حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

د.ابراهيم البيومى غانم يكتب عن مسلسل (الجماعة):

قصة النظام الخاص ودراما تقبيح الحسن

هدفان لا ثالث لهما نشأ من أجلهما النظام الخاص سنة 1939 على أرجح الروايات التاريخية: الهدف الأول هو مقاومة الاحتلال البريطانى فى مصر، والثانى هو التصدى للخطر الصهيونى فى فلسطين، وإزاحة أية عقبات قد تعترض قيام الجماعة بهاتين المهمتين.

هذا ما تشهد به وثائق تأسيس النظام، وسجلات أعماله، كما تشهد مذكرات كبار رجال الإخوان الذين انفصلوا عنهم والتحقوا بنظام عبدالناصر مثل الشيخ أحمد حسن الباقورى. وتشهد الوثائق أيضا بأن بعض أفراده قد انحرفوا عن هذا التوجه الأساسى، وقاموا بارتكاب بعض الجرائم بدافع الحمية والشطط، وليس بدافع التوجيه والأوامر التنظيمية.

ولعل أكثر الصفحات غموضا والتباسا فى تاريخ الجماعة، هى صفحة هذا «النظام الخاص». والغموض هنا ناتج عن «سرية» هذا التنظيم، من جهة، وفقدان الموضوعية فى التأريخ له حتى الآن من جهة أخرى؛ سواء من جانب المتعاطفين مع الجماعة، أو من جانب خصومها، ونادرا ما نجد دراسة محايدة حول هذا الموضوع الشائك.

اختار الأستاذ وحيد أن يقف خارج دائرة الحياد العلمى وغلبته نزعة تسييس التاريخ وتسخيره فى خدمة الدراما والأيديولوجيا وهو يتناول قصة النظام الخاص. وقد صور هذا «النظام» فى المسلسل من الحلقة رقم 20 إلى الحلقة رقم 28 بصورة غير تاريخية، ونزعه من سياقه نزعا؛ فأسقط كل مساهماته فى القضية الوطنية المصرية، وقضية فلسطين، وأبقى فقط على قضايا العنف والاغتيالات التى تورط فيها بعض أعضائه دون أوامر من قيادته، وخلطها مع تلك التى تمت بأوامر واستهدفت الاحتلال الإنجليزى والصهاينة فى فلسطين ومصالحهم فى مصر.

وأضاف على هذا الخلط جرائم لم تثبت سجلات القضاء تورطهم فيها مثل اغتيال أحمد ماهر باشا سنة 1945، ولو كانت ثمة شبهة فى تورطهم باغتياله لما خلت منها أوراق الدعوى «محكمة الشعب» التى حوكم فيها الإخوان بتهمة محاولة اغتيال عبدالناصر، وقد اتهمتهم تلك الأوراق بكثير من الجرائم قبل الثورة وليس منها جريمة اغتيال أحمد ماهر. (انظر: كتاب «محكمة الشعب» فى جزئه الأول الخاص بمحاكمة محمود عبداللطيف فى قضية المنشية سنة 1954، فيه من ص34 ــ ص38 سرد لجميع حوادث الاغتيالات والنسف والتفجير والأقوال التى نسبت للإخوان والجهاز الخاص قبل سنة 1952 ولا إشارة فيها لمقتل أحمد ماهر).

كان وحيد حامد أمينا فى عرضه لأهداف النظام الخاص فى الحلقة رقم 20 من المسلسل وهى: شن حرب على الاستعمار البريطانى، وحماية الدعوة، وإحياء فريضة الجهاد. ولكنه أسقط مهمة أساسية وهى مواجهة الخطر الصهيونى والمشاركة فى الدفاع عن فلسطين.

وأغلب المصادر التاريخية تتحدث عن أن هذه المهمة كانت من الأسباب التى شجعت الشيخ والجماعة على تكوين جهاز عسكرى مسلح إبان الحرب العالمية الثانية، خاصة بعد أن ذاعت الأنباء عن استعدادات العصابات الصهيونية بالسلاح والتدريب لتنفيذ وعد بلفور فور انتهاء الحرب. وكذلك فإن وقائع تلك المرحلة وحوادثها ووثائقها تؤكد أن الاستعداد لمواجهة الخطر الصهيونى كان دافعا لنشأة النظام العسكرى للإخوان؛ وتشهد بهذا أيضا محاضر التحقيقات فى القضايا الكبرى وأهمها قضية السيارة الجيب، وسجلات محكمة الثورة، وسجلات محكمة الشعب، التى تلت قيام ثورة يوليو.

تشير الوثائق التاريخية إلى أن نهاية الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1939 توافقت مع نشوب الحرب العالمية الثانية فى السنة نفسها، وأن الاتصالات بين الشيخ حسن البنا والحاج أمين الحسينى كانت قد توثقت، وعرف منه أن ما ينقص الفلسطينيين هو السلاح والمال والتدريب العسكرى.

وكانت ظاهرة القمصان الملونة (الزرقاء للوفد، والخضراء لمصر الفتاة، والسوداء للحرس الملكى الحديدى) منتشرة فى مصر رغم صدور قرار وزارى بمنعها سنة 1937. وكانت أطماع الصهيونية فى فلسطين تتزايد، وكانت مواقف الحكومة المصرية ترتخى، وتلين. هنالك نبتت فكرة تكوين قوة مسلحة لمواجهة هذا الخطر، إلى جانب الاستعداد لمواجهة الاحتلال الإنجليزى.

ولدينا ما نعتبره البيان التأسيسى للنظام الخاص، وهو عبارة عن رسالة رسمية وجهها البنا لرئيس الوزراء محمد محمود باشا سنة 1938، بمناسبة صدور الكتاب الأبيض البريطانى الذى كان يبحث عن طريقة لإخماد الثورة الفلسطينية لأن غيوم الحرب العالمية كانت تتجمع آنذاك،
وتريد بريطانيا أن تتفرغ لمواجهة هتلر وأطماعه. وجاء الكتاب الأبيض مخيبا لآمال الفلسطينيين، ومنحازا للعصابات الصهيونية المعتدية، فوصفه الشيخ البنا فى رسالته تلك بأنه «كتاب مشئوم»، وكتب ــ ما نعتبره مرة أخرى ــ البيان التأسيسى للنظام الخاص، فقال:

«منذ قامت الثورة الإسلامية فى فلسطين والإخوان يسهمون مع جنود تلك الثورة الرائعة بأموالهم.. وكنا نحاول دائما أن نهدئ من ثائرتهم، آملين أن تصل الحكومات العربية لحل يحقق للمسلمين آمالهم وللعرب حقوقهم.. ولقد شجعنا على انتهاج سبيل التهدئة ما كنتم تصرحون به رفعتكم أن مصلحة القطر الشقيق تقتضى سير المفاوضات فى جو هادئ، ولقد كنا متوقعين برغم ذلك أن الإنجليز واليهود لن يفهموا إلا لغة واحدة هى لغة الثورة والقوة والدم، ولكن تحاشينا أن نتعجل الحوادث حتى لا يكون لأحد حجة علينا إن اضطرتنا الحوادث فيما بعد إلى أن نسلك السبيل الذى ترضاه ضمائرنا.

