيت ابنة أختها رجاء الجداوي، التي ما إن فتحت الباب ووجدت خالتها على هذه الهيئة من البكاء والانهيار حتى عرفت أن كارثة وقعت، وبعدما هدأت في مساء اليوم التالي، حكت لها ما جرى:

= معقولة يا طنط… أنكل فايز يعمل معاك كل دا؟ أنا مش مصدقة اللي أنا شايفاه وسمعاه.

* أنا مش مستغربة اللي عمله… لأني كنت حاسة بيه من أول شهر من الجواز. من ساعة ما طلب أكتب الشقة باسمه. ساعتها الفار لعب في عبي… وكدبت نفسي… لأول مرة كنت بكدب إحساسي اللي عمره ما كدب عليا. مش عارفة ليه ما كنتش عايزة أصدق إحساسي. يمكن لأني كنت تعبت وزهقت من كتر الجواز والطلاق. يمكن كان عندي أمل أن الحياة ممكن تبتسم لي أخيراً وأستقر ويبقى عندي بيت وزوج وعيله وأولاد زي كل الناس… مش عارفة.., ما عملتش حساب الزمن. اديت كل حاجة من غير حساب. عارفة لو كنت شيلت جنيه من كل فلوس كسبتها… كان زماني بمتلك نص مصر.

= والناس كانت فاكرة أنك استفدتي من جوازاتك دي.

* التلاتاشر جوز استفادوا مني… وأنا ما ستفدتش حاجة.

= تلاتشر يا طنط.

* عارفة انهم كتير… بس أنا كنت باتجوز لأني مش عايزة أغلط. ما عرفش حاجة اسمها علاقة غرام. علشان كدا اتجوزت تلاتاشر مرة… ولو رجع بيا الزمن مش هاختار إلا واحد بس هو اللي كنت أتمنى أكمل معاه حياتي.

= صحيح يا طنط… مين أكتر واحد من اللي اتجوزتيهم حبتيه بجد؟

* كلهم مفيش حد فيهم حبني بجد… كل واحد فيهم حب فيا حاجة. اللي حبني علشان الشهرة واللي علشان فلوسي واللي علشان أساعده وأشهره… واللي كان عايز يعملني جارية وخدامة تحت رجليه ويشتريني بفلوسه. الوحيد اللي حب تحية الإنسانة وأنا حبيته من كل قلبي، هو رشدي أباظة… وعمري ما ندمت في حياتي على حاجة قد ما ندمت على أني طلبت منه الطلاق.

= بصراحة ما فيش واحدة ما تحبش رشدي أباظة.

* نامي يابت.

في صباح اليوم الثالث، أصرت تحية على مغادرة منزل رجاء، إذ لم ترض أن تعيش في بيت أحد… حتى ابنة أختها التي ربتها وأنفقت على تعليمها:

= أنت بتقولي إيه يا طنط؟ يبقى بيتي مفتوح لك وتروحي تنزلي في لوكاندة ولا بنسيون؟

* أنا لا هانزل في لوكاندة ولا بنسيون… أنا عايزاك تشوفي لي شقة صغيرة أجرتها بسيطة. حتى لو كانت أوضة وصالة.

= ما ينفعش يا طنط… الناس تقول إيه؟

* هو دا اللي يهمك؟ كلام الناس… عموماً دي رغبتي ومستعدة أعلنها قدام أي حد.

فعلاً، استأجرت تحية كاريوكا شقة صغيرة، عبارة عن غرفة وصالة صغيرة، فوق سطح إحدى عمارات منطقة العجوزة، وما إن استقرت في بيتها الجديد حتى بدأت رحلتها لاستعادة حقها المنهوب، شقة الزمالك التي تطل على النيل، كل مصاغها ومجوهراتها، ملابسها وملابس أدوارها في أفلامها، صورها الخاصة وذكرياتها وصورها الفنية… بل إن صح التعبير كل حياتها، ماضيها وحاضرها… حيث بقيت وحيدة بلا مستقبل.

لم تعرف تحية كاريوكا الانكسار حتى في أحلك الظروف، ولا الهزيمة ولا الاستسلام، فقررت أن تبدأ مجدداً بعد سن السبعين من عمرها، وسرعان ما عادت إلى فنها، خصوصاً بعد تعاطف الوسط الفني كله معها، تحديدا شادية، سمير صبري، نادية لطفي، وأول من مد يده إليها من المخرجين كان يوسف شاهين، لتعمل معه في فيلم «الوداع يا بونابرت»، وسمير سيف في «المطارد».

