أمين صالح

كتب السينماجديد أمينجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة 

 

أمين صالح.. صديق الأمل

الأيام البحرينية

 

خاص بـ"سينماتك"

ملفات خاصة

أخبار ومحطات

سينماتك ملتيميديا

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

أنجيلوبوليس يتحدث عن "تحديقة  يوليسيس"

محاطون بالجريمة هنا وهناك

(2 ـ 2)

ترجمة: أمين صالح

 

     
  

كونية المكان

# أظن أن أفلامي هي عن الرحلات التي نقوم بها جميعاً في أي مكان في العالم. المشكلة هي كونية: عدم امتلاك مكان، بيت، وطن خاص بنا. إني أؤمن بهذا بقوة فيما يتصل بأي فيلم أو كتاب أو عمل فني. لو قرأت، كمثال، رواية توماس مان »الجبل السحري«، لا أستطيع أن أقول، هذا وضع أو حالة ألمانية محضة. فمن كتاب توماس مان أتعلم شيئاً عن نفسي، عن كل الناس. الشيء ذاته  أشعره تجاه أفلامي. ذلك هو دور الفن، وأنا أشعر بأنه كلما مضى المرء عميقاً نحو مكانه الخاص، صار هذا المكان كونياً أكثر بالنسبة للآخرين.

ما لا أحبه من الأفلام هو ذلك الفيلم الذي يحاول امتاع أو إرضاء كل شخص بالقليل من كل شيء، لكن ينتهي به الأمر إلى أن لا يقول شيئاً على وجه الخصوص. إن أفلام الغرب الأمريكي (الويسترن) التي يحققها جون فورد هي جزء من أمريكا والغرب، لكن صوته الجلي والمتميز يخاطب كل شخص وفي كل مكان، وذلك من خلال المناظر الطبيعية والشخصيات.

# المشكلات في دول البلقان معقدة بصورة خاصة لأنها تعود إلى سنوات طويلة عندما خضعت القبائل السلافية العديدة لحكم الامبراطورية العثمانية في القرن الرابع عشر. لم تكن هناك حدود في الامبراطورية. لكن كانت هناك حروب كثيرة، ليس بسبب النزاع العرقي بل من أجل الاستيلاء على الأرض ومن أجل الطعام. بعد ذلك، ومع انتقال اجزاء من الاقليم من الأتراك المسلمين إلى الامبراطورية النمساوية - الهنغارية التي كانت كاثوليكية، ومع انتشار أفكار الثورة الفرنسية، فإن الشعوب - من يونانيين وصرب وبلغاريين وغيرهم - والذين كانوا يشكلون خليطاً من الأجناس، راحت تتعارك فميا بينها لأسباب دينية وعرقية. إذن هي قصة قديمة جداً. وبالطبع، في سراييفو بدأت الحرب العالمية الأولى. ومع أن أماكن عديدة شهدت الدمار أكثر من سراييفو إلا أنها أصبحت مكاناً رمزياً.. اسطورياً تقريباً.

تحت الحصار

# من السهل تفسير اهتمامي بالسياسة وبالوضع في دول البلقان. أنظر إلى تاريخ هذا القرن وسوف تلاحظ بأن الحادثة الهامة الأولى وقعت في سراييفو (والتي أشعلت الحرب العالمية). والآن، فيما نقترب من نهاية القرن، نكون مرة أخرى في سراييفو. هذا يبرهن إلى أي مدى نحن أخفقنا جميعاً. بالعيش في البلقان، من الطبيعي أن أكون أكثر قرباً من الأحداث وأكثر اهتماماً من سائر أوروبا. أردت أن أصور في سراييفو لكنني لم أستطع. كنا جميعاً مستعدين للذهاب غير أن الطائرة التي سبقتنا عادت بسبب تجدّد القصف هناك. لقد بذلنا الكثير من الجهد لإظهار فكرة سراييفو على الشاشة، فكرة الحرب الدائرة في مدينة تحت الحصار. أعتقد أن فكرة سراييفو هي أكثر أهمية من تصوير المشهد نفسه هناك. في أحيان كثيرة، تكون في الموقع الصحيح لكن روح ذلك الموقع تكون مفقودة. لقد صورنا في مدينتين دمرتهما الحرب، موستار وفوكوفار، وكلتاهما كانتا ضحية المأساة نفسها. في البوسنة صورنا مرتين عوضاً عن مواقع كرواتية.