والآن (سنة 1938) وقد جاهر الإنجليز واليهود فى كل أنحاء العالم، حتى يهود أمريكا التى تتخذ الحياد شعارا لها فى كل مشاكل العالم (لاحظ أنه يتحدث سنة 1938)، الآن وقد جاهر الإنجليز واليهود المسلمين العداء، أصبح لزاما على كل أخ مسلم أن يؤدى واجبه بما يرضى الله ورسوله، وبما يحفظ للإسلام كرامته، وللدين قداسته، ولذلك الجزء الطاهر من الوطن الإسلامى حريته».

وفى رسالة أخرى منه إلى الشعب الفلسطينى وهى طويلة جدا ــ ناقش خدعة التمييز بين معتدلين ومتطرفين (حرفيا كأنه يتحدث اليوم)، التى يمارسها الإنجليز، وقال مخاطبا الفلسطينيين «لا يكون متطرفا من يطلب الحياة لنفسه، ولا معتدلا من يطمئن للذبح». «(مجلة النذير ــ العدد 15 ــ السنة الثانية 11 ربيع الثانى 1358هـ). ذلك هو البيان التأسيسى للنظام الخاص، وكل الروايات التاريخية تؤكد أنه نشأ فى سنة 1939 أى بعد وقت قليل من تاريخ كتابته.

وقد عثرت فى المكتبة الخاصة للشيخ البنا على نسخة من كتاب ابن الساعى المسمى «الجامع المختصر فى عنوان التواريخ وعيون السير»، ولاحظت أنه وضع خطوطا فى ص228 عند الفقرات التى تتحدث عن «نظام الفتوة» الذى ظهر فى القرن السابع الهجرى فى زمن الناصر لدين الله، وكان نظاما حربيا يتكون من خلايا، بكل منها عشرة أفراد، وعليهم «عريف»، وعلى كل عشرة عرفاء نقيب، وعلى كل عشرة نقباء «قائد»، وعلى كل عشرة قادة «أمير»، وكان لهم زى حربى متميز، وقويت هذه التنظيمات لما ضعفت الدولة العباسية عن مواجهة الفوضى الداخلية والهجمات الخارجية. وأغلب الظن أن التشكيل التنظيمى للنظام الخاص قد بدأ فى ذهن الشيخ من تلك السطور، وكل المصادر التى تحدثت عن الهيكل العام للنظام الخاص تؤكد أنه لا يختلف كثيرا عن تلك التنظيمات التى تحدث عنها ابن الساعى، وقرأها الشيخ البنا وعلم عليها بقلمه فى نسخته الخاصة من الكتاب. ومن المؤكد أنه تأثر بظاهرة «القمصان»، وبضغوط الواقع وتحدياته، وأنه أيضا طور فكرة «الفتوة» وعدلها، وأضاف إليها. وفى كل الأحوال لا يصح إغفال هذه الواقعة من قصة نشأة النظام الخاص.

أما المسلسل فقد أظهر قصة النشأة معزولة عن تلك الملابسات، وصورها على أنها رغبة عدمية فى ممارسة العنف. وهذا غير صحيح، ومحض خيال ولا صلة له بأصول كتابة الدراما التاريخية.

وثائق تلك المرحلة وقضاياها تشير إلى خطأ المسلسل فى تصويره لدور النظام والأخطاء الفردية التى ارتكبها بعض أفراده. وأسقط وحيد حامد تماما دور النظام فى قضية فلسطين، وأيده فى ذلك بعض كتاب المقالات. وهنا سنورد مقتطفات من شهادات الحاج أمين الحسينى، مفتى فلسطين آنذاك، واللواء أحمد فؤاد صادق، واللواء أحمد المواوى وكانا قائدين لحملة الجيش المصرى فى حرب فلسطين سنة 1948، وكذلك شهادة الصاغ محمود لبيب، وكل هؤلاء كانوا من كبار الشهود فى قضية السيارة الجيب.

وشهاداتهم تبين بعض معالم الحقيقة التاريخية لدور النظام الخاص فى فلسطين:

1ــ من شهادة الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين الأكبر آنذاك ــ فى قضية السيارة الجيب:

س: هل كان لجماعة الإخوان المسلمين حركة مشاركة فى حرب فلسطين؟

ج: الحاج أمين: نعم كان للإخوان المسلمين حركة مشاركة فى حرب فلسطين منذ البدء، وقاموا بدعاية لها، ثم شاركوا بأنفسهم فى سنة 1936 فى أثناء الجهاد هناك، وجمعوا أسلحة وذخيرة، وذهب فريق منهم إلى الجهاد هناك، واستمروا على ذلك يعنون بهذه القضية ويخدمونها بأنفسهم وبجهودهم وبكل ما يستطيعون حتى النهاية».

س: هل كان بعض رجال الهيئة العربية العليا (لإنقاذ فلسطين) كالمرحوم عبدالقادر الحسينى أو غيره يستعينون ببعض الإخوان فى جمع الأسلحة وشرائها؟

ج: نعم كان عبدالقادر الحسينى بك وغيره يستعينون بالإخوان المسلمين فى شراء الأسلحة والذخيرة، ويدفعون ثمن هذه الأسلحة.

س: هل تعرف أن من بينهم محمود الصباغ؟ (وهو عضو بارز فى النظام الخاص وصاحب كتاب حقيقة التنظيم الخاص، وكتاب التصويب الأمين لما نشره بعض القادة السابقين، واعتمده وحيد حامد مرجعا لمسلسله).

ج: نعم قد كان أحد الذين كلفوا من قبل عبدالقادر بك الحسينى وغيره لشراء الأسلحة...».

وتمضى التحقيقات على هذا النحو، وفيها تحدث الحاج أمين عن عزم الشيخ البنا إرسال عشرة آلاف من الإخوان لفلسطين ليشتركوا مع المجاهدين، وعن علم النقراشى باشا بأن الإخوان كانوا يجمعون السلاح لتزويد الهيئة العربية العليا لإنقاذ فلسطين، وأكد أن أهداف «المرحوم الشيخ حسن البنا والإخوان كانت لمصلحة المسلمين خاصة، ولخيرهم ولإنقاذهم مما هم فيه من ذل وبلاء، وقال: «ولا أعتقد أنها تعمل أى شىء يخالف الشرع من العنف والقتل والإرهاب». وختم شهادته بالرد على السؤال التالى:

س: ألم تفهموا من حديث النقراشى باشا أن الأسباب التى دعت حكومته للاستيلاء على أسلحة الهيئة العربية ــ التى كان يجمعها الإخوان ــ هى الخوف من تسرب الأسلحة فى حوادث داخلية بمصر؟

ج: لا لم يذكر لى شيئا من هذا (وعند انصراف سماحته حياه الإخوان أعضاء النظام الخاص فى قفص الاتهام فى قضية السيارة الجيب بالهتافات: دماؤنا فداء فلسطين.. فلسطين عربية وستعود عربية).