سارت تحية في اتجاهين لاستعادة حقها، طريق قانوني عبر القضاء، وطريق الوساطة عبر تدخل المقربين وأهل الحكمة والكلمة، فطلبت من فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي التدخل لدى فايز حلاوة للحصول على حقها وتطليقها.

بذل الشيخ جهوداً خارقة مع فايز حلاوة، حتى وافق على منح تحية حريتها وتطليقها، لكن بشروطه ولا شروطها، وأهمها عدم ترك شقة الزمالك باعتبارها ملكاً خالصاً له، كما أكد أنها لم تكن تملك مجوهرات، ووافق على إعادة بعض ملابسها، واشترط أن تعمل معه على إعادة مسرحياتهما معاً التي قدمت من خلال فرقة «تحية كاريوكا» في «ريبورتوار» لتصويرها تلفزيونيا.

خرجت تحية من رحلة زواجها من فايز حلاوة، التي استمرت أكثر من 22 عاماً، كما يقول المثل المصري «من المولد بلا حمص»… ليس في ما تناله الزوجات من أزواجهن من حقوق عند الطلاق، لكن الأهم أنها لم تنل حقها في ثروتها الشخصية التي كونتها على مدار أكثر من نصف قرن، من شقة وأموال ومصاغ، إضافة إلى تاريخها الفني المتمثل في ملابسها التي صورت بها غالبية أعمالها، وصورها في مراحلها الفنية كافة، مكتفية بحصولها على حريتها التي حرصت طيلة حياتها على ألا يقترب أو ينتقص منها أحد.

حياة طويلة مليئة بالانتصارات والانكسارات تركت بصماتها بشكل واضح على تحية، غير أنها لم تستطع أن تحبطها أو تكسرها، وعلى رغم كل ما مرت به وقفت على قدميها، وراحت تبدأ مجدداً، كي لا تضطر إلى مد يدها، فإذا كانت قد فقدت كل شيء، فإنها كانت حريصة كل الحرص على كرامتها وعزة نفسها.

شاركت تحية في أكثر من فيلم، من نوعية الأدوار التي تعتمد فيها السينما المصرية على فنانيها عندما يتقدمون في السن، والتي تنحصر غالباً في أدوار «الأم» التي قد تنطبق على أي فنانة، لكنها حرصت على أن تضع بصمة واضحة في هذه الأدوار، فشاركت في «المطارد» مع المخرج سمير سيف، «للحب قصة أخيرة» مع رأفت الميهي، «انتحار صاحب الشقة» مع المخرج أحمد يحيى، ثم «عصر الحب» مع صديقها القديم المخرج حسن الإمام، غير أن ما استوقفها كثيراً دورها في فيلم «آه يا بلد آه» للكاتب سعد الدين وهبة والمخرج حسين كمال.

توقفت تحية طويلاً أمام دور «السنيورة» في فيلم «آه يا بلد آه»، مرّ الشريط أمامها سريعاً، شعرت بأنه يلخص تاريخ مصر النضالي، بل ويلخص كل حياتها، فما إن انتهت من تصويره حتى بكت، ليس ندماً على ما فات، لكن لقدرتها على الصمود بعد كل ما مر بها، واقفة تعتز بنفسها وبحريتها، والأهم صدقها مع نفسها.

لم تتوقف تحية عن العمل والعطاء، بل كانت تبدو أقوى من السابق، وإن حرص بعض الزملاء أن يكونوا بجوارها يمدون لها يد العون من دون التصريح بذلك مباشرة، وهو ما فعله سمير صبري الذي ساعدها واستفاد من خبرتها الطويلة، فما إن كون شركة إنتاج خاصة به حتى حرص على أن تشاركه باكورة إنتاجه، فيلم «منزل العائلة المسمومة». وقفت تحية أمام الكاميرا بكل شموخ وكبرياء، لتثبت للجميع أنها لا تزال موجودة وقادرة على العطاء.

