يُعد كيم كي - دوك من أهم المخرجين المعاصرين
في كوريا الجنوبية، وقد حقق عدداً من الأفلام المتميزة مثل:
الجزيرة »٠٠٠٢«
شخص سيء »٢٠٠٢«. خفر السواحل (٢٠٠٢)
وقد نال فيلمه الأخير »فتاة
من سامره« »٤٠٠٢« على الجائزة الثانية في مهرجان برلين.
وهذا المخرج،
وقد بلغ الثالثة والأربعين من العمر، لم
يعد ذلك الشاب الغاضب في السينما
الكورية، كما كان يسمى لما تتسم به أعماله من غضب وعنف،
لقد جاء من خلفية
عمالية، وبدأ مسيرته الفنية كرسام ثم اتجه الى السينما، دون ان
يدرسها في
معهد ما، وحقق أول أفلامه في العام ٦٩٩١.
فيلمه ما قبل الأخير »الربيع،
الصيف، الخريف، الشتاء.. والربيع«، الذي نحن بصدد الحديث
عنه والذي تولى كتابته ومونتاجه، هو انتاج كوري - الماني
٣٠٠٢، يدور هذا
الفيلم، المدهش بصرياً، في معبد بوذي
عائم على بحيرة، في موقع منعزل
تحيط به الجبال،
حيث نتتبع التربية التي يتلقاها تابع او مريد صغير من الطفولة
الى الشيخوخة على يد راهب عجوز حكيم.
الفيلم ينقسم الى خمسة اجزاء تعبر عن
المراحل العمرية التي يمر بها المريد وما تصادفه من أحداث،
وكل جزء يدور في
فصل معين.
في الربيع نرى الطفل يعذب -بدافع التسلية-
سمكة ثم ضفدعة
ثم ثعباناً وذلك بتقييد كل كائن بحصاة ثقيلة تبطئ حركته، الراهب العجوز
يعاقب
الطفل على فعلته بربط حصاة ثقيلة على ظهره -مثلما فعل مع تلك الكائنات-
بحيث
يجعله ثقيل الحركة ويحذره بانه سوف يحمل دائماً
مثل هذا العبء في
قلبه.
في الصيف نرى الطفل وقد صار مراهقاً، امرأة تأتي
مع ابنتها،
الفتاة الشابة لقضاء فترة النقاهة، تتطور العلاقة بين المراهق والفتاة الى علاقة
عاطفية مشبوهة يكشف امرها المعلم العجوز فيطلب من الفتاة ان
تغادر لأنها تماثلت
للشفاء، أما المراهق الحزين والغاضب فيذهب خلفها لأنه لا
يستطيع ان يعيش
بدونها.
في الخريف يعود المريد وقد صار رجلاً في الثلاثين من عمره بعد
ان قتل تلك الفتاة التي
تزوجها واكتشف خيانتها له، يحاول الانتحار لكن معلمه
العجوز يساعده في
قهر يأسه بجعله ينقش مجموعة من حكم ومحاورات بوذا، يصل
شرطيان لاعتقاله لكن العجوز
يقنعهما بأن يمنحاه وقتاً لإنهاء
المهمة.
الشتاء، الراهب العجوز الذي يعيش وحده، ينتحر،
المريد بعد ان
امضى في السجن فترة الحكم، يعود وقد بلغ الاربعين من العمر
»يؤدي هذا
الدور المخرج نفسه« ويشرع في تجديد المعبد المهجور، امرأة ملثمة الوجه تأتي
ومعها طفل رضيع،
تتركه وتهم بالمغادرة الا انها تسقط في المياه المتجمدة
وتموت غرقاً.
