أمين صالح

كتب السينماجديد أمينجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة 

 

أمين صالح.. صديق الأمل

الأيام البحرينية

 

خاص بـ"سينماتك"

ملفات خاصة

أخبار ومحطات

سينماتك ملتيميديا

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

معمارية الصورة السينمائية

بقلم: مارك لي فانون        ترجمة: أمين صالح

 

     
  

مؤخرا صدرت الترجمة الانجليزية لكتاب المهندس المعماري الفنلندي يوهاني بالاسما بعنوان "معمارية الصورة: الفضاء الوجودي في السينما".

هنا يقدم مارك لي فانو عرضا للكتاب، نشر في مجلة Sight and Sonnd، في عدد مارس 2003.

السينما، كما يدرك اغلب المشاهدين، حتي الاقل امتلاكا للثقافة السينمائية، هي جوهريا شكل فني هجين: فهي من جهة دراما، ومن جهة اخري هي رسم، او علي الاقل قريبة من الرسم لاسباب تاريخية معقدة ذلك يتصل كثيرا بالتكوين الاجتماعي التقليدي للناقد السينمائي، فالكتابة عن السينما قد تحالفت عادة مع الدراما. ان معظم النقد السينمائي المعتاد سوف ينهمك في مسائل مثل البناء الدرامي، سيكولوجية الشخصيات، معقولية القصة.. وما شابه. النقاد في غالبيتهم لا يعرفون الا القليل عن التصور، والاقل عن تصميم المناظر.

احيانا يشعر المرء بان الغاية الفعلية للفيلم تكمن في صوره المجازية.. الغامضة والمركبة. الصورة توجد قبل الدراما، وربما حتي في تناقض معها. الصورة، في حد ذاتها، هي مفهوم غير ثابت فضفاض ويتيح المجال لتأويلات مختلفة. في هذا الكتاب، يتناول يوهاني بالاسما كلمة "الصورة" للاشارة ليس فقط الي الوجوه والاشياء علي الشاشة، انما ايضا الي الحيز المعماري الذي عبره تتحرك الشخصيات، والي المحيط الذي فيه تجد الاشياء (او الرموز) رنينها الآسر. ومن الامور الرئيسية التي يتناولها هذا الكتاب برهافة وبدقة مسألة كيفية تحول الشيء الي رمز.

بالاسما يتحاشي الشرك الذي يظهر غالبا في الكتابة عن الرمزية، الي حد ان معالجة الموضوع تصبح ببساطة تأويلية اكثر مما ينبغي. لكن نادرا ما يوجد، في فن مشوق ومثير للاهتمام، توافق بين الشيء المنظور اليه وحقيقة انسانية ما قابلة للتماثل. محتذيا حذو الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلاء، وجد بالاسما ان من المفيد اكثر ان يدرس الصور ضمن السياق السيكولوجي. في حالات ذهنية معينة غالبا ما تكون مرتبطة بمنطقة المخدر الواقعة بين النوم واليقظة، تنشأ الصور بملء ارادتها، وما هو اسر بشأن الصور ليس معناها بل عاطفيتها او السمة العاطفية البارزة. مثل هذه الاشياء "تضيئنا" كما قال ريلكة بطريقة رائعة ومريحة معا، حاملة ليس الكثير من الحقيقة لكن الكثير من الجمال الذي لا يدحض والغرابة.

بالاسما يستخدم الصور التوضيحية لدعم آرائه وتصوراته.. انه، كمثال، يحاول استنباط المصاهرة السرية التي يشعرها ستانلي كوبريك تجاه التقاليد الكلاسيكية والرومانتيكية معا في التفكير الاوروبي عن طريق مجاورة مقتطفات من الرسوم البيانية لقصة فيلم (The Shining) 1980، مع صور متناغمة علي نحو ملائم من اعمال الرسام جويا. ومع ان المرء يعلم ربما ان تاركوفسكي كان متأثرا بالرسم الايطالي، فان بالاسما يوضح عمق ومدي ذلك التأثير علي امتداد ثلاث صفحات حيث يربط بين صور من فيلم سنوستالجيا’’ (1983) واعمال دوشيو، فرا انجليكو، بوتيشيلي.. وبصورة متساوية مع المناظر الطبيعية الرومانتيكية لرسام القرن التاسع عشر الالماني كاسبار ديفيد فريدريك.

بالاسما مهندس معماري، وبؤرته الرئيسية مركزة علي الطريقة التي بها يستخدم المخرجون المكان والعمارة لبناء عالمهم الفني الخاص. انه يركز علي بضعة اسماء منتقاه لمخرجين مثل: هيتشكوك، تاركوفسكي، كوبرتك، انتونيوني... مخصصا فصلاً في الكتاب لكل من هذه الافلام: الحبل، النافذة الخلفية، نوستالجيا (The Shining) المسافر، ويكتب في مقدمته انه كان يود ان يوسع دراسته بحيث تشمل ايضا مخرجين مهمين آخرين مثل: اورسون ويلز، بيرجمان، الان رينيه، فلليني، بونويل. ويمكن للقائمة ان تتوسع اكثر لتضم نيكولاس راي وفريتز لانج اللذين درسا فن العمارة قبل ان يتحولا الي الاخراج السينمائي، وبوسع المرء ان يكتشف هذا من النظر الي افلامها.