… وللحب قصة أخيرة

ومع بلوغ تحية كاريوكا عامها الثاني والسبعين في عام 1987، بدأ قلبها يخفت ونبضها يسرع منذراً بقدوم ذلك الشيء الذي ظلت تخشاه طوال عمرها وهو «المرض»، وبدأت شكواها من قلبها الذي بدأ يتوجع ويتألم مثلما تتألم روحها من المناخ الذي ساد الوسط الفني آنذاك، وعلى رغم ذلك لم تتوان بمجرد أن ذهب إليها المخرج الشاب مجدي أحمد علي، يعرض عليها مساندتهم في اعتصام الفنانين في نقابة السينمائيين، احتجاجاً على صدور القانون 103 للنقابات الفنية.

وجهزت تحية كاريوكا حقيبة ملابسها واتجهت إلى مقر نقابة السينمائيين، للاعتصام مع المعتصمين، من بينهم يوسف شاهين وتوفيق صالح، محمد فاضل، علي بدرخان، وغيرهم، بسبب ما فعله الكاتب سعد الدين وهبة، من التأثير على بعض أصدقائه من البرلمانيين، حتى استطاع انتزاع قانون اشترط أن يكون رئيس الاتحاد من غير المرشحين لعضوية أحد مجالس الإدارة أو لمنصب النقيب في إحدى النقابات الفنية من المجالس القديمة… وأن يكون قد أمضى في المهنة 20 عاماً على الأقل… فعلقت تحية كاريوكا ساخرة:

* ناقص يقول القانون «وأن يكون اسمه سعد الدين وهبة»! صدور القانون من وراء ضهر الفنانين… يقول إن الحكومة ما بتحترمش الفنانين ولا بتعترف بوجودهم.

لم تكتف تحية بالمشاركة في الاعتصام، بل إنها قررت الإضراب عن الطعام، وهي في هذه السن لتتزعم المعتصمين، لأن مواد القانون الجديد لم تراع مصلحة الأعضاء، لأنها أطلقت مدة «النقيب» من دون تحديد، على عكس القانون السابق الذي لم يكن يسمح للنقيب بالترشح لأكثر من دورتين متتاليتين.

بعد مرور خمسة أيام من الاعتصام والإضراب، بدأ قلبها يعيش حالة غضب وتوتر دائمين، على إثر ذلك تدهورت حالتها الصحية ونقلت للعلاج في مستشفى القوات المسلحة في المعادي، فاضطر الرئيس محمد حسني مبارك إلى التدخل لحل مشكلة النقابة.

نضال في السبعين

على رغم تخطيها السبعين من عمرها، إلا أن روحها لم تعرف الهدوء والاستكانة، ولم تعلن ابتعادها عن ساحة النضال الوطني مكتفية بما قدمت لتفسح الطريق لغيرها، بل أبت تحية إلا أن تكون في مقدمة الصفوف عندما يستدعي الأمر ذلك، وعندما علمت صدفةً عام 1988 أن يوسف شاهين وعلي بدرخان ونور الشريف يستعدون للسفر إلى قبرص ليحلوا ضيوفاً على منظمة التحرير الفلسطينية في مهرجان يقام هناك تأييداً للانتفاضة الفلسطينية، قررت على رغم مرضها وتقدمها في السن السفر معهم من دون استعداد.

في قبرص شاركت تحية نور الشريف في إلقاء القصائد الحماسية عن ثورة الحجارة في إحدى دور السينما، ثم نزلت إلى الصالة لجمع التبرعات من الحاضرين ودعم الانتفاضة… وبدأت بنفسها تتبرع بجنيه من الذهب الخالص يحمل صورة أم كلثوم كانت قد أهدته لها قبل وفاتها… وعرضت الجنيه في مزاد علني فاشتراه أحد الأثرياء العرب بمبلغ كبير… وفي نهاية المزاد أصر الرجل على إعادته إلى تحية ومعه «مسبحة» كهدية منه تقديراً لدورها في خدمة القضايا العربية.

بعد ذلك قدم أطفال الحجارة بعض العروض الفنية التي ترمز إلى الانتفاضة، وفي نهاية المهرجان سافرت كاريوكا إلى اليونان لتستقل «سفينة العودة» الفلسطينية… ومعها أعداد كبيرة من المثقفين والفنانين من جميع أنحاء العالم، استقلوا سفينة العودة التي كان من المفترض أن تبحر من أثينا إلى فلسطين تأييداً لحق الشعب الفلسطيني في العودة إلى وطنه… وحضرت الممثلة فينسيا ردغريف التي عرفت بحماستها الشديدة للقضية الفلسطينية لتشارك في رحلة العودة، والتقت تحية كاريوكا.