الربيع، المريد، وقد صار راهباً عجوزاً، يقوم بتربية
الطفل تماماً مثلما تربى هو،
التكوينات البصرية الأخاذة ذات الحس التشكيلي
المرهف، ذات الحساسية الشعرية العالية، والاشارات الى الصوفية البوذية،
من
ابرز السمات والخاصيات الجمالية والفكرية لهذا الفيلم الآسر،
الطبيعة هنا تقدم
كائناتها وعناصرها بأكثر الأشكال فتنة، والكاميرا تبرزها برهافة وحب:
البحيرة،
المياه، الثلوج، الأشجار، الصخور، التلال، الجبال، الطبيعة في
مظهرها المسالم والمتعاطف حيث تبدو مشعة ومتألقة، وفي
مظهرها الآخر،
المناقض، حيث تبدو عدائية ومهددة، أما الشخصيات المعزولة،
البعيدة عن مظاهر
الحضارة العصرية، فتلتمس الهدوء والأمان لتتأمل وتتحدد بالطبيعة وبالكون،
غير
ان البواعث والغرائز الحيوانية، التي لا
يمكن ترويضها، داخل النفس البشرية
ربما فيها النوازع والطاقات التدميرية لدى الاطفال او عنف البراءة فإنها
تنبحبس مع
حضور اول محرض او مستفز لها، لتعلن عن نفسها على الرغم من القيم التربوية
والدينية.
في حديث للمخرج عن الفيلم »مجلة
Sight and sound، عدد
يونيو ٤٠٠٢«،
يقول:
طوال حياتي علمت ان بداخلي لايزال ثمة
غضب وتمرد، ولهذا السبب حققت هذا الفيلم، انه جزء مني
ومن الصيرورة،
الاحساس بالغضب لا يفارقني، انه
يتوارى ليعود ثانية، غير انني توصلت الى
فهم هذا الاحساس وقبوله، ان تحقيق الفيلم هو اشبه بمهمة حمل التمثال الى
أعلى
الجبل والتي يقوم بها الراهب في
النهاية، انه الشيء الذي يتعين عليك فعله
فحسب.
بدأت من السؤال الجوهري: ما هو الانسان؟..
الانسان هو
الطبيعة، والطبيعة تدل عليها الفصول الاربعة، والتي
هي بمثابة الصدى لحياة
الكائن البشري من الولادة الى الموت.
اردت ان اعبر عن ذلك من خلال السينما
بمقارنة الفصول المختلفة بالتغيرات والتحولات التي تعتري الصبي فيما هو
ينمو ويكبر، الفيلم لا يتحدث عن نموي كصانع فيلم بقدر ما هو عن نموي
ككائن
بشري، عن وجعي وسعادتي، مع انه لا ينبغي ان يكون عن كائن معين، كل
شخص يميز ويدرك اشياء عن نفسه في هذا الصبي
بينما يكبر.
لاينبغي
للمتفرج ان يشاهد هذا الفيلم بوصفه لغزاً كورياً
او فيلماً شامانياً (دين بدائي)
او بوذياً.. انه أكثر كونية. لو نظرت الى الفيلم عن كثب لرأيت
انه أكثر من مجرد شخصيات.
عناصر مثل الشجرة تنشأ من المياه ولها ذات الشأن والثقل
كما الاشخاص. المياه التي
تحيط بالمعبد ذات معنى لكل شخص، لذا فإن المعبد لا
يطفو في منتصف اللامكان بل أنه في
قلب لندن او سيئول.
الطفل يتصرف
بقسوة تجاه الضفدعة والحية والسمكة، مسبباً
موت مخلوقين لكنه لا يعرف ان
ذلك خطيئة. لقد اردت ممثلاً صغيرا ذا براءة بالغة الى حد انه لا
يدرك بانه
يمارس اثماً او امراً خاطئا. في الوقت نفسه، ينبغي ان تظهر ضحكته
احساسا بالقسوة والوحشية، وهو جزء هام في
الطبيعة البشرية.
المعلم
العجوز، قبل انتحاره، يغطي عينيه و اذنيه وفمه باوراق كتب عليها كلمة واحدة:
مغلق. قبل ان
يحدث هذا، هو يوبخ المريد الشاب الذي حاول الانتحار لان
ليس له الحق في قتل نفسه بينها هو - المعلم
- قادر ان يفعل ذلك. بطريقة
ما، ربما لا يكون المعلم العجوز كائناً بشريا.. قد
يكون ذلك الذي
يراقبك، العين الرائية. قد يكون سماوياً،
والذي يفهم كل ما يحدث في
عقل الشاب، ويعرف ما يكونه الانسان. هو حتى قادر ان
يكون تمثال بوذا
الحجري الذي يحمله المريد ويصعد به الى الجبل ليضعه في
قمته حيث يطل على
العالم، حيث يرى الجميع ويفهم الجميع.