# لخلق سراييفو في السديم، استخدمنا حظيرة طائرات ضخمة في مطار بلغراد. وقد وضعنا بداخلها كل شيء، من الأشجار إلى الثلج إلى الطرقات. ومع خبير من فرنسا وآخر من اليونان، خلقنا سديماً اصطناعياً. لكنها كانت تجربة صعبة لأن المواد الكيميائية في السديم أزعجت الممثلين الذين تعيّن عليهم أن يسيروا واضعين أقنعة قطنية على أفواههم وأنوفهم كما في المستشفى أو في هيروشيما بعد القنبلة. لم يكن ذلك سهلاً تماماً.

# أعتقد أن شيئاً استثنائياً وغير اعتيادي يحدث في الموقع، في المكان الحقيقي. وأنا لا أعني هنا فقط المقدرة على تصوير الديكور أو المنظر الطبيعي. الأكثر من ذلك هو انني عندما أكون في المو قع فإنني أهيئ الفيلم وكل حواسي الخمس تعمل. أصير أكثر ادراكاً، بالتالي أشعر أنني أعيش التجارب التي أريد أن أصورها.

# في أحد المشاهد يقول سائق التاكسي للمخرج عندما تتوقف السيارة في ألبانيا بسبب الثلج: »نحن اليونانيين جنس بشري يحتضر«. إنها كلمات قوية وصادمة بالنسبة لليونانيين، لكنها تعني ما هو أكثر. ذات مرة حضرت مؤتمراً في باريس. وهناك اقتربت مني شابة يونانية تحضر لرسالة دكتوراه في السوربون وقالت لي »نحن اليونانيين اللذين نعيش في الخارج، في أوروبا، نشعر بأزمة هوية هائلة. إننا نشعر بالخجل أحياناً لكوننا يونانيين بسبب كل تلك المشكلات التي تحدث مع الألبان، مع الاقتصاد والسوق المشتركة، ومع قضية سكوبيا. نحن لم نعد واثقين مما يعنيه أن نكون يوناييين«. إن ملاحظتها جعلتني أتذكر كم كان الأمر مختلفاً بالنسبة لي ولجيلي عندما وصلت باريس في ٠٦٩١. كنا وقتذاك نشعر بالفخر والزهو كلما قلنا »نحن يونانيون«. كان لهذا معنى ما. أما هذه الشابة فتقول: »نحن أشبه بأفراد يحتضرون«.. وكأنها تردد ما قاله الشاعر سيفيريس وما سوف يقوله سائق التاكسي في فيلمي. في الواقع، قبل أن أكتب السيناريو، استقليت سيارة أجرة من فلورينا، تماماً مثل رحلة هارفي في الفيلم، وذهبنا إلى ألبانيا.

فجأة بدأ الثلج في التساقط، فسألت السائق إذا كان يحتاج الى وضع سلاسل على العجلات غير انه اجاب: لا تقلق، انا والثلج يفهم احدنا الآخر وفي الفيلم يقول السائق الجملة ذاتها: لخمس وعشرين سنة، كنار - انا والثلج - نتحدث الى بعضنا البعض كلما طلب مني الثلج ان اتوقف، توقفت«.