قبل أن تبحر السفينة من اليونان… نسفتها المخابرات الإسرائيلية بينما كانت ترسو في المياه اليونانية انتظاراً للحظة الإبحار في رحلة العودة إلى فلسطين، ما أصاب الجميع بالرعب والخوف، فماذا لو أنهم كانوا فيها، غير أن تحية قالت:

* أخاف من إيه؟ هي موتة ولا أكتر… وبعدين وإيه يعني لما نموت؟ إحنا مش أحسن من أطفال الحجارة. بالعكس هم أفضل مننا. إحنا بنتكلم وبنهتف ونندد. لكن هم بيواجهوا وبيموتوا… واللي ملوش حظ منهم ويموت معاهم. بيموت كل لحظة من القهر اللي بيشوفه.

عند عودتها إلى القاهرة، استقبلتها الصحف المصرية بلقب جديد أضيف إلى ألقابها، إذ أطلقت عليها الصحافة المصرية «فينسيا ردغريف العرب» ورددت تحية على الصحافة:

* أنا بحب الفنانة العالمية فينسيا ردغريف واحترمها… لأنها فنانة عندها ضمير ونذرت حياتها للدفاع عن القضية الفلسطينية على رغم أنها بريطانية… مش مصرية ولا عربية. ومع كل احترامي لها… لكن أنا أفضل أن أكون «تحية كاريوكا».

كما أرادت دوماً… أبت تحية إلى أن تكون تحية كاريوكا، لم يكن هدفها أن تكون بطلة، لكن المخرج يوسف شاهين كان قد سجل ما قامت به خلال أحداث نقابة السينمائيين، وحرص على أن يخلد هذا الموقف الوطني لكل أعضاء النقابة الأحرار الذين وقفوا في وجه القانون الغابر، فضمَّن هذا الموقف في أحداث فيلمه «إسكندرية كمان وكمان».

تحية وإدوارد سعيد

لم تكن مواقف تحية الأخيرة إلا استكمالاً لما فعلته طيلة حياتها ومشوارها الإنساني والفني، غير أن ذلك زاد من علامات التعجب حول هذه السيدة القديرة، ومن التقدير لشخصيتها، ووضعها في مكانة خاصة منفردة، ما جعل مفكراً عربياً في قامة إدوارد سعيد يطلب مقابلتها عندما زار القاهرة لإلقاء محاضرة في الجامعة الأميركية.

لم يكن سبب اللقاء استعادة ذكريات صباه، أو تذكر أيام شبابه في القاهرة، إنما كان يبغي تصوير فيلم وثائقي عن حياته وتطورات مشروعه الثقافي والسياسي، وأراد أن يبدأ من القاهرة، من لحظة تعرفه أول مرة على تحية كاريوكا وهي ترقص في «كازينو بديعة مصابني» بوصفها إحدى الشخصيات التي أثرت في شبابه تأثيراً كاملاً.

لم تكن تحية التي التقى بها إدوارد سعيد آنذاك هي التي شاهدها منذ أكثر من نصف قرن في كازينو بديعة، أو حتى التي شاهدها في الأفلام المصرية، بل وجد سيدة تخطت السبعين من عمرها بجسد مترهل، تضع حجاباً على رأسها، إلا أن روحها لا تزال كما هي، إخلاصها لوطنها ولعروبتها كما هو، فجاء لقاؤهما صاخباً إلى حد ما، إلا أنه كان مستمتعاً جداً ومشغوفا بأحداث حياتها وزيجاتها ومواقفها السياسية، وقد اعترف لها صراحة بأنه وجدها على رغم كبر سنها وبدانتها أجمل بكثير مما كان قد تصورها قبل أن يراها.

