أمين صالح

كتب السينماجديد أمينجريدة الأيامجريدة الوطنالقديم.. الجديدملفات خاصة 

 

أمين صالح.. صديق الأمل

الأيام البحرينية

 

خاص بـ"سينماتك"

ملفات خاصة

أخبار ومحطات

سينماتك ملتيميديا

إبحث في سينماتك

إحصائيات استخدام الموقع

 

 

الزمن في السينما

كتابة: أندريه تاركوفسكي     ترجمة: أمين صالح

 

     
  

الزمن هو شرط لوجود »الأنا« لدى كل إنسان، إنه أشبه بالوسيط الثقافي الذي يتعرض للتدمير حين لا تعود هناك حاجة اليه، وحالما تكون الروابط صارمة بين الهوية الفردية وشروط الوجود.

الزمن ضروري للإنسان فمن خلاله قد يكون قادراً على إدراك نفسه كشخصية لكنني لا أفكر في الزمن الطولي، أعني إمكانية إنجاز شيء ما، واجتراح فعلٍ ما. الفعل هو نتيجة، لكن الذي آخذه بعين الاعتبار هو السبب الذي يجعل الانسان يتجسد في حس أخلاقي.

التاريخ ليس هو الزمن ولا هو النشوء.. كلاهما نتائج. الزمن حالة: إنه اللهب الذي فيه يعيش سمندر النفس البشرية.

الزمن والذاكرة يندمجان في بعضهما البعض. إنهما أشبه بوجهي العملة. وواضح تماماً أنه بدون الزمن، الذاكرة أيضاَ لا يمكن أن توجد. لكن الذاكرة شيء معقد جداً الى حد أن أي بيان بخاصياتها وصفاتها المميزة لا يمكن أن يحدّد مجموع الانطباعات التي من خلالها تؤثر فينا الذاكرة.

الذاكرة مفهوم روحي. على سبيل المثال، لو أخبرنا شخص ما عن انطباعاته بشأن الطفولة، فإننا نستطيع ان نقول بثقة أنه ستكون لدينا مادة وافية لتكوين صورة كاملة عن ذلك الشخص. أما المحروم من الذاكرة فيصبح سجين وجود وهمي أو خادع. وبوقوعه خارج الزمن يكون عاجزاً عن فهم صلته الخاصة بالعالم الخارجي.. وبتعبير آخر، يكون محكوماً عليه بالجنون. بوصفه كائناً أخلاقياً، الإنسان موهوب بذاكرة تثير فيه الإحساس بالاستياء وعدم الرضا. إنها تجعلنا سريعي التأثر، وعرضة للألم.

عندما يدرس الباحثون والنقاد الزمن، كما يبدو في الأدب أو الموسيقى أو الرسم، فإنهم يتحدثون عن طرائق تسجيله. في دراسة جويس أبروست، على سبيل المثال، سوف يستنطقون التقنيات الجمالية للوجود في استعادةٍ للأعمال الفنية، والطريقة التي يدون بها الفرد الذي يتذكر تجربته، سوف يدرسون الأشكال المستخدمة في الفن لإعطاء الزمن شكلاً ثابتاً، في حين أنني مهتم هنا بالخاصيات الباطنية، المعنوية، المتأصلة جوهرياً في الزمن نفسه.

الزمن الذي يعيش فيه المرء يمنحه الفرصة لمعرفة نفسه ككائن أخلاقي، مشغول بالبحث عن الحقيقة. مع ذلك فإن هذه المنحة الموضوعية بين يديه هي مبهجة ومريرة في آن. والحياة ليست أكثر من المدة المخصصة له، والتي فيها هو لابد أن يكيّف روحه وفقاً لفهمه الخاص لهدف الوجود الإنساني. والضمير الإنساني يعتمد على الزمن في وجوده.

يقال إن الزمن غير قابل للإلغاء. وهذا صحيح تماماً اذا كان يتصل بالماضي، بمعنى أنك لا تسطيع أن تعيد الماضي.. لكن ما هو هذا »الماضي« بالضبط؟ هل هو ما قد مضى؟ وما الذي يعنيه »مضى« للشخص حين يكون الماضي، بالنسبة لكل واحد منا، هو الحامل لكل ما هو مستمر في واقع الحاضر، لكل لحظة جارية؟.
بهذا المعنى، الماضي أكثر حقيقة، أكثر رسوخاً واستقراراً، أكثر مرونة من الحاضر.