# الناس يحتاجون الى حس او وعي جديد بالمجتمع، بالسياسة، بالمعتقدات النعوت القديمة - يسار، يمين، شيوعي، اشتراكي، الخ - كلها قد انتهت انا لا اعرف ما الذي سيحدث الآن لكن عهداً جديداً قد بدأ الحدود، المواقف، العلاقات، الامم. كلها سوف تتغير.

# عندما اتصلت هاتفياً بالممثل هارفي كايتل، واتفقنا على اللقاء في نيويورك، كان وقتذاك قد سمع عني لكنه لم يشاهد ايا من افلامي غير ان مارتن سكور سيزي وغيره من مخرجي نيويورك كلموه عني، ومع ذلك كان لايزال لديه بعض المخاوف لقد ادرك بأن العمل في الفيلم قرار صعب، ذلك لان الفترة التي سوف يستغرقها العمل معي من الممكن ان يستغلها في العمل في ثلاثة افلام هناك علاوة على ذلك، فقد كنت صادقا وصريحاً معه لقد اخبرته بانه سوف يعمل ساعات طويلة في منتصف اللامكان، وسوف يصادف اوقاتا عصيبة معي لكنه قال: »لا مشكلة، لقد تدربت في البحرية«. وعندما شاهد فيلمي »منظر في السديم«، قبل ان يعلن موافقته على المشاركة، اثرى اعجابه الشديد بالفيلم وجاء الى اليونان لبدء رحلة تحقيق الفيلم.. لقد جاء حاملاً معه نسخة من اوديسة هوميروس، وعدداً من الكتب عن الاوديسة.

# هارفي كايتل تدرب في ستوديو الممثلين، والذي هو ليس مدرسة بل طائفة دينية وكان يحتاج الى الكثير من الوقت للتحضير وتهيئة نفسه انه يختلف عن مارسيلو ماستروياني الذي كان يقول لي: »انا طفل، اسرد لي قصة، قل لي ما يتعين علي فعله وسوف افعله لك«. لم يكن يهتم كثيراً بشأن المنهج وطرائقه اما كايتل فقد كان هو المنهج مجسداً كان يحتاج الى تعامل مختلف جلسنا نتناقش ثم راح يهيئ نفسه، ومثل هذا التحضير استغرق ساعات. في الموقع كان يحتاج الى وقت ليخلق مناخاً عاطفيا داخل ذاته.. وهي طريقة ستاينلافسكي التي يكرهها ما ستروياني.

كنا بصدد تصوير المشهد الختامي الذي يدور في مبنى السينماتيك الذي لحق به الدمار، وكنا نهيئ الاضاءة عندما قال لي هارفي: امهلني دقيقة.. احتاج الي شيء شخصي فسألته: »ماذا تريد؟«. اجاب: شيئاً من فترة شبابي.. اغنية لفرانك سيناترا كنا وقتذاك نصور في بلدة صغيرة قرب اثينا، ولم يكن بامكاننا الحصول على الاسطوانة التي طلبها هناك مع ذلك، بعثنا شخصاً بالسيارة ليجلبها حصلنا على الاغنية، ولا اذكر اية اغنية وجلسنا جميعاً نصغي اليها في الموقع فجأة بدأ هارفي - الذي كان قد انزوى في ركن ينشج ويبكي مثل طفل، متذكراً امه التي ماتت وهو شاب بعد حين،عاد واعلن انه يستعد لكن عندما صورنا اللقطة الاولى، اكتشفنا انه برد الكثير من الانفعال فيما كان يحضر للمشهد الى حد الاستنزاف عندئذ قلت له بأننا لا نستطيع ان نعمل هكذا، لقد جربنا طريقتك والآن سوف نجرب طريقتي ثم طلبت من الجميع مغادرة الموقع دون استثناء، حتى هارفي ومرافقيه من السكرتير الشخصي الى الموجه الرياضي لم ينبس هارفي بحرف بل خرج مع الآخرين، وبقيت وحدي في الموقع وشرعت في تشغيل موسيقى الفيلم رافعاً الصوت الى مداه ليسمعها الآخرون وعندما انتهت المقطوعة، سمحت لهم بالعودة عاد هارفي غاضباً جداً وشتمني وصاح في قائلا من تظن نفسك؟ اتظن نفسك الها؟ انت لا تحترم الممثلين اقترب مني اكثر متابعاً شتائمه في انفعال وظننت انه سوف يضربني كان ينتظر في رد فعل ما لكنني لم أتزحزح ولم اتفاعل على الاطلاق بعد ان هدأ، سألته في هدوء شديد: هارفي هل انت مستعد الآن؟ اعتقد انه كان يحتاج الى تلك الصدمة، فقد نفذ اللقطة على الفور وبشكل مقنع بعدها اقترب مني وقال: انت عظيم يا رجل.