لكن تصوير العمل لم يتم، فبعدما سافر إدوارد سعيد إلى أميركا أصيبت تحية كاريوكا بنوبة قلبية، وبدلاً من أن يأخذ شهادتها خلال فيلمه، كتب عنها مقالاً بديعاً، وضع له عنوان «تحية إلى تحية»، كتب نصه الرائع ليمر ببلاغته العذبة على مرحلة كاملة من الثقافة الشعبية في مصر، فكان من بين ما جاء فيه:

«تحية كاريوكا مثل أم كلثوم، تحتل موقع الرمز المرموق في الثقافة الوطنية المصرية، ترى تحية كاريوكا، وهي على صواب كما أظن، إنها جزء من نهضة ثقافية أساسية… وحركة إحياء وطني في الفنون ارتكزت على حركة سعد زغلول الليبرالية المستقلة وعلى ثورة 1919… وكانت الشخصيات الفنية تتضمن نجيب محفوظ… وتوفيق الحكيم وطه حسين… ومغنين من أمثال أم كلثوم وعبد الوهاب… وممثلين مثل سليمان نجيب ونجيب الريحاني.

وتحية لا تنتمي إلى صنف الفتيات الهامشيات أو الساقطات المصنفات وفق ثقافة يسهل التعرض لها… بل إلى عالم النساء التقدميات اللائي يحاذين أو يتجاوزن الأسوار الاجتماعية. لكنها ظلت مرتبطة على نحو عضوي بمجتمع بلادها لأنها اكتشفت لنفسها دوراً أكثر أهمية كراقصة مشاركة في الحفلات العامة… متجاوزة في ذلك دور «العالمة» المأثور الذي لا ينسى، والذي تحدث عنه زوار الشرق الأوروبيون من أمثار إدوارد لين وفلوبير في القرن التاسع عشر… وكانت العالمة «محظية» من نوع خاص… ولكنها، العالمة، صنعت امتيازات ذات مغزى… وكان الرقص واحدا من مواهبها… أما المواهب الأخرى فتضمنت غناء وإلقاء الشعر القديم وإلقاء النكات والخطب التهكمية… وإيقاع رجال القانون والبلاط والسياسة والأدب في إغواء مسامراتها.

كانت تحية كاريوكا شعاراً لكل ما هو غير خاضع للإدارة والانضباط في ثقافتها… ولهذا كان مسار «العالمة» والراقصة والممثلة هو الحل الأمثل لتلك الطاقات.

ويمكن تليخص شخصية تحية كاريوكا في كلمة واحدة هي «الاستقلال» والاعتداد بالنفس… ولا شيء غير ذلك}.

وجدت تحية أن النجمة التي عاشت أكثر من نصف قرن في الأضواء قد ابتعدت عنها، ولأنها كانت متمردة حتى على نفسها، فابتعدت هي أيضاً عن هذه النجمة، وراحت تبتعد عنها بإرادتها، فاقتربت أكثر من تحية الإنسانة، غير أنها راحت تحاكمها عن مجمل تاريخها، ولم تجد ما تفعله سوى أن تصلي وتصوم وترعى أعمال الخير، وتدعو ربها بالشفاء.

فاعلة الخير

لم تلجأ تحية إلى ربها فجأة في نهاية العمر، بل كانت حريصة طيلة عمرها على أن تذكر نفسها بالله، لدرجة إنها أدت فريضة الحج 20 مرة، واعتمرت على مدار حياتها ما يقرب من 45 مرة، غير أنها أخيراً قررت التفرغ تماماً للعبادة، حتى أصبح المصحف الشريف لا يفارقها، كما حرصت على أداء الصلوات الخمس في أوقاتها وهي تجلس على كرسيها المتحرك، بل وحرصت على صيام الأشهر الثلاثة رجب وشعبان ورمضان، وفي هدوء وتكتم شديدين كانت تقيم «مآدب الرحمن» في شهر رمضان، وترسل من ينوب عنها لإقامة ولائم في المناسبات الدينية في مساجد السيدة زينب وسيدنا الحسين، ومسجد السيدة نفيسة الذي كانت تتردد عليه بشكل دائم، وكلما سمحت الظروف تحرص على الذهاب إلى طنطا لحضور مولد السيد أحمد البدوي، الذي ذهبت إليه هذا العام قبل موعده بثلاثة أيام، وظلت هناك حتى انتهائه.

وبينما كانت تحية تحضر مولد السيد البدوي، اتصلت صاحبة المنزل الذي تسكن فيه تحية برجاء الجدواي، وأخبرتها أن تأتي لتأخذ متعلقات خالتها، لأنها أخلت الحجرة التي تشغلها، ولأنه لم يكن هناك عقد مكتوب بينها وبين تحية وهي تريد أن تسترد الحجرة، أحضرت المرأة قوة من الشرطة وفتحت الحجرة وأخرجت متعلقات تحية.