2ــ من شهادة اللواء أحمد فؤاد صادق ــ قائد عام الجيش المصرى فى حملة فلسطين 1948:

س: نريد أن نعرف رأى سعادتكم بصفتكم قائدا عاما لحملة فلسطين عن موقف الإخوان المسلمين المتطوعين فى هذه الحرب وفى ميدانها؟

ج: كانوا جنودا أبطالا، أدوا واجبهم على أحسن ما يكون.

س: هل يسمح الباشا أن يذكر لنا وقائع معينة تدل على البطولة؟

ج: نعم سمعت بعد وصولى لرئاسة القوات من قلم المخابرات العسكرية أن اليهود يبحثون دائما عن مواقع الإخوان ليتجنبوها فى هجومهم، فبحثت عن حالتهم من الناحية الفنية وأمرت بتمرينهم أسوة بالجنود، ودخلوا مدارس التدريب، وأصبح يمكن الاعتماد عليهم فى كثير من الأحوال التى تستدعى بطولة خاصة. مثلا: أرسلتهم من دير البلح إلى ما يقرب من 100 كيلو إلى الجنوب لملاقاة الهجوم الإسرائيلى على العريش، فاستبسلوا وأدوا واجبهم تماما. واشتركوا أيضا فى حملة الدفاع عن موقع 86 فى دير البلح، وأعطيتهم واجبا من الواجبات الخطرة فكانوا فى كل مرة يقومون بأعمالهم ببطولة استحقوا من أجلها أن أكتب لرياسة مصر أطلب لهم مكافأة بنياشين، وذكر لبعضهم للشجاعة فى الميدان، وبعضهم ذكر اسمه فى الأوامر العسكرية، واتصلت بالحكومة فى ذلك الوقت (حكومة النقراشى)، وطلبت منها مساعدة هؤلاء بأن يعطوهم أعمال (أعمالا) عندما يعودوا ويعاونوا (يعودون ويعاونون) أسرهم ، والحكومة ردت ووافقت وأرسلت تأخذ معلومات عنهم، وكان هذا تكريم الحكومة لهم.

س: هل نفذت الحكومة هذا الوعد؟

ج: ما أعرفش، ولكن عندما طلب منى اعتقالهم، رفضت، ووضعتهم تحت حراستى الخاصة.

س: هل زرتم معسكر الإخوان بفلسطين؟

ج: «كثيرا».

3ــ من شهادة اللواء أحمد على المواوى بك، قائد عام حملة فلسطين ــ قبل اللواء صادق:

س: عند دخول الجيوش النظامية أرض فلسطين بقيادتكم، هل كان فيها متطوعون من الإخوان المسلمين؟

ج: نعم، لأنهم سبقوا بدخولهم القوات النظامية.

س: هل استعان الجيش النظامى ببعض الإخوان لبعض العمليات الحربية أثناء الحرب كطلائع ودوريات وما إلى ذلك؟

ج: نعم استعنا بالإخوان المسلمين واستخدمناهم كقوة حقيقية تعمل على جانبنا الأيمن..

س: ما مدى الروح المعنوية بين الإخوان المسلمين؟

ج: الواقع أن كل المتطوعين من إخوان وغيرهم كانت روحهم المعنوية قوية جدا وقوية للغاية.

س: هل تعرف عدد المتطوعين من الإخوان؟

ج: بلغ عدد المتطوعين من الإخوان وغيرهم ما يقرب من عشرة آلاف.

س: هل تعلم أن متطوعى مصر معظمهم من الإخوان؟

ج: أنا أعرف أن الإخوان كانوا أكثر من الفئات الأخرى».

4ــ فى شهادة الصاغ محمود لبيب، نجده يؤكد أن حكومة النقراشى فتحت لهم معسكرا للتدريب فى الهاكستيب، وعينت لهم مدربين من الجيش المصرى، وذلك تحت مظلة الهيئة العربية العليا لإنقاذ فلسطين التى كان يرأسها علوبة باشا، وكان صالح حرب وحسن البنا عضوين فيها، ونادت الهيئة بالتطوع، وكان أكثر المتطوعين من الإخوان المسلمين بنسبة 90%. وكان التسليح والتدريب يتمان بعلم الحكومة وتحت عينها وبصرها.

تلك بعض المشاهد والشهادات من قضية السيارة الجيب. ولكن الأستاذ وحيد حامد فى المسلسل أظهر النظام الخاص فى صورة شائهة، واختزله فى صورة أداة مسلحة لممارسة العنف ضد الدولة وضد الخصوم السياسيين للجماعة وضد الشعب المصرى أيضا! ومثل هذا الصورة واهية الصلة بالحقيقة التاريخية.

الشروق المصرية في

07/10/2010

 

وحيد حامد و(تزوير) علاقة الدين بالسياسة

إبراهيم بيومى غانم

ليس من حق منتقدى الأستاذ وحيد حامد أن ينكروا عليه إدراكه الخاص لانفصال الدين عموما والإسلام خصوصا عن السياسة. ولكن أعتقد أن من واجبه هو أن يستمع ويحترم الآخرين الذين لهم وجهة نظر مختلفة تؤكد ارتباط السياسة بالإسلام تحديدا، وتشدد على أنه نظام شامل ومنهج حياة، وهى صلب دعوى الإخوان ومؤسس جماعتهم. ومن واجبه أيضا ألا يترك لأيديولوجيته الخاصة أن تتحكم فى وقائع التاريخ، ولا أن يعطى لنفسه الحق فى تغييرها أو اختلاق شىء منها.

ولكن ما حدث هو أن الأستاذ وحيد من أول المسلسل إلى حلقته الأخيرة ترك العنان لقناعته الخاصة بانفصال علاقة الإسلام عن السياسة، كى تهيمن على مجريات حياة الشيخ، وتحكم بالإدانة والتبشيع على الشيخ والإخوان لأنهم يخلطون ــ من وجهة نظره ــ الدين بالسياسة، ولهذا أظهرهم فى المسلسل وكأنهم فى أغلب الأحوال يرتكبون عملا مؤثما كونهم يهتمون بشئون السياسة والحكم ويدلون برأيهم فيها، ويعلنون مواقفهم منها. ولسنا نجادل الأستاذ هنا فى خطأ أو صواب اعتقاده بانفصال الإسلام عن السياسة والحكم. فهذا اختيار فكرى وموقف معرفى/ نظرى، وليس هنا مجال مناقشته أو تفنيده.