من الطبيعي ان العمارة في السينما توجد في علاقة مختلفة مع الواقع عن العمارة الواقعية او الثلاثية الابعاد. من ناحية ما، هي مظهر كاذب تماما كما يتضح من زيارة اي موقع سينمائي. علي باحة الاستوديو، فقر الوهم يصبح جليا علي نحو يرثي له من وجهة نظر اي ملاحظ او راصد. مبان حجرية خادعة مركبة من الورق المقوي او الخشب المصنوع من طبقات رقيقة، الابواب لا تفضي الي اي مكان، في حين ان البنية التحتية مثل الغاز والكهرباء وانابيب المياه، المتوفرة في المباني الحقيقية، هي غير موجودة في المباني السينمائية. في السينما الاشياء تقترب من الزيف.. لكن هل ذلك يهم حقا؟

المهندس المعماري، بالاسما، الحائز علي جائزة، يؤمن بوضوح ان السينما لديها شيء نافع وثمين تقدمه الي مهنته، وليس العكس "فن العمارة اليوم قلما يدخل مملكة الشعر او يوقظ عالم المجاز اللاواعي".. هكذا يلاحظ بالاسيما. ونحن هنا لسنا بعيدين عن التأمل في التحليل النفسي الذي يعطي دلالة روحية للشكل والحجم واللون والبنية، حيث ان هذه الخاصيات تتصل بمبان من الارث الاوروبي. المرء لا يحتاج ان يكون متشائما لكي يقر بان العالم الحديث قد فقد شيئا من بساطته السلفية في هذه الامور، وان العمارة العصرية القائمة علي نطاق واسع، سواء في الضواحي او وسط المدينة، هي هشة، تعوزها القيمة او المتعة، مقارنة بما يمكن ان تكون وما كانت عليه في الماضي.

"الاشعاع الشعري المحض في الصور المعمارية عند تاركوفسكي يبرز اللغة المعاصرة للعمارة، التي هي احادية البعد فيما يتصل بمجال العواطف التي تستدعيها اللغة المجازية. العمارة العصرية تنزع الي ان تكون مشغولة بالمؤثرات البصرية، وهي تفتقر الي الطابع التراجيدي، المخزن، النوستالجي".

في الفصل المخصص لفيلم ’’نوستالجيا’’ يقول بالاسما ان "الصور التي تظهر عزف دومينيكو حيث المطر ينهمر من خلال السقف، مع مشاهد مماثلة في Staken ، وهي من بين الصور المعمارية الاكثر فتنة وسحرا في تاريخ السينما والتي لم يخلق مثلها في اي وقت مضي. انها تشع بالجمال المشهدي وبنقاء الشعور، وهي تمتلك حضورا كنسيا ، دينيا. هذه الامكنة لا يمكن ان تحمي الجسد الانساني، لكنها تستطيع علي الاقل ان تؤوي الروح".

الملاحظات هنا تتركز بوجه خاص علي فيلم "نوستالجيا" لكنها يمكن ان تنطبق تقريبا علي اي فيلم حققه تاركوفسكي. ففي فيلمه المتصل بالسيرة الذاتية "المرآة" شيد تاركوفسكي بعناية وباهتمام بالغ بتفاصيل البيت الريفي الذي كانت تسكنه العائلة، المطوق بخشب الصنوبر، والذي اقام فيه عندما كان طفلا مع امه واخته في سنوات الثلاثينات في اوج عهد الارهاب الستاليني. من اجل اعطاء الصورة مصداقية وموثوقة قصوي، استأجر تاركوفسكي الحقول المحيطة بالبيت قبل شهور من تصوير الفيلم وزرعها بالحنطة التي تتموج بشكل جميل وبهيج. ذلك الحقل يشكل خلفية لاجزاء رئيسية من الفيلم. وليس بوسع المرء ان يفكر في اي منزل في السينما كلها والذي يمنح احساس اعظم بفردوس الطفولة، ومعني ان ينشأ المرء في اقليم عزيز جدا، حيث بامكان المرء ان يشم المادة التي تصقل خزانة الاطباق القديمة. ثمة جرار واناء للزهور البرية علي عتبات النوافذ ثمة ستائر محزمة تخفق مع هبوب النسيم، وملاءات معلقة علي حبل الغسيل لتجف.

في افلام كوبريك وهيتشكوك يتناول المؤلف بناء الخوف والعزلة او الانسلاب، لكن الآسر والفاتن علي نحو لا يمكن انكاره. افلام مثل (The Shining) والناقذة الخلفية لا يمكن تأملها بدون النظر في فتنة المكان الذي فيه تتشكل القصة. المكان في كلا الفلمين، هو باروكي ومسرحي، مع ذلك نحن امام مستوي من التفاصيل والاحساس بواقعية وراء نطاق كل ما هو ممكن (او مرغوب فيه) علي خشبات مسرح تقليدي.

التفكير في هذه الامور يعيدنا الي عبقرية مصمم المناظر المنسي، ذلك المعماري الذي برغم ذلك، وحسب ما يقول بالاسما، قادر ان يعلم المعماريين الحقيقيين اشياء عن العاطفة والغني والتعقيد.. لكن كم عدد هؤلاء الفنانين الذين لا نعرف عنهم شيئا لا نعرف حتي اسماءهم؟

كتاب بالاسما هو في الواقع ليس الكتاب الاول عن تصميم المناظر لكنها الدراسة التي تعيدنا باستمرار الي الخيمياء الغامضة او التحول الخفي، بين المخرج والمصور والسينوغرافي، والذي هو - اكثر من اي عامل آخر - يجعل السينما شكلا فنيا مميزا.

حريدة الأيام في  22 يونيو 2003