علمت فاتن حمامة بالخبر من خلال أحد الصحافيين، فاتصلت برجاء الجداوي:

= فين تحية يا رجاء؟

- في مولد السيد البدوي.

= طيب أنا عرفت بموضوع الست صاحبة الشقة اللي تحية قاعدة فيها وأنها خرجت حاجتها بره وعايزة تطردها وتاخد الشقة.

- أيوا انت عرفت… أنا مش عارفة أعمل إيه ولما ترجع هاقولها إيه… وهي رافضة تقعد عندي.

= ما تقوليش حاجة. فيه سيدة فاضلة محترمة… شيخة من الأسرة الحاكمة في الكويت كانت موجودة معايا لما عرفت الخبر… جوزها له مكتب في شارع التحرير بالدقي… أول ما عرفت قررت تحول المكتب لشقة وفرشتها لتحية تسكن فيها طول حياتها.

- ربنا يخليها. كتر خيرها… مين هي الست دي… لازم نشكرها.

= بعدين لما تيجي تحية. المهم دلوقت تعالي خدي المفتاح علشان تروحي الشقة تشوفي ناقصها إيه.

عادت تحية من مولد السيد البدوي، علمت بما حدث، غير أن رجاء أخبرتها بالعرض الذي قدمته لها الشيخة الكويتية، جلست وبكت:

* جه عليا اليوم اللي ممكن أشحت فيه مكان أعيش فيه.

= أوعي تقولي كدا. انت عندك بدل البيت عشرة. بس انت اللي مش راضية.

* منه لله… بعد ما كان عندي بيت مش عند أي حد… يخليني أتسول بيت في آخر أيامي.

= طنط. انت طول عمرك قوية وصامدة… وعمر ما فيه حاجة كسرتك… وعمرك ما بصيتي وراك ولا ندمتي على حاجة.

* لا. دلوقت أنا ندمت. ندمت على كل الجوازات اللي اتجوزتها. إلا رشدي الله يرحمه… وندمت أني اشتغلت بالفن… ولو العمر رجع بيا تاني هاختار أني أكون ست عادية أتجوز من راجل واحد بحبه وأقضى معاه كل حياتي.

= ياه… للدرجة دي؟

* أيوا واكتر… عموماً أطلبي فاتن علشان أحدد معاها معاد نروح نشكر الست العظيمة دي اللي ما تعرفنيش وعملت كدا.

= إزاي ما تعرفكيش. الوطن العربي كله يعرف تحية كاريوكا وبيحبها فوق ما تتخيلي.

عطية الله

لم يمر أسبوع على وجود تحية في شقتها الجديدة حتى فوجئت بما لا تتوقعه، ففي أثناء خروجها من باب الشقة فجر يوم الجمعة لتذهب إلى مسجد السيدة نفيسة، إذا بها تجد طفلة رضيعة ملفوفة في قطعة من القماش وقد وضعت أمام باب شقتها، أخذتها واتصلت فوراً بفضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي:

* أيوا يا فضيلة الشيخ… لقيتها قدام باب شقتي… شكلها عندها شهرين تلاتة بس.

= أنت عندك مقدرة أنك تتكفلي بيها؟

* مش عارفة أقولك إيه يا فضيلة الشيخ. انت عارف إني كبرت في السن ودخلي على قدي… بس بيني وبينك أنا أتعلقت بالبنت دي وعايزا أخليها معايا.

= خلاص خليها. ورزقك ورزقها على الله… يا تحية أنا عايز أقولك أن ربنا بعتلك عطية من عنده. البنت دي هاتكون إن شاء الله مفتاحك للجنة يا تحية.

ملأت هذه الطفلة حياتها، وأطلقت عليها اسم «عطية الله» وهو الاسم الذي اختاره لها الداعية الإسلامي الشيخ محمد متولي الشعراوي.

في 6 سبتمبر عام 1999، دخلت تحية المستشفى للعلاج من ضيق في التنفس والآم في المعدة، فوراً زارها سكرتير عام نقابة المهن التمثيلية الفنان المخرج أشرف زكي، وعرض عليها تقديم مساعدة من النقابة:

* في فنانين أحق مني ومحتاجين أكتر مني.