ما نناقشه هو اتهام الأستاذ وحيد للشيخ وجماعته بأنهم يسعون لإقامة دولة دينية، ثيوقراطية، أو استبدادية، وأنهم ضد الدولة المدنية بل ومعادون لها، والإتيان بهذه التهمة على لسان النحاس باشا صراحة (أحمد راتب فى الحلقة رقم 18 من المسلسل). وهذه التهمة لا أساس لها من أفكار الشيخ، ولا من أفعال الجماعة. بل إن كل الوثائق الفكرية للرجل، والممارسات العملية للجماعة كانت ضد مثل هذا التوجه على طول الخط.

البنا فى وثائقه الفكرية هو الذى قال: «إن الإسلام قرر سلطة الأمة، وأكدها»، وأن من واجب الشعب مراقبة تصرفات الحكومة ومناقشتها الحساب، وأن على الحكومة أن تعمل لمصلحة الشعب، وتحترم الرأى العام، وأن «الأمة مصدر السيادة، وصاحبة السلطة» (مقالات ورسائل عديدة للبنا، منها مثلا: مقاله بالجريدة الأسبوعية سنة 1936، وأعيد نشره بنصه فى عدد 2 أبريل سنة 1946، ورسالة «إلى الطلاب» سنة 1939، مجموعة الرسائل ص313 ــ 315). وهو الذى قال وكرر القول: «إن رجال الإسلام فى كل عصر من عصوره إلى الآن لم يدعوا لأنفسهم سلطة أكثر مما يؤهلهم علمهم، ولم ينازعوا الأمر أهله بعضا من الأيام.. فأين هذا من سلطان الإكليروس فى أوروبا، وما أدعوه لأنفسهم من سلطان على قلوب الناس وحياة الناس الدنيوية والأخروية» (مجلة التعارف العدد 4 ــ9/3/1940).

وهو الذى قال: «إن رجال الدين غير الدين نفسه» (رسالة نحو النور، ص86). وأن قواعد نظام الحكم الإسلامى ثلاثة هى: مسئولية الحاكم، واحترام إرادة الأمة لأنها مصدر السلطة، ووحدة الأمة. وأعلن موقفه وموقف جماعته من النظام النيابى الدستورى بعبارات واضحة، ومنها «إن نظام الحكم النيابى الدستورى أقرب نظم الحكم القائمة فى العالم كله إلى الإسلام، ونحن نسلم بالمبادئ الأساسية للحكم النيابى الدستورى باعتبارها متفقة بل مستمدة من نظام الإسلام» (رسالة المؤتمر الخامس، ص192، 193). وهو الذى أدان الخلافة العثمانية لأنها لم تكن شرعية بالمعنى الكامل «فكثير من الشروط كان مفقودا فيها..» (مجلة النذير عدد 4 السنة الثانية 22 محرم 1358هـ).

وبناء على هذه الرؤية أعلن «قبول الإخوان لدستور 1923، وأن القواعد الأساسية له لا تتنافى مع الإسلام»، ولكن فيه بعض الغموض، وركز نقده على المفارقة بين نصوصه والممارسات الحزبية المتهرئة فى ذلك الحين. (مقاله بمجلة النذير، بعنوان «القرآن والدستور»، عدد 31 السنة الأولى 11 من ذى الحجة 1357).

لم يلتفت مبدعنا وحيد حامد إلى شىء مما ذكرناه، وأصر إصرارا غريبا على اتهام الشيخ بأنه داعية دولة دينية «ثيوقراطية». وراح يبحث عن أدلة على صحة اختياره الأيديولوجى هو أى وحيد حامد الذى يفصل الإسلام عن السياسة وشئون الحكم، وهنا خرج مرة أخرى على منطق الدراما ووظيفتها التنويرية. فهو قد راح يؤكد عبر كثير من تفاصيل المسلسل أن الإخوان تحولوا فى أواخر الثلاثينيات من «جماعة دينية إلى جماعة سياسية واقتصادية لها طموح فى الحكم». ولكن هذه الدعوى غير صحيحة، ليس فقط لأنها مخالفة لوقائع التاريخ كما سنوضح، وإنما أيضا لأنها مخالفة لأصل الرؤية التى انطلق منها الشيخ البنا عن «الإسلام الشامل» الذى لا فصل فيه بين دين وساسة، أو مصحف وسيف، أو اقتصاد ومجتمع.

وعندما يقوم وحيد حامد بإدانة اقتناع الجماعة ومؤسسها بشمولية الإسلام وارتباط السياسة به، فإنما هو يقيم من نفسه ليس معارضا لأفعالهم فقط، وإنما وصيا فكرى عليهم، وحارسا لرؤية العلمانية لعلاقة الإسلام بالسياسة مثل حراس الكهنوت الكنسى القديم. وهو قد فعل هذا وذاك، واضطرته هذه المهمة التى ليست له إلى أن يغير بعض حقائق التاريخ، أو يصورها فى غير صورتها. وكان أهم أخطائه فى هذه النقطة أنه تصور وجود مرحلتين فى تاريخ الشيخ وجماعته:

مرحلة الجماعة الدينية، ومرحلة الجماعة السياسية. بينما وقائع التاريخ، وأصول الوثائق الفكرية للشيخ وجماعته تؤكد أن رؤية الإسلام الشاملة للدولة والمجتمع كانت واضحة منذ البداية الأولى لتأسيسه الجماعة، بل إنه ما فكر فى تأسيسها إلا لأن الفهم الجزئى للإسلام لم يعجبه ولم يقتنع به!، وظلت معه إلى آخر نفس. ولم يراجع نفسه فى أواخر حياته إلا فى جدوى الجمع بين ممارسة الدعوة وممارسة السياسة فى كيان تنظيمى واحد. وحتى هذه المراجعة أظهرها المسلسل بصورة خاطئة، عندما صور الشيخ وكأنه يندم على فهمه الشامل للإسلام، مرددا فى الحلقة الأخيرة «ولذلك خلق الله الندم».

ونحن مع المؤلف فى أن الشيخ قام بالمراجعة، وهذه حقيقة تاريخية لا يمكن إنكارها، ولكنها كانت فى جوهرها مراجعة وظيفية وليست معرفية. كانت حركية تنظيمية وليست أصولية عقائدية، وقد توقفت بموت البنا، وفشلت جماعة الإخوان المصرية فى القيام بها منذ ذلك الحين إلى اليوم كى تميز مهمة القيام بالمشاركة السياسية، عن أداء مهمة الدعوة الإسلامية.