لقد حاولنا ألا نؤذي أياً
من الحيوانات أثناء تحقيق الفيلم. كنا محظوظين،
فقد اعتقدنا ان الثعبان قد مات
لكن اتضح ان السمكة هي التي ماتت،
وهذا سبّب لي الكثير من الألم. لابد
ان يكون هناك على الدوام كائنان في المعبد،
وليس بالضرورة ان يكونا بشريين
فإذا غاب احد الراهبين حل مكانه حيوان ما مع الراهب الآخر. إنه عن التناغم..
مثل الليل والنهار. ولا يمكنك ان
تحرز التناغم مع كائن واحد فقط. من وجهة
نظر بوذية، بوسع الحيوانات ايضاً
ان تتناسخ وتتقمص اشكالا جديدة متمثلة حياة
اخرى في المستقبل، كما
يحدث للمعلم العجوز، فعندما يحرق نفسه، يظهر
الثعبان.
هذا الفيلم يمكن تأويله بعدة طرق مختلفة من قبل أفراد ذوي خلفيات
اجتماعية وثقافية مختلفة.
الجنس شيء هام جداً. الجنس فعل خلاق منه
يتخلق الكائن البشري،
بالتالي هو سماوي، مقدس.. لكن في الوقت نفسه، هو
اللذة التي تحمل الكثير من الخطيئة والتي تفضي
الى الجريمة. ان صور
العاشقين وهما يمارسان الحب بين الصخور هي صورة لطيفة ورقيقة لكنها تؤدي
الى
الهلاك لأن الجنس هنا موظف من اجل المتعة وحدها.. مع اننا لا نستطيع ان نقول بأن
هذا خطأ. من جهة اخرى، فقد اردت ان اعبر هنا عن براءة ونقاوة ممارسة الحب
في
احضان الطبيعة.
اخترت ان اقوم بتأدية دور الراهب في طور الرجولة لانني
لم
اجد ممثلاً آخر يتلاءم مع الدور لقد جاءت لحظة اردت فيها ان اكون مثل
السمكة،
اردت ان افهم وجع الثعبان والضفدعة لكنني
لست ممثلا، لذا فإن قسم الخريف من
الفيلم ذو عنصر وثائقي حيث اردت ان اختبر ذلك الالم،
الوثائقية تسجل محاولة
شخص يكابد الالم الحقيقي، بينما الدراما هي مجرد تظاهر،
محاكاة.
استغرق تصرير الفيلم عاما كاملا وذلك لنتمكن من اسر كل فصل يمكن
اعتبار الفيلم شبه وثائقي، ذلك لأنني بدأت العمل بخمس صفحات فقط من المعالجة
الموجزة، بعد ذلك - وعبر التأمل والتفكير - تكونت لدي الفكرة فباشرت
بالتصوير.. المنتجون والمستثمرون طلبوا قراءة سيناريو
كامل لكنني وجدت بأن ذلك
سوف يحبس الاشياء في قفص او اطار محدد.. بالنسبة لي
وللممثلين، في حين
انني اردت تجاوز ذلك. مجموع الايام التي
صورناها بلغ ٢٢ يوما على مدى عام
اثناء الربيع والصيف والخريف كنا نذهب الى المعبد بواسطة القوارب، اما في
الشتاء فقد كان بإمكاننا السير الى هناك، فالثلج كان سميكاً
جدا. وعندما
احتجنا الى هطول الثلج، استجابت الطبيعة بسخاء لقد شعرت ان الطبيعة الى
جابني،
منحازة اليّ: الطقس،
المياه، الحيوانات.
حريدة الأيام
في 23 يناير 2004