الحاضر ينزلق ويتلاشى كالرمل بين الأصابع، محرزاً ثقلاً مادياً فقط في تذكره. إن خواتم الملك سليمان كانت تحمل هذا الكلام المنقوش »الكل سوف يمضي«. بالتباين مع هذا، أريد أن أوجه الانتباه الى كيفية ارتداد الزمن وعودته الى الوراء. لا يمكن للزمن أن يزول بلا أثر، نظراً لأنه مفهوم ذاتي، روحي. والزمن عشناه يستقر في روحنا كتجربة موضوعة داخل الزمن.

في السينما، وللمرة الأولى في تاريخ الفنون، في تاريخ الثقافة، وجد الإنسان وسيلة للإمساك بالزمن وطبعه. وعلى نحو متزامن، إمكانية نسخ ذلك الزمن على الشاشة قدر ما يشاء المرء.. أن يكرره ويعود اليه مرة أخرى. لقد اكتسب الإنسان منبتاً للزمن الفعلي. بعد رؤية الزمن وتسجيله، صار بالإمكان الاحتفاظ به في علب معدنية لفترة طويلة (إلى الأبد.. نظرياً).

في أي شكل تطبع السينما الزمن؟ دعونا نحدد الزمن بوصفه »واقعياً« الواقعة يمكن أن تتألف من حدثٍ ما أو شخص يتحرك أو أي شيء مادي. وعلاوة على ذلك، فإن الشيء يمكن عرضه بوصفه ساكناً وغير متحول، بقدر ما يوجد ذلك الثبات والجمود ضمن المجرى الفعلي للزمن.

إن فعالية السينما تكمن في أنها تستولي على الزمن كاملاً مع ذلك الواقع المادي الذي إليه الزمن مقيد على نحو سرمدي، لا فكاك منه، والذي يطوقنا يوماً بعد يوم، ساعة بعد ساعة. الزمن، المطبوع في أشكاله وتجلياته الواقعية: تلك هي الفكرة الأسمى للسينما بوصفها فناً، والتي تقودنا الى التفكير في ثراء الموارد في الفيلم.

الصورة السينمائية هي أساساً رصد لوقائع الحياة داخل الزمن. وهي منظمة وفقاً لنمط الحياة نفسها، وراصدة لقوانين الزمن فيها. الرصد هو انتقائي: نحن نترك على الفيلم فقط ما هو مبرر بوصفه مكملاً للصورة. وهذا لا يعني أن الصورة السينمائية يمكن أن تكون منقسمة ومجزأة ضد طبيعتها الزمنية، فالزمن الجاري لا يمكن أن يكون منزوعاً عنها، والصورة تصبح سينمائية على نحو حقيقي ليس فقط عندما تعيش ضمن الزمن، لكن أيضاً عندما يعيش الزمن داخلها.. بل حتى ضمن كل كادر منفصل.

أحد الشروط الملزمة والثابتة للسينما هو أن الأفعال على الشاشة ينبغي أن تتجلى وتتنامى على نحو متاعقب بصرف النظر عن واقع كونها تحدث على نحو متزامن أو ارتجاعي عند استعادة الأحداث الماضية. من أجل ان تعرض حدثين أو أكثر بوصفها متزامنة أو متوازية، يتعين عليك بالضرورة أن تظهرها حدثاً بعد الآخر، وينبغي أن تكون في مونتاج متتابع.

ليس ثمة طريقة أخرى. الفرد، ببساطة تامة، غير مؤهل وغير قادر على مشاهدة عدة أفعال وأحداث في وقت واحد.. إن ذلك وراء متناول بنيته الفيسيولوجية والنفسية.

السينما نشأت كوسيلة لتسجيل حركة الواقع نفسها.. الحقيقة، المحددة، داخل الزمن.. وكوسيلة لإعادة إنتاج اللحظة المرة تلو الأخرى في تحولها المرن والرشيق. تلك اللحظة التي بواسطتها نجد أنفسنا قادرين على إحراز السيطرة عن طريق طبع اللحظة على الفيلم. ذلك هو ما يحدد وسط السينما. إن مفهوم المبدع يصبح شهادة إنسانية، حية، تسطيع أن تثير وتأسر الجمهور فقط عندما نكون قادرين على غمرها في تيار الواقع المتدفق الذي نحاول تثبيته بإحكام في كل لحظة مادية وملموسة نرسمها أو نصورها.. الوحيدة والفريدة في البنية كما في الشعور، وإلاّ فإن الفيلم يكون محكوماً عليه بالإخفاق.. سوف يموت قبل أن يولد.

حريدة الأيام في 13 يونيو 2004