لم تبدأ جماعة الإخوان دينية ثم تحولت سياسية طامحة للحكم كما يصورها المسلسل، بل كانت من يومها الأول جماعة شاملة، تعمل فى السياسة بمعناها الواسع الذى يتجاوز مجرد التنافس الحزبى على السلطة، مثلما كانت تعمل فى الدعوة والإصلاح الاجتماعى، وكان التدرج سمة أساسية من سمات منهجها الحركى، فانتقلت من الدعوة والتعريف بفهمها للإسلام، إلى جمع الأنصار وتكوين الكوادر، إلى خوض معارك الإصلاح والتغيير، بما فيها المعارك الحزبية والانتخابية. والقول بغير ذلك يساوى القول بأن الطفل حديث الولادة يجب أن يعدو فور ولادته، أو ما يساوى القول إن الجماعة فى سنة 1928، أو 1930 مثلا كان عليها أن تنظم المظاهرات، وتخوض الانتخابات، وتواجه قوات الاحتلال الإنجليزى، وتعارض الملك، مثلما فعلت هذا وأكثر منه بعد ذلك بدءا من أواخر الثلاثينيات وهذا ما لا يقول به أحد.

وفى نظرنا أن الجماعة ارتكبت خطأ تاريخيا بإصرارها منذ بداية تكوينها على أنها لا تسعى إلى السلطة، ولا تتطلع للمشاركة فى الحكم، وكأن مثل هذا المسعى سبة أو تهمة، ولا تزال سادرة فى هذا الخطأ إلى اليوم، بينما هى منشغلة بقضايا الإصلاح السياسى والتغيير، تدفعه للأمام حينا وللخلف أحيانا، الأمر الذى سهل على خصومها اتهامها باستمرار بأنها تظهر غير ما تبطن، وتستغل الدعوة الدينية لتحقيق مآرب سياسية.

لو رجع الأستاذ وحيد حامد إلى سجلات التاريخ سيجد أن للجماعة نظاما أساسيا/ قانونا صدر سنة 1931، وفيه رؤية واضحة لشمول الإسلام للسياسة والحكم وجميع شئون الحياة، وأنها عقدت أربعة مؤتمرات عامة من سنة 1933إلى سنة 1936، بمعدل مؤتمر كل سنة، وكانت منتظمة بينما كان الوفد أكبر الأحزاب عاجزا عن عقد مؤتمره العام بشكل دورى. وسيجد فى محاضر تلك الاجتماعات قرارات إنشاء شركات اقتصادية وإعلامية، ومشروعات للخدمة الاجتماعية، ومناقشات مستفيضة لقضايا السياسة والحكم فى مصر، وقضايا العالم الإسلامى، وتحديد موقف واضح من الأحزاب السياسية، وتحديد وإعلان رؤية الجماعة من الأفكار القومية، والوطنية، والأخوة الإسلامية، وإعلان صريح برفض معاهدة سنة 1936 وإدانتها، والدعوة لإلغائها فى الوقت الذى كان حزب الوفد يسميها «معاهدة الشرف والاستقلال».

وسيجد مادة غزيرة تثبت أن الشيخ وجماعته أيدوا الثورة الفلسطينية الكبرى ابتداء من سنة 1936، وتقارير المخابرات البريطانية عن تلك الفترة تؤكد ذلك.

وسيجد الباحث الجاد أيضا سلسلة من المقالات كتبها الشيخ البنا آنذاك فى إصلاح السياسة التعليمية فى المدارس المدنية وفى الأزهر الشريف ومعاهده (جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية أعداد سنة 1935)، وسيجد مقالات أخرى طالب فيها بتوحيد نظام القضاء، وإلغاء المحاكم المختلطة والامتيازات الأجنبية.

وسيجد كل ذلك مسجلا ومنشورا فى أعداد جريدة «الإخوان المسلمون» الأسبوعية من عددها الأول بتاريخ 21 صفر1352هـ / 15 يونيو 1933م إلى عددها الأخير بتاريخ 12 رمضان 1357هـ/ 4 نوفمبر 1938م. وهى بالمناسبة محفوظة فى دار الكتب المصرية بكورنيش النيل).

ليس وحيد حامد هو أول من اخترع دعوى تحول الإخوان من جماعة دينية إلى جماعة سياسية جديدة، ولا حتى رفعت السعيد، ولا عبدالعظيم رمضان، ولا غيرهم من المؤرخين اليساريين، أو العلمانيين خصوم الشيخ وجماعته. فأول ورود صريح لهذه الدعوى جاء فى حوار نشرته مجلة المصور بتاريخ 2 مايو 1947 مع الشيخ حسن البنا، وقد فند الشيخ الدعوى بقوله إن الإخوان يرون العمل بالسياسة «أداء للواجب الوطنى الذى يفرضه الدين».

ثم ظهرت الدعوى نفسها بعد أقل من عامين من حوار المصور معه، وذلك فى نص المذكرة التى كتبها عبدالرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية ليبرر قرار الحاكم العسكرى بحل الجماعة فى ديسمبر 1984(المذكرة منشورة فى ملاحق الجزء الأول من كتاب: «محكمة الشعب»، (1954) إعداد كمال كيرة، طبعة شركة النيل، ب. ت. ص218). وتناقلتها أقلام المؤرخين والكتاب منذ ذلك الحين إلى اليوم.

اللافت للنظر أن تهمة التحول من جماعة دينية إلى جماعة سياسية ترددت بكثرة أيام البنا نفسه، ورد عليها الشيخ البنا بنفس القدر فى حينه، ولايزال كل فريق متمسكا برؤيته، ولم يتقدم الحوار حول هذه القضية خطوة واحدة إلى الأمام منذ ما قبل ثورة يوليو إلى اليوم. ومسلسل الجماعة أعاد إنتاج القضية من جديد دون أن يقدم حلا.

إن إصرار وحيد حامد فى مسلسله على مقولة تحول الإخوان من جماعة دينية إلى جماعة سياسية، هو عمل أيديولوجى بحت، ولا صلة له بالدراما ولا بحقائق التاريخ ووثائقه المنشورة، ولا بالرؤية الفكرية للجماعة ومؤسسها. وبذلك أعطى الأستاذ وحيد لخصومه من الإخوان والرعونة تغلب على بعضهم الفرصة لاتهامه بأن هدف المسلسل هو صناعة صورة انتهازية بشعة للشيخ وجماعته كى ينفر الجمهور منها (راجع مثلا حوار سراج الدين باشا مع الشيخ حسن البنا فى الحلقة رقم 23 من المسلسل، حيث يورد السيناريو على لسان البنا كلاما مختلقا يؤكد أن جماعته دينية وهم رجال دين وبس، وأن جماعته هى جماعة المسلمين، والخروج عليها هو خروج على الإسلام،..إلخ)، ومثل هذه الدعاوى ليس لها سند فكرى ولا تاريخى صحيح، وخطورتها على الأجيال الجديدة أنها دعاوى تؤدى لتشويه التاريخ، وتشتيت الفكر، ولا تسهم فى ترسيخ تقاليد قوية ومنطقية للحوار ومبادلة الحجة بالحجة.

