أمين صالح

كتب السينماجديد أمينجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة 

 

أمين صالح.. صديق الأمل

الأيام البحرينية

 

خاص بـ"سينماتك"

ملفات خاصة

أخبار ومحطات

سينماتك ملتيميديا

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

المبنى الروسي:

فتحت عيني ولم أر شيئاً

ترجمة: أمين صالح

 

     
  

معروف عن المخرج الروسي الكسندر سوكوروف أن أفلامه متجردة من المقومات التقليدية للسينما، سواء في السرد أو التشخيص وحتى اللغة أحياناً حيث لحظات الصمت تنتشر بوفرة. في المقابل ثمة ثراء بصري في اللون والضوء والصورة.. ان أفلامه تعنى مشكلاً جديداً في السينما الروحانية ـ ان صحت التسمية ـ حيث تمزج عناصر من الجمالية البصرية والتأمل والصوفية ضمن وسائل متقشفة. إن أفلامه جادة، صعبة، وتقتضي من المتفرج تركيزاً وصبراً.

سوكورف (المولود في 1951) درس التاريخ في جامعة قريبة من مدينته جوركي. وبعد تخرجه، عمل في محطة تلفزيون محلية. في 1973 إلتحق بمعهد السينما في موسكو. وقد أهدى فيلمه الدرامي الأول »الصوت الوحيد للرجل« (1978) ـ والذي منع من العرض عشر سنوات ـ إلى المخرج العظيم أندريه تاركوفسكي، والذي عنه حقق سوكوروف بعد عشر سنوات فيلماً وثائقياً بعنوان »مرئية روسية«.

من أفلامه: أيام الخسوف (1988)، الصفحات الهامة (1993)، الدائرة الثانية (1990) الأم والابن (1997).. أما فيلمه »المبنى الروسي« (2002) Russian Ark ـ الذي نحن بصدده ـ فقد احتاج إلى أكثر من أربع سنوات لتمويله وتنظيمه ثم تنفيذه، وتطلب إنجازه الاستعانة بحوالي ألفين من الممثلين والمجاميع مع أزيائهم التاريخية المتنوعة، إضافة إلى الاوركسترا التي أمضت سبعة أشهر في التدريب.

يبدأ الفيلم بشاشة مظلمة ونسمع صوت رجل يقول: »فتحت عيني ولم أرشيئاً«. هذا الرجل هو راوي الفيلم، والذي يحمل صوت المخرج (سوكورف) نفسه، لكنه مجهول الاسم والهوية.. فنحن لا نراه طوال الفيلم فيما تحل الكاميرا محله ممثلة رؤيته أو وجهة نظره. وتعرف أنه تعرض لحادث (غامض) ما. وهو يجد نفسه في القرن التاسع عشر عند مبنى هرميتاج الشهير في سان بطرسبرغ.

ومتحف هرميتاج ـ الذي يشير إليه العنوان ـ هو مجمع من المباني شيدت قبل 300 سنة عندما قرر القيصر بطرس الأكبر أن يخلق مدينة بارزة وهامة على البلطيق سماها سان بطرسبرغ، وأن يبني قصر الشتاء هناك. بعد سنوات، وتحديداً في العام 1764، أمرت الملكة كاثرين الكبرى بإضافة مبان جديدة لاحتواء الأعمال الفنية العظيمة التي جمعها أسلافها، ذلك لأنها كانت منفتحة على التأثيرات الخارجية وهي نفسها كانت مولودة في ألمانيا. وهرمتياج يعد من أضخم المتاحف وأكثرها جمالاً.

وعندما يدخل المبنى يصادف رجلاً يرتدى ملابس سوداء ويتضح فيما بعد أنه المركيز دي كوستين (1790 - 1857) الدبلوماسي والرحالة الفرنسي الذي ألف في 1839 كتاباً بعنوان »رسائل من روسيا« أثار ضجة آنذاك ومنع عدة مرات قبل وبعد ثورة أكتوبر 1917، وفيه سجل يومياته وانطباعاته عن الحياة الروسية وعن الفترة التي أمضاها هناك، حيث تتسم علاقته بروسيا بالحب والكراهية معاً.

الفرنسي سرعان ما يصير دليل الراوي إلى المتحف حيث يقوده عبر أروقة وممرات وغرف المتحف الحافلة بالحركة والموسيقى، وحيث يتفرجان على روائع اللوحات العالمية، وفي كل مكان يلتقيان بشخصيات بارزة تنتمي إلى مراحل مختلفة من التاريخ الروسي بدءاً من القرن السابع عشر فصاعداً، وهي تنبثق من التاريخ بكل ألقها وبهائها وأزيائها الفاخرة وبزاتها ومجوهراتها وفرائها وريشها، دون أن تعرف ـ على وجه اليقين ـ من أي عصر جاءت. إنها تظهر على نحو عابر وسريع وضمن حالات معينة أو أحداث عرضية وانتقائية غير تراجيدية بالضرورة بل قد تبدو عادية جداً، والشخصيات ـ وبعضها متخيلة ـ تبدو وكأنها أطياف، أشباح، سريعة الزوال.. تظهر لتختفي: بطرس الأكبر يجلد جنرالاً، الملكة كاثرين تشاهد بروفة ثم ضاحكة تبحث عن مرحاض، بوشكين يهبط على السلام مغادراً قاعة الرقص، القيصر يستقبل وفداً من البلاط الإيراني في طقوس مضجرة، عائلة آخر قياصرة روسيا حول المائدة، رجل يهيء التوابيت لضحايا حصار ليننفراد في الحرب العالمية الثانية.