= بس يا مدام تحية دا حقك. النقابة يشرفها أنها تقف جنب فنانة كبيرة زيك في ظروف زي دي.

* أنا عارفة. بس كمان شايفة أن فيه فنانين حالتهم أصعب من كدا بكتير. خليكم جنبهم… أنا عارفة يا أشرف أنك جدع أوي وخدوم.

رفضت تحية العلاج على نفقة النقابة، على رغم تدهور حالتها الصحية، وسرعان ما زاد عليها المرض، وأصيبت بنوبات قلبية متكررة، ما استدعى دخولها العناية المركزة لأيام عدة، حيث اكتشف الأطباء إصابتها بنزيف حاد نتيجة وجود ثلاث قرحات في الاثنى عشر، وكسل عضلة القلب. قرر الأطباء منعها من أدوية سيولة الدم التي كانت تتناولها باستمرار، وتم وضعها على جهاز التنفس الصناعي.

ما إن أفاقت حتى وجدت ابنة أختها رجاء بجوارها، نظرت إليها وابتسمت قائلة:

* عمرى ما فكرت أبني فيللا أعيش فيها… لكن بنيت مدفن حلو أوي علشان أموت فيه.

ثم راحت في غيبوبة مجدداً، وعندما أفاقت لم تستطع أن تتكلم، غير أنها طلبت أن تكتب، فأحضرت لها ورقة، فكتبت عليها: فيفي.

= ما لها فيفي؟ فيفي في المهرجان في إسكندرية. عايزة حاجة منها؟

أشارت تحية إلى عطية الله، وكأنها تقصد أن تتكفل فيفي عبده بعطية الله، فأرادت رجاء أن تطمئنها:

= إن شاء الله ما حدش هايربيها ويجوزها إلا انت… بكره إن شاء الله تقومي بالسلامة وتربيها وتفرحي بيها.

أشارت تحية بأصبعها بما يعني «لا»، ثم دخلت في غيبوبة، وظلت في العناية المركزة لمدة أسبوع كامل… حتى أراد الله أن يختارها إلى جواره كي لا تتعرض إلى مزيد من الآلام، وأسلمت روحها صباح يوم الاثنين 20 سبتمبر عام 1999 بعد رحلة طويلة مع الفن والحياة عن 84 عاماً.

أطلقت تحية آخر صيحة ضد مخاوفها وغربتها… رحلت مرفوعة الرأس، تعانق صدقها ببساطتها… رحلت الراقصة التي اعتزلت في قمة مجدها، رحلت الممثلة التي التزمت بالصدق، فغضب منها الكثيرون… رحلت المرأة التي افتقدت الإخلاص، فاتهمت بكثرة الزواج، رحلت بعدما انتصر عليها القهر وخلفها قعيدة صدقها، فرافقته حتى النهاية.

رحلت الإنسانة التي أصبحت أسطورة، رحلت من كانت تشع حباً وحناناً وتغدق على الجميع، التي كانت تملك قلب عصفور وشجاعة مارد، فمن كثرة ما عانت من الجوع والذل أصبحت نبع حنان للفقير والمكلوم والمظلوم، ومن كثرة ما لاقت من اضطهاد أصبح صدرها الحاني مرفأ حب ومودة للمقهورين وكل من يقع عليهم جور…

الكل بكى… لكن جمهورها كان النجم في جنازة الفنانة التي كانت لا تجامل ولا تتجمل، فجاء المشهد حزيناً، إلا أنه أكد حبّاً كبيراً حمله لها الجميع على المستويين الشعبي والرسمي… فخرجت الجنازة من مسجد السيدة نفيسة، كما أوصت تحية، لم يحضرها عدد كبير من الفنانين، لكن أسرتها فوجئت بجمع غفير يحرص على الصلاة على جثمانها في المسجد، لدرجة أنه تمت الصلاة عليها مرتين، فقد دخل جثمان آخر بعدها، وانتظر المصلون للصلاة عليهما معاً مجدداً، ليخرج بعد ذلك جثمانها في مشهد مهيب حرصت فيه الجماهير أن تودع تحية الإنسانة صاحبة القلب الذي ظل يعطي حتى توقف.

النهاية

الجريدة الكويتية في

18/08/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)