وقع وحيد حامد أسيرا لإغواء «الدولة المدنية» بمعنى محدد يجعلها مرادفا للدولة «العلمانية» التى تفصل الدين عن السياسة. وراح يردد حجة من أوهى الحجج التى يرددها علمانيو أيامنا هذه تقول إن «السياسة تفسد الدين، والدين يفسد السياسة».

وهذا القول يثير أكثر من تساؤل فى أذهان كثير من الشباب مفاده: إذا كنا نتحدث تحديدا عن الإسلام، وإن صح أن السياسة تفسده، فكيف يصح فى الأذهان أنه يفسدها هو؟ وإذا كان الفساد كامنا فى سوء استخدام السياسيين للإسلام، فأين بالضبط يكمن الفساد القادم من جهة الإسلام؟! وبعيدا عن هذه المعضلة التى تكشف تهاوى هذه الحجة وتناقضها المنطقى، فقد اعتدى وحيد حامد على أصول الدراما التاريخية بهذه المناسبة وفى مناسبات أخرى سنذكرها عندما وضع هذه الحجة على لسان أناس لم ينطقوها، ولم تكن من مفردات ثقافتهم، ولا من قضايا أيامهم.

وضعها تارة على لسان النحاس باشا والوفديين عموما، باعتبار أنهم كانوا يتهمون البنا بأنه «ضد الدولة المدنية» (فى الحلقتين 17 و18 مثلا)، وتارة على لسان الشيخ طنطاوى جوهرى (الحلقة 18).

الصورة التى ظهر بها النحاس باشا وسراج الدين باشا فى المسلسل تبرهن على أن وحيد حامد قد خرج من ساحة الدراما التاريخية، إلى الدراما غير التاريخية، أو الاصطناعية التى يكون فيها للمؤلف الحق فى السير وراء خياله الفنى والإبداعى لتوصيل رسالته التى يدافع عنها، وليس لتقديم وقائع تاريخية تبدأ بقراءة الوثائق ولا تستبيح تجاوزها إلا لضرورات فنية بحتة.

فليس فى سيرة النحاس أو سراج الدين ما يشير إلى أنهما كانا أرعنين، فاقدى الأعصاب، أو مزدريين للآخرين كما صورهما وحيد فى الحلقة رقم 18 مثلا. وأغفل وحيد حامد أو إنه لم يعلم أن النحاس باشا كان يحترم البنا، قبل أن يراه، وأنه عندما زاره فى منزله بالإسكندرية فى صيف سنة 1936 بمناسبة مطالبة حكومة محمد توفيق نسيم باشا بأن تعنى بالتعليم الدينى فى المدارس المصرية، ظنه النحاس «أحد العمد» الذين يتألف منهم الوفد الذى زاره!. ثم كانت الزيارة الثانية فى فندق مينا هاوس بناء على طلب النحاس بمناسبة ترشح الشيخ للانتخابات فى الإسماعيلية سنة 1942، وقابله بكل احترام وتقدير كما تقول الصحف آنذاك.

وعندما أمر النحاس بإغلاق شعب الإخوان فى كل أنحاء البلاد ما عدا المركز العام تحت ضغط السفارة البريطانية، تذرع الإخوان بالصبر، ولم يمض أكثر من ثلاثة أشهر حتى راجع النحاس نفسه، وأرسل وفدا وزاريا من حكومته لزيارة المركز العام للإخوان، وحضر إلى دار الإخوان كل من: معالى فؤاد سراج الدين باشا وزير الزراعة، ومعالى عبدالحميد عبدالحق وزير الشئون الاجتماعية، ومعالى محمود سليمان غنام وزير التجارة، ومعالى أحمد حمزة وزير التموين، والأستاذ محمد صلاح الدين، سكرتير مجلس الوزراء، وتحدثوا بكلام طيب، وأعلنوا تأييدهم لفكرة الإخوان الإصلاحية، وبادلهم المرشد العام التحية، وعادت المياه لمجاريها، كما نقلت صحف ذلك الوقت ومنها (صحيفة الإخوان النصف شهرية بتاريخ 12 يونيو 1943م، وفيها أيضا نص كلمة الشيخ حسن البنا بمناسبة زيارة وزراء الوفد لدار الإخوان، ومما ورد فى كلمته تأكيده على شمول الإسلام للسياسة وغيرها، وخصائص منهج الجماعة التدريجى فى الإصلاح، وعدم تحزبهم لا للوفد ولا ضده، وترحيبه بتصفية الأجواء والخلافات مع الوفد...إلخ).

هل ثمة ضرورة فنية/ درامية لحذف مشهد زيارة رجال الوفد ووزرائه فى المسلسل للمركز العام للإخوان؟ أليس هذا مشهدا رائعا فى دلالته على انفتاح الوفد، وليبراليته، مثل دلالاته على احترامه لخصومه السياسيين؟. أليس فى إحياء مشهد كهذا عبر دراما الجماعة ما يسهم فى رأب الصدع الحاصل بين حزب حاكم وجماعة شعبية، أم أن هذا ليس من أهداف الدراما التاريخية؟!. وما هدفها إذن؟.

وحيد حامد وهو يدافع عن مفهومه للدولة المدنية استباح أيضا فى مسلسله تاريخ الشيخ طنطاوى الجوهرى وشوهه عندما وضع على لسانه مقولة أن «السياسة تفسد الدين والدين يفسد السياسة». وهو ما لا أثر له فى مؤلفات الشيخ طنطاوى، ولا فى سيرته، ولا فى أى بحث كتب عنه إلى اليوم.

اهتم المسلسل بإلصاق تلك المقولة للشيخ طنطاوى، بينما أهمل الأهم وهو أن الشيخ رحمه الله كان عضوا بالجماعة، وكان أكبر من الشيخ حسن البنا سنا وأكثر علما ومقاما لكنه بايعه، ورفض أن يتولى منصب المرشد العام عندما عرضه عليه البنا فى بدايات تأسيس الجماعة. وتولى رئاسة تحرير أول جريدة للإخوان هى «الجريدة الأسبوعية» مدة خمس سنوات، منذ عددها الأول فى 21 صفر 1352هـ إلى عددها رقم 21 من السنة الخامسة، وأغلقت بعد أن صدر العدد رقم 31 من السنة نفسها 1937. وكان الشيخ طنطاوى يلقب بـ«حكيم الإسلام»، وظل على رأيه إلى أن لقى وجه ربه وهو يدعو إلى إقامة الحكم الإسلامى على أساس الشورى، ويدعم أطروحات الشيخ البنا فى أن الإسلام دين وسياسة (انظر مقالات الشيخ طنطاوى الافتتاحية بجريدة الإخوان الأسبوعية ومقالاته فى صحف ومجلات أخرى منها مجلة المعرفة الجزء التاسع السنة الأولى/ 1932 بعنوان «الخلافة الإسلامية»، وفيها أكد أن الشورى أساس نشأة الخلافة، ويجب أن تظل الخلافة محكومة بها لا حاكمة عليها، وأن ما وقع من انحرافات فى تاريخ الخلافة إنما كان عقابا على ترك الشورى المنصوص عليها فى القرآن».