والاثنان يتريثان برهة ليتأملا لوحات فإن دايك وروبنز ورمبرانت وإلى جريكو وغيرها من اللوحات العظيمة، أو يدخلان قاعات الرقص الفخمة. وهذه الجولة تتعرض باستمرار لتدخلات الآخرين من الحراس أو المشرفين حيث يتم طرد الزائرين من المكان أو ابعادهما على نحو مهدني.

الفيلم ينتهي في 1913 (أي عشية الحرب العالمية الأولى)، وهو العام الذي شهد إغلاق السلطة القيصرية قاعات الرقص، حيث نجد أنفسنا في قاعة رقص فسيحة تضم العشرات من الراقصين والعازفين، والكاميرا التي تتحرك برشاقة وفي تناغم مدهش مع وبين الراقصين لعشر دقائق تقريباً، لا ترصد أو تسجل فحسب بل تشارك.. بعد ذلك نتابع الكاميرا خروج مئات المدعوين أو الضيوف من المبنى في مشهد آسر.

الفيلم عبارة عن رحلة غريبة، مكثفة جداً، يقوم بها اثنان: الراوي اللامرئي، الراصد الهادئ، الذي يستجوب دليله وأحياناً يثيره ويغيظه. والمركيز (الدليل) الذي يتسم بروح دعابة، بتهور ونزق أحياناً، وبحس استبصاري أيضاً. وهما، فيما يعبران من خلال أروقة ومجرات المبنى، وعبر مراحل من التاريخ الروسي، يتحدثان طوال الوقت عن روسيا ومصيرها، عن السياسة والتاريخ والثقافة، عن العمارة والفن، عن التقاليد والأساليب، عن الأزياء، والشعائر، وعن انجازات البشرية. إن كل ما يشاهدانه هو اسقاط لمخيلتهما. وكلاهما يكشف عن تحيزه الخاص فيما يتبادلان الرأي والمعرفة، والتهكم أيضاً.. التهكم حتى على الذات.

الفيلم مصور في لقطة واحدة طويلة، وبكاميرا فيديو ديجيتال متطورة تقنياً. وهذا يحدث للمرة الأولى في تاريخ السينما: أن يتألف فيلم ما من لقطة واحدة متواصلة، دون قطع، ولمدة تسعين دقيقة تقريباً.. أو كما يقول سوكوروف في إحدى مقابلاته، بأنه أراد من الفيلم أن يبسط موضوعه في نفس واحد.

أما المصور الألماني تيلمان بوتنر فيشرح الأمر قائلاً:

»في الحقيقة، أنا اقترحت استخدام كاميرا سوني HD 246. وباستخدام هذه الكاميرا تستطيع أن تضبط الإضاءة لخلق مظهر للفيلم إذا اشتغلت على التباينات بين الظل والضوء. أخبرت سوكوروف بأنها التقنية المناسبة للمشروع، ويمكن نقله فيما بعد إلى فيلم. وهي أفضل بكثير من كاميرا 16 ملي أو كاميرا أخرى«.

وكما قال المنتج الألماني فإن هذا الفيلم هو »ثمرة التزاوج بين التقنية الألمانية والجمالية الروسية«.

إن هذه اللقطة المفردة تتضمن حركة كاميرا متواصلة حيث الحركات الاستعراضية (البان) الدائرية والحركات المصاحبة، أو تلك التي تقترب وتبتعد أو تتوقف لفترة قصيرة أو طويلة نسبياً، أو تلك التي تحوم وترقص وتمر وتحاذي وتتراجع وتتقدم.

ومع أن هذا الإنجاز التقني وحده يجعل من الفيلم حدثاً هاماً وعلامة مميزة، إلا أن قيمة وروعة وجدة العمل تكمن في مواضع أخرى. بالأحرى، سكوروف غير مهتم بفصل التقنية عن الغرض الفني، وهو يرفض النظر إلى فيلمه بوصفه عملاً تجريبياً، ويقول: عندما تجرب فإنك لا تكون واثقاً من النتيجة. لكن إذا كنت انفق أموال أناس آخرين فلابد أن أكون واثقاً ومتأكداً من النتيجة«.

إن سوكوروف لا يركز في أحاديثه على الخاصيات الشكلية للفيلم بل على الموضوع والمجاز. حتى أنه لا يتعمد أن يجعل المتفرج يعي بأن الفيلم مصور في لقطة واحدة.

الفيلم، في أحد مظاهره، عبارة عن جولة ثقافية. إن سوكوروف يأخذ المتفرج في رحلة عبر المتحف (هرميتاج)، وفي المكان والزمان معاً. الرحلة المكانية متواصلة من ساحة المتحف وعبر الأروقة والقاعات. أما الرحلة الزمنية فتأخذ المتفرج برشاقة وسلاسة إلى الأمام وإلى الوراء من خلال تشكيلة من المراحل الزمنية، بدءاً في القرن الثامن عشر، لكن دون انتظام أو تسلسل زمني، إذ يتداخل الحاضر والماضي.

والفيلم ـ في الواقع ـ ليس جولة سياحية داخل المتحف، ولا هو درس في التاريخ الروسي. إنه عن النوستالجيا والفقد. إن ما يجده سوكوروف في الماضي هي تلك التفاصيل المضيئة للثقافة والسلوك واللغة. وهو يؤكد على الإنجازات الاستثنائية التي حققتها التقاليد الفنية الأوروبية، والتي حافظت عليها الذائقة الروسية الرفيعة. إن الفيلم، في الأخير، يستنطق دور الفن والتاريخ في الحياة الروسية.

عمل باهر ومدهش، يتسم بالفخامة والسحر.. هو أقرب إلى منطق الحلم.

حريدة الأيام في 14 نوفمبر 2004