# كان لدى هارفي الكثير من الاسئلة بشأن شخصية وأول سؤال وجهه لي كان« »هذا الامريكي اليوناني الذي يسافر الى كل مكان، من اين له المال لتغطية نفقات السفر؟«. هارفي ذو ذهنية عملية، وقد واجهتنا صعوبات عديدة في الايام الاولى لكننا تجاوزنا وذلك عندما بدأ في فهم وتقدير المشروع.

# لقد تعلمنا امورا كثيرة اثناء تصوير هذا الفيلم الذي استغرق تنفيذه وقتا طويلاً جداً، وغطى مناطق اكثر مما قد تظن عند مشاهدتك للفيلم، اعتقد ان اي شخص يدعي بان لديه شيئاً ليقوله بشأن دول البلقان لابد، قبل كل شيء، ان يقوم برحلة طويلة وشاملة عبر هذه المساحة الكبيرة، وينبغي ان يعرف شعوب المنطقة ثمة قصيدة تقول: »كلما عرفت احببت اكثر، كلما احببت عرفت اكثر.. انا لا ازعم تحليل الوضع، اني اعرض فحسب مشاعري الخاصة ومشاعر الشخصيات في الفيلم.

# بالنسبة لي، اسلوبي وسيلة لمحاولة استيعاب المكان والزمن، بحيث يصبع المكان انتقالا للزمن كمثال، هناك مشهد في الفيلم يدور في غرفة واحدة، لكن ليس في زمن حقيقي، بل في زمن يستغرق خمس سنوات.. خمس سنوات من تاريخ عائلة واحدة، من رومانيا، من اوروبا، من معسكرات الاعتقال الى الستالينية.. تمر اثناء موسيقى فالس قصير.

في السينما ثمة خوف من »الزمن الميت«، الزمن الساكن.. اذ بسرعة يتم قطع اللقطات  عندما لا يكون هناك حدث كاف.

# كل انواع الافلام متاحة للناس كي يشاهدها ، لكن لا وجود للأفلام التي تظهر بصدق ما يحدث من حولنا، خصوصا في هذا الجزء من اوروبا ان جانباً مما ارغب في عرضه هو ان حياة كل فرد - اخطاره، اعماله، حتى حالاته العاطفية الحميمية، كل شيء - يتأثر بهذه المشكلات الرهيبة التي نواجهها والتي هي اكبر منا. نحن مكيفون بما هو منتشر »في الجو« من حولنا واني ارغب في الامساك بشيء من الانقباضية والسوداوية التي نشعرها اليوم ونحن محاطون بالجريمة هنا وهناك، وبالكوارث عموماً.

# اليوم هو زمن صعب جدا للفنانين من اي صنف، وللكتاب ايضاً في دول البلقان لا احد يريد ان يصغي، لا احد، والفن، الفن الحقيقي، يحتاج الى الاصغاء. اذن، في غمرة كل ذلك، ماذا استطيع ان افعل؟ ببساطة، استطيع ان احقق افلاماً لأولئك الذين يحملون تقديراً لأعمالي.

حريدة الأيام في 13 فبراير 2004