الشروق المصرية في

05/10/2010

 

الجماعة.. مسلسل انتهى وملف مازال مفتوحا

إبراهيم البيومى غانم 

رغم مرور نحو شهر على انتهاء حلقات مسلسل الجماعة الذى كتبه وحيد حامد وأخرجه محمد ياسين للتأريخ لمسيرة حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان المسلمين مازال الجدل حول المسلسل قائما ويزداد اشتعالا بمرور الوقت.

ولما كان «الجماعة» أكثر من مجرد مسلسل ولما كانت «الإخوان المسلمين» أكثر من مجرد جماعة، فالطبيعى أن يثور الجدل ويشتد حول المسلسل والجماعة.

وعلى صفحات «الشروق» ينشر الدكتور إبراهيم البيومى غانم رؤيته للمسلسل الأكثر إثارة للجدل فى مقابل رؤية وحيد حامد التى أشاد بها كثيرون وانتقدها كثيرون أيضا. وإذا كانت رؤية إبراهيم البيومى غانم هى البداية لمناقشة مفتوحة للمسلسل والجماعة فإنها بالتأكيد لن تكون النهاية ولا الوحيدة، حيث ترحب الشروق بنشر الكثير من الرؤى والآراء حتى يستطيع القارئ تكوين رؤيته الخاصة بعد أن يستعرض آراء جميع الأطراف.

يعبر مسلسل «الجماعة» الذى عرضته الفضائيات فى رمضان الماضى أصدق تعبير عن «بؤس الدراما المصرية»، التاريخية منها والاجتماعية. وقد ذكرنا هذا المسلسل بكتاب قرأناه منذ زمن بعنوان «بؤس الفلسفة» لكارل ماركس، ولكن بالمقلوب، فماركس كان يدعو فى هذا الكتاب إلى التغيير وتجديد النظر للعالم، أما وحيد حامد كاتب سيناريو الجماعة فيدعو إلى المحافظة على الوضع القائم، وتسليح المبارزين الجدد بسيوف قديمة فى الصراعات الراهنة بين القوى السياسية المصرية.

مسلسل «الجماعة دراما تاريخية، وهو كأى عمل درامى له إيجابيات وسلبيات يختلف تقديرها باختلاف زوايا النظر إليه. والحبكة الدرامية فى رأينا هى أهم الإيجابيات، والأرجح أن محصلتها النهائية ستكون فى صالح الجماعة، لأن هذه الحبكة ستحبب الشيخ وجماعته للأجيال الجديدة من الشباب المتحمس، فالمسلسل أظهر لهم حسن البنا فى صباه نشيطا ذكيا، وفى شبابه قويا غيورا يرتدى زى الجوالة، وأحيانا زيا حربيا، ويشرف على تدريبات شبه عسكرية، وفى أواخر أيامه رأوه مظلوما محاصرا، ومثل هذه القدوة يفتقدها الشباب فى الواقع الراهن. ولن يقلل من ذلك كثيرا أن السيناريست وحيد حامد أبكى الشيخ دون سند من حقائق التاريخ وسيرة الرجل فى حضرة بعض مسئولى الحكومة، وذلك ليظهره منهارا ضعيفا لا حول له ولا قوة، ومن ثم يخدش شخصيته الكاريزمية ويزيح بعض البريق المحيط به.

وفى رأينا أن التركيز على انفصال الإسلام عن السياسة، وإدانة الجماعة ومؤسسها من هذه الزاوية بشكل منظم ورتيب عبر جميع حلقات المسلسل بلا استثناء، وكذلك التركيز على أحداث العنف، وتأصيل هذه النزعة عند الجماعة ومؤسسها والإلحاح عليها فى أغلب الحلقات، هما أهم رسالة إدانة وجهها المسلسل للجماعة، دون أن يكون لديه أدلة موثوقة من أدبيات الشيخ والجماعة، ولا وقائع من سجلات الأحداث التى شهدتها مصر فى الثلاثينيات والأربعينيات.

سنقدم فى المقالات التى نبدأها اليوم أدلة تاريخية من السجلات والوثائق الرسمية تبرهن على أن المسلسل من حيث صلته بالوقائع التاريخية الموثقة ضعيف جدا، وأن مضمونه الدرامى فقير جدا، وأنه قد ذبح التاريخ بسكين باردة، كان واعيا بما فعل أم لم يكن.

الأستاذ وحيد حامد فى برنامج «واحد من الناس» (16/9/2010) قال إن مسلسل الجماعة «أعاد للدراما المصرية مجدها»، والواقع أنه فوت هذه الفرصة، وجاء المسلسل الذى يتناول شخصية مؤسس الإخوان المسلمين، وتدور أحداثه فى فترة من أخصب فترات تاريخ مصر الحديث سياسيا، وثقافيا، وفنيا، وأدبيا خلال الربع الثانى من النصف الأول من القرن العشرين، جاء فقيرا شديد الفقر فى مضمونه الدرامى ومشاهده التى تحاول أن تحاكى الواقع، إلى جانب أنه جاء مضطربا فى مساره التاريخى العام، وزاد على هذا أنه ألقى فى روع كثيرين من مشاهديه أن الدراما باتت «فى خدمة السلطة» بدلا من أن تكون فى خدمة المجتمع، بالطريقة نفسها التى باتت بها «الشرطة فى خدمة القانون» بدلا من أن تكون فى خدمة الشعب.

من شاهد مسلسل الجماعة، وقرأ كتاب «حسن البنا: متى وكيف ولماذا» لرفعت السعيد، وكتاب «الإخوان والتنظيم السرى» لعبدالعظيم رمضان، وهما من ألد خصوم الجماعة ومنهجها الفكرى، سيكون من السهل عليه جدا أن يكتشف أن أغلبية مادة السيناريو الذى كتبه الأستاذ وحيد حامد مأخوذة من هذين الكتابين. وهما أسوأ ما فى بضاعة رفعت السعيد وعبدالعظيم رمضان، فهما لم يتركا مجالا للشك فى أن حسن البنا كان من جنس الشياطين، وأنه «رجعى» عتيد. وإن صح هذا وإن صح أيضا ما ذهب إليه رفعت السعيد فى كتاب آخر له عن أحمد حسين زعيم مصر الفتاة أنه «فاشى عنيد» فمعنى ذلك أنه لم يكن أحد قلبه على مصر فى الثلاثينيات والأربعينيات إلا «هنرى كورييل» اليهودى مؤسس الحركة الشيوعية التى انتمى إليها عبدالعظيم رمضان لفترة، ورفعت السعيد دوما، على حد ما قاله صديقنا الماركسى المرحوم الدكتور أحمد عبدالله رزة.

وقوع وحيد حامد فى أسر الكتابين المذكورين هو السبب الأساسى وراء كثرة الأخطاء التاريخية التى غص بها المسلسل. أما بقية قائمة الكتب والمصادر التى ظهرت يوميا فى نهاية تتر المسلسل، فالأرجح أن الأستاذ وحيد لم يستفد منها إلا بأقل القليل، بما فى ذلك كتابى المعنون «الفكر السياسى للإمام حسن البنا» وبقية الكتب والمذكرات التى ذيل بها حلقات المسلسل.

لا تكمن مشكلة وحيد حامد فقط فى أنه وقع أسير «رفعت السعيد»، و«عبدالعظيم رمضان»، وإنما وقع أيضا أسير رؤيته الأيديولوجية وهو يكتب مسلسلا دراميا تاريخيا. وكانت النتيجة أنه صور «الجماعة» على أنها «ضد» على طول الخط. لقد أظهر الجماعة ومؤسسها فى صورة «ضد» لكل شىء، حتى إنها صارت «ضد» ذاتها، وضد الإسلام، إضافة إلى ضديتها للمجتمع والدولة والقانون. وهذا غير معقول، ولا دليل عليه لا من وقائع التاريخ ولا من حقائق الواقع. فقط إنها لعنة «الأيديولوجيا» التى هى أعدى أعداء الدراما الناجحة، فهما ضدان لا يلتقيان: الأيديولوجيا تنتمى لعالم اليوتوبيا غير المتحقق، والدراما تنتمى لعالم الواقع الإنسانى المترع بالصراع بين الخير والشر، ولسنا نشك أن الأستاذ وحيد يعرف هذا الفرق جيدا.

وقد وجدت فى نفسى القوة والعزم على الكتابة حول ما قدمه المسلسل وما أثاره من جدل بعد أن انتهى عرض جزئه الأول فى شهر رمضان الماضى، وبعد أن استكملتُ مشاهدة بعض حلقات كانت فاتتنى، وبعد أن قرأت أغلب ما أثير حوله فى وسائل الإعلام والمدونات والمواقع الإلكترونية. ودفعنى للكتابة سببان:

السبب الأول هو أن الأستاذ وحيد حامد وضع عنوان كتابى «الفكر السياسى للإمام حسن البنا» ضمن قائمة طويلة من الكتب والمذكرات والبحوث التى من المفترض أنه قرأها، واستعان بها فى كتابة سيناريو هذا المسلسل. وبعد أن شاهدت المسلسل وجدت أن مضمونه لا صلة له بمضمون كتابى، وتساءلت: لماذا إذا وضعه فى قائمة مراجعه؟ هل فعل كما يفعل بعض طلابنا فى الدراسات العليا عندما يزينون رسائلهم للماجستير أو الدكتوراه بعناوين مراجع لم يطلعوا عليها، أو اطلعوا ولم يستفيدوا منها، ويضعونها فقط للإيهام بالجدية والموضوعية؟.

والسبب الثانى هو واجبى فى المشاركة فى أداء الأمانة العلمية باعتبارى باحثا أكاديميا، وأن أشارك فى تصويب بعض الأخطاء التى تناولها المسلسل، بشأن قضايا سبق أن أشبعتها بحثا، وقرأتها فى مصادرها الأولية، خاصة المقالات التى كتبها الشيخ نفسه (وإجمالى عددها 1030 مقالة منشورة فى ثمانى من الصحف والمجلات التى صدرت فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضى)، وكذلك رسائله ومذكراته والخطب والتسجيلات الصوتية وهى مجموعة ومنشورة، إلى جانب الوثائق الرسمية للجماعة من قوانين ولوائح تنظيمية، وسجلات ومحاضر اجتماعات ومؤتمرات دورية، ومحاضر تحقيقات رسمية فى قضايا مختلفة، وتقارير أجنبية محفوظة فى الأرشيف البريطانى المعروف اختصارا ب(F.O). هذا فضلا عن البحوث والدراسات الأكاديمية التى تناولت تاريخ الشيخ والجماعة فى تلك الفترة، بما فيها قائمة المراجع التى أوردها الأستاذ وحيد فى نهاية «تتر» المسلسل. وزيادة على كل ذلك، كان لى حظ فتح المكتبة الخاصة للشيخ حسن البنا أثناء إعداد دراستى الجامعية عنه سنة 1989 بعد أن ظلت مغلقة أربعين عاما متواصلة، وقمت بجرد محتوياتها، وتصنيفها تصنيفا عاما، وكتبت عنها دراسة وافية لم يقبل نشرها إلا المرحوم غالى شكرى رئيس تحرير مجلة «القاهرة»، والدراسة منشورة فى عددها الصادر فى ديسمبر سنة 1993(ص18 62).

الفكرة المركزية فى فن «الدراما» هى أن الخير والشر يتواجدان ويتصارعان فى النفس الإنسانية، وفى وقائع الحياة اليومية، وأنه لا دراما تقوم على الخير والنقاء فقط، ولا على الشر والفساد فقط، بل لابد من هذا وذاك باعتبار أن الدراما هى أعلى مراحل التحقق الإنسانى بخيره وشره فى الواقع الاجتماعى.

والهدف الأساسى للفن الدرامى هو اكتشاف الطريق إلى الحرية، ومن ثم فإن الدراما بمعناها الصحيح لابد أن تكون فى خدمة المجتمع. ولكن مشكلة وحيد حامد فى هذا المسلسل هى أنه وضع الدراما فى خدمة السياسة والصراع حول السلطة. مشكلته أنه حول الدراما إلى طريقة للتفكير بدلا من أن تكون وسيلة للعمل من أجل الحرية. وهنا بالضبط فقدت دراما «الجماعة» وظيفتها الفنية فى الدلالة على أنسب الطرق إلى الحرية.

الأستاذ وحيد أكد فى مقالاته وحواراته حول المسلسل أن الدراما لا تعنى «غسل» الشخصيات من الذنوب، ونحن نوافقه على ذلك تمام الموافقة، ونرى أن معه الحق كله فى قوله هذا. ولكن من الحق أيضا أن الدراما لا تبيح للدراماتست أن يضيف من عنده سيئات أو ذنوبا لم يرتكبها الشخص، ولا أن يحذف من حسناته ما يشاء. ووقائع المسلسل تؤكد أنه قد أضاف الكثير من السيئات إلى صحيفة حسن البنا، وإلى صحائف سيئات الجماعة، وحذف من حسناته وحسناتها الكثير أيضا، وهو ما سنبرهن عليه فى المقالات التالية إن شاء الله.

الشروق المصرية في

04/10/2